3
في أيّ رواية، نادرًا ما يوجد مستدعي أرواح.
فالقليل فقط يولدون بقدرة عالية على التوافق مع الطبيعة، وأقلّ منهم من يستطيع أن يعقد عقدًا مع روحٍ عليا.
ولهذا، ليس من السهل على الشركات التجارية، أو النقابات، أو حتى العائلة الإمبراطورية نفسها، أن تستقطبَ مستدعي أرواحٍ مائية.
قيمتُهم مرتفعة، ودخلهم وفير، وذلك يجعلهم متكبّرين.
تأمّلتُ بخفة الأرواحَ الخمسة الواقفين أمامي في صفٍّ واحد. كانت ملابسهم رثّة على نحو لا يليق بسمعتهم.
‘همف، عديمو النفع حقًا.’
ومن الطريف أنّ مستدعي الأرواح أنفسهم بحاجةٍ إلى المال.
فما فائدةُ التعاقد مع روحٍ إن كنتَ لا تملك ما تُطعمها به؟
لتغذية الروح، لا بدّ أن تُقدَّم لها معادن نادرة باهظة الثمن ثلاث مرّات في اليوم.
وطبعًا، هذا سرٌّ لا يعرفه سوى مستدعي الأرواح أنفسهم.
قال أحدهم، وكان طويل القامة وشَعرُه بلون الماء، ناظرًا إليّ بثقةٍ زائدة:
“ما هي الشروط التي تقترحها شركة غراهام التجارية؟.”
لم تكن تلك نبرة شخصٍ جاء ليُجري مقابلة عمل.
ابتسمتُ بهدوء وقلت:
“تفضّلوا بالجلوس أولًا.”
ثم أشرتُ إلى المقاعد الموضوعة أمامهم. جلس صاحب الشعر المائي بتردّد، وسرعان ما تبعه الآخرون.
قال بنبرة متعالية:
“إن لم تتناسب الشروط مع ما نريده، فلن نُبرم أي عقد.”
وهزّ الآخرون رؤوسهم موافقين.
يبدو أنّ صاحب الشعر المائي هو ممثّلهم.
“وإن لم تكن عروضكم أفضل من العروض التي تلقّيناها من الشركات الأخرى، فسنغادر فورًا.”
يا للجرأة، إنها تُذكّرني بجرأة يوريا نفسها. لكنّها ستتوقّف هنا.
“حسنًا، أخبرني يا مستدعي الأرواح كوني، كم طنًّا من الماء تستطيع استخراجَه في اليوم الواحد؟.”
“ماذا؟!.”
تجمّد كوني مذهولًا، وقد اختفى وجهه المتعجرف تمامًا.
تابعتُ بنبرة ثابتة.
“كمية المياه التي تستطيع استخراجها يوميًا هي ما ستُحدّد شروط العقد.”
“لم أسألكِ عمّا تريدين منّا! بل عن شروط شركة غراهام التجارية!.”
وانفجر الآخرون بالاعتراض دفعة واحدة.
“كيف تتجرّئين على مخاطبة مستدعي أرواحٍ مائية بهذه الوقاحة!.”
“هذا تصرّف غير مقبول من شركة غراهام!.”
“هل تظنّين أننا سنبقى هنا؟!.”
أحدهم كان بالفعل يهمّ بالمغادرة.
أمسكتُ قلم الريشة بهدوء وأجبتُ بنبرة باردة.
“أنتم من دخلتم غرفة المقابلة بلا أدبٍ ولا احترام، لذا لستُ مضطرة لأن أكون ألطف منكم. الآن، أجيبوني: كم طنًّا تستطيعون استخراجَه في اليوم الواحد؟.”
فتحتُ الدرج وسحبتُ منه حجرًا سحريًا بلون البحر بحجم قبضتي، ووضعته على المكتب.
تجمّدت أعينهم جميعًا عليه، حتى الذي كان على وشك الخروج توقّف مكانه مشدوهًا.
ابتسمتُ بخفة.
“بهذا الحجر السحري من نوع هودور، ستُسرّ الروح أوندين كثيرًا، أليس كذلك؟ آه، وإن تغذّت الأرواح نيكس ونيك عليه، فستصبح أقوى بأضعاف.”
أغمضتُ عينيّ للحظة برمشين متعمّدين.
صرخ كوني مدهوشًا:
“كيف… كيف عرفتِ ذلك؟!.”
“كيف تعرفين سرّنا؟!.”
“أهو حقًا حجر هودور؟ يا إلهي، إن نيكس لا يأكل سوى الأحجار السحرية العادية كل يوم!.”
“لكن أحجار هودور اختفت من السوق منذ أكثر من عشرين عامًا! هذا غير معقول!.”
اشتعلت أعينهم بالطمع.
في الحقيقة، كانت شركة غراهام تتاجر بالأحجار السحرية والمعادن النفيسة منذ ما قبل ولادة يوريا.
وعندما طلبتُ من جوزيف تفحّص المخزون القديم، وجد أنّ البارون غراهام كان قد خزن كمياتٍ هائلة من الأحجار، بينها عدد كبير من أحجار هودور النادرة.
‘يبدو أن والدي اشتراها حين كانت الأسعار منخفضة…’
ولهذا استطعتُ الحصول عليها بسعرٍ زهيد نسبيًا من خلال الشركة.
“سأقدّم حجر هودور واحدًا في كل شهر ولمدة عامٍ كامل لثلاثة مستدعيي أرواح يوقّعون على عقد التوظيف هذا. وكلّ ما عليكم فعله هو تأمين الماء في ساحة المعركة لشهرٍ واحد.”
ساد صمتٌ غريب بيني وبينهم.
كان الأمر صادمًا بلا شك.
استخدام مستدعيي الأرواح لتأمين المياه في الحرب فكرة جريئة وغير مألوفة.
في جبال بيرن، حيث يخوض الدوق زافيار المعارك، كانت الجيوش تعاني من نقصٍ حاد في المياه.
ومع ذلك، استطاع ذلك الدوق الوحش، كما يسمّونه، أن ينتصر رغم تلك الظروف القاسية.
صحيحٌ أنّه سينتصر سواء ساعدتُه أم لا، لكن هذه كانت فرصتي الوحيدة للتقرّب منه.
فقط… من أجل البقاء.
عليّ أن أجعل هذه الصفقة تنجح.
دحرجتُ حجر هودور على الطاولة أمامهم.
“وسأمنح هديةً إضافيةً خاصة لأول من يوقّع العقد. الأسبَق يحظى بالأفضل.”
ارتسمت على وجهي ابتسامة خفيفة.
لم يكن بوسعهم الرفض.
صرخ كوني أولًا وعو يرفع يده.
“روحي هي أوندين!.”
ابتسمتُ. اللعبة انتهت.
“إذن، كم طنًّا في اليوم؟.”
“عشرة أطنان ممكنة!.”
“أحسنت، لا عجب أنك متغطرس بعض الشيء. مقبول.”
“هل حقًا ستُعطين هذا الحجر الثمين؟.”
“بالطبع.”
وما إن أومأتُ حتى ضمّ كوني الحجر إلى صدره، وقد اغرورقت عيناه بالدموع.
“شكرًا لكِ، سيدتي! سأعمل بجدّ!.”
أما البقية، الذين وقفوا مذهولين أمام حماسه، فقد سارعوا واحدًا تلو الآخر إلى التطوّع.
“سبعة أطنان! أنا أيضًا!.”
“ثمانية! أستطيع ثمانية!.”
وهكذا، نجحتُ في توظيف ثلاثة من أفضل مستدعي الأرواح المائية.
وعندما صعدتُ إلى العربة العائلية التي أعدّها جوزيف، لم يتوقف عن الإطراء حتى جفّ حلقه.
“آنستي، هذا مذهل حقًا! لقد استطعتِ توظيف ثلاثة من أكثر مستدعي الأرواح تعنّتًا في البلاد!.”
“والآخران سينضمان إلى الشركة أيضًا.”
فإضافة إلى الثلاثة المكلّفين بالذهاب إلى ساحة المعركة، ضممتُ الاثنين الباقيين إلى الشركة نفسها.
نصرٌ كامل من جميع الجهات.
“حقًا؟!.”
“لكن عليك أن تكتب التقرير جيدًا وترسله إلى والدي في الحال. أيمكنك إنهاؤه بحلول صباح الغد؟.”
“بالطبع، آنستي.”
“فهناك أمور يصعب قولها مباشرة… أليس كذلك؟.”
أشرق وجه جوزيف بابتسامة فخورة وقال بثقة:
“لا تقلقي!.”
استغرق الأمر شهرين كاملين لأحوّل نظرته إليّ من ازدراءٍ إلى إعجاب.
راقبتُه من نافذة العربة وهو ينحني احترامًا، ثم طرقتُ الزجاج إشارةً للسائق بالتحرّك.
كنت أعلم أن جوزيف سيُبلّغ والدي بكل تفاصيل نجاحي بدقّة.
لقد أنجزتُ كلّ ما يلزم، ولم يتبقَّ سوى إقناع والديّ.
قال السائق بصوتٍ أجشّ من الأمام:
“إلى المنزل يا آنسة؟.”
“إلى ساحة التدريب أولًا، ثم إلى المنزل.”
‘آه، ما أرهقني اليوم.’
إن رُفعت راية الموت اليوم، فسأستلقي في السرير غدًا حتى الظهيرة آكلةً حلوى الماكرون.
حين عدتُ إلى القصر، كان المساء قد حلّ.
كنتُ مرهقة، لكن لم يكن أمامي سوى التمرين لتحسين لياقة يوريا الضعيفة.
‘في كوريا، كنتُ أجري ثلاثين دورة حول المضمار بسهولة، تسك!.’
وما إن وطئتُ عتبة القصر حتى هرعت نحوي الخادمة مايا، وهي تقول بقلق:
“آنستي! لِمَ تأخّرتِ؟ ألم تكوني في الشركة التجارية؟.”
“بلى.”
“وهل ذهبتِ مجددًا إلى ساحة التدريب؟ لمَ تُصرّين على ذلك رغم أنّه يُتلف يديكِ؟ ماذا لو أُصبْتِ بأذى؟!.”
كانت نظراتها المفعمة بالقلق تذكّرني بأنّها نشأت معي منذ الصغر، وقد سمعتُ أنّها كانت تصارح يوريا حتى حين كانت تتلقى الصفعات على ذلك.
قلتُ بابتسامة مطمئنة:
“سأضع كريمًا على يديّ وأنتبه، لا تقلقي. أودّ أن أستحمّ أولًا.”
“حسنًا، آنستي.”
تنفّست مايا بعمق، أخذت معطفي، وتبعتني بصمت.
وبعد أن اغتسلتُ في الماء الدافئ الذي أعدّته لي، ارتميتُ على السرير.
‘آه… ما أروع هذا الشعور.’
كانت البطانية الناعمة تحيط بجسدي بخفةٍ حتى بدأت أجفُل من النعاس. وبينما أستسلم ببطء للنوم، سمعتُ باب الحمّام يُغلق وصوت خطواتٍ خفيفةٍ تقترب.
كانت مايا طبعًا، غير قادرة على كبت رغبتها في الحديث.
“لكن آنستي، لماذا كلّ يومٍ…”
فتحتُ نصف عينيّ بكسلٍ وتمتمتُ:
“تسألين لمَ كنتُ أتمرّن في ساحة التدريب، أليس كذلك؟.”
“نعم! تمامًا!.”
قالت بحماسة، وقد أضاءت عيناها البنيّتان فرحًا.
“وكيف عرفتِ أن هذا ما كنتُ سأقوله؟.”
“أممم… لأنّه مكتوب على وجهك.”
“آه…”
“إنني أُقوّي جسدي… سأحتاج إلى هذه اللياقة قريبًا.”
“تحتاجينها؟ لأيّ غرض؟ أيمكن أن… تستخدميها بعد الزواج؟.”
واحمرّ وجهها حتى الأذنين. وحدّقتُ بها بصرامة.
“مايا!.”
“آه، آنستي، بالطبع، يجدر بكِ أن تنامي الآن! عليّ أخذ الملابس إلى المغسلة!.”
واختفت مسرعة تحمل الملابس، تاركةً الباب مفتوحًا خلفها.
حقًا، لا تناسب هذا العصر أبدًا.
راقبتها وهي تبتعد، ثم استسلمتُ لثقل جفوني ونمتُ أخيرًا، وفي قلبي أمنية صامتة.
سمعتُ صوت الباب يُغلق، وارتسمت على شفتي مايا الصغيرة ابتسامةٌ رقيقة وهي تمسك بالمقبض.
خرجت إلى الممرّ تحمل الغسيل، فإذا بالخادمات اللواتي كنّ يختبئن يهرعن نحوها.
“مايا! هل صرختِ عليكِ الآنسة مجددًا؟ هل صفعتك؟.”
سألتها إحداهنّ بفضولٍ وقلق.
“لا شيء من ذلك. لكن ماذا تفعلن هنا بدلًا من البقاء في غُرفكنّ؟.”
تبادلت الأخريات النظرات ثم قالت إحداهن متكهّنة:
“آه، لا بدّ أنّ لقاء التوفيق فشل اليوم؟ لهذا كانت الآنسة غاضبة، أليس كذلك؟.”
‘وقحات… كيف يتجرّأن على التحدث عن آنستي هكذا!.’
عضّت مايا شفتها واقتربت منهن قائلة بنبرة حازمة:
“ذلك لأنّ من تقدّموا اليوم كانوا غرباء لا يليقون بها! آنستنا أفضل منهم جميعًا. ثم أنتنّ…”
“ماذا الان…؟.”
“توقفنّ عن الثرثرة عن آنستنا من خلف ظهرها، مفهوم؟.”
اتّسعت أعينهن دهشةً من نبرتها الجادة.
قالت إحداهن متردّدة:
“لكن يا مايا، ألا تذكرين أنّها كانت تصفعنا منذ شهرين فقط؟.”
“صحيح، أنا تلقيت صفعتين منها.”
ساد صمتٌ وجيز، تبادلن خلاله النظرات، قبل أن تقول مايا بثقةٍ وهي تحدق فيهنّ واحدةً تلو الاخرى:
“الآنسة تغيّرت. ما زالت عنيدة، نعم، لكنها لم تعد تؤذي أحدًا.”
“صحيح… أصبحت تُلقي علينا التحية حين تمرّ في الممرّ.”
“وأنا سكبتُ الشاي على الأرض ولم تصرخ في وجهي.”
ابتسمت مايا ابتسامة صغيرة وقالت:
“أرأيتن؟ عُدن الآن إلى غرفكنّ وارتحن.”
ومضت بخطى سريعة تحمل الغسيل، تاركةً الخادمات مذهولاتٍ خلفها.
وبينما كانت تمشي في الممرّ الطويل، تمتمت بسعادة.
“آنستنا تجتهد كثيرًا هذه الأيام… لقد نضجت فعلًا.”
ارتسمت على وجهها ابتسامة مطمئنة وهي تجهل تمامًا الأمنية التي كانت سيدتها قد همست بها قبل أن تغفو.
‘إن تخلّصتُ من الدوق… فلن أضطرّ إلى العمل بعد الآن.’
Chapters
Comments
- 4 - أريد الذهاب إلى الدوق منذ يومين
- 3 - الأسبَق يحظى بالأفضل منذ يومين
- 2 - سأغيّر هذه الحكاية البائسة. منذ يومين
- 1 - لا بأس أن أكون سيّدة تافهة. 2025-10-04
التعليقات لهذا الفصل " 3"