2
كنتُ في الأصل “لي جو-هي”، فتاةً في الثالثة والعشرين من العمر.
عشتُ تحت وطأة الإهانات والتمييز من زوجة أبي وأختي غير الشقيقة. منذ أيام المدرسة الثانوية وأنا أعمل في شتى الوظائف الجزئية لأجل إعالتي. فبدل أن أصبح بارعة في كل شيء، انتهى بي الأمر مجرّد “عاملة لأجل كل شيء”.
وذات يوم، بينما كنتُ أعيش كآلة صرّاف آلي وأضحوكة في أيدي تلك المرأتين، جاءني اتصال عشية زفاف أختي غير الشقيقة…
“هي، لا تأتِ إلى زفافي. أتحبين أن تُعلني أمام الناس أنّ أمّي تزوّجت ثانية؟.”
كان صوتها عبر الهاتف باردًا كالجليد.
فأجبتها بصوت متهدّج.
“ولِمَ لا أستطيع الحضور إلى زفافكِ؟ أنا… أنا أيضًا من العائلة…”
وما كدتُ أتمّ كلمتي حتى دوّى صوت زوجة أبي من بعيد.
“أيّ جنون جعل هذه الفتاة تظن أنها مدعوّة أصلًا؟. ألا يكفيكِ أن أمّكِ قالت ذلك؟.”
ثم انقطع الخط.
“آه…”
بكيتُ بصمت، وأنا مستلقية على السرير في شقة الشركة المظلمة. رغبتُ أن أغفو فأهرب من ذلك الإحساس، لكن كلما أغمضتُ عيني ازداد وعيي وضوحًا.
تمدّدتُ على الفراش وأخرجت هاتفي أقرأ بعض الروايات على الإنترنت. كان ذلك التسلّي الوحيد الذي أملكه قبل أن أخرج لأعمل سواقة بديلة في الليل.
“هاه؟! عمل المؤلفة الأول قد نُشر هنا؟.”
«رجال القدّيسة روزيتا»… أولى روايات كاتبتي المفضّلة.
رواية كنت أتوق لقراءتها منذ زمن، لكنها كانت قد نُفدت من الأسواق. صحيح أنّ هناك إعلانًا عن إعادة نشرها، لكن بعد أشهر قليلة وصل الخبر أن الكاتبة دخلت في غيبوبة بسبب حادث شاحنة. أحدث ذلك ضجّة كبيرة بين المعجبين.
ومع ذلك، ها هو العمل الأصلي قد ظهر على المنصّة، إلى جانب النسخة المعاد صياغتها والتي لم تكتمل.
“حسنًا، سأبدأ بالنسخة الأصلية أولًا!.”
كان الأمر غريبًا، لكنّي غمرتني فرحة عارمة، فاشتريت الجزئين على الفور وشرعتُ أقرأ.
لقد امتازت «رجال القدّيسة روزيتا» بموضوع فريد:
عالم “أنصاف الوحوش”.
كائنات ملعونة لا تستطيع الحفاظ على هيئتها البشرية من دون قوى المعبد المقدّسة، فتضطر للعيش بنصف صورة إنسان ونصف صورة وحش، بآذان أو ذيول.
وكان وطنهم “مُويراي”، حيث يعيشون أحيانًا كبشر وأحيانًا كوحوش. يتجاور هذا الوطن مع الإمبراطورية البشرية “بريلانت”.
في الماضي، طمعت الإمبراطورية في موارد “مويراي” الثرية، وبعد محاولات لا تحصى نجحت في غزوها. لكنها انسحبت حين تفشّى فيها لعنة غامضة. ومنذ ذلك الحين، صارت الغارات الصغيرة بين “مويراي” والإمبراطورية حربًا متكرّرة عبر أجيال.
في ظل هذا السياق، تظهر البطلة روزيتا في ساحة برج الساعة.
إذ تطاردها أنصاف الوحوش المقيمون سرًّا في الإمبراطورية. وبينما هي تهرع للنجاة، ينقذها ولي العهد صدفة، وهناك تستيقظ بقدرات “قدّيسة”.
وبعدها، في وليمة النصر التي أقامتها العائلة الإمبراطورية، يدخل ولي العهد إلى القاعة وهو يرافق القدّيسة روزيتا. وهنا تبدأ المشكلة.
إذ يقع زافيار، الرجل الثاني في القصة، في حب روزيتا من النظرة الأولى.
‘أوه! مثلث حب؟ يبدو الأمر مشوّقًا!.’
لكن آمالي الوردية سرعان ما تحطّمت كلّما اقتربتُ من النهاية.
فحين تزوّجت روزيتا من ولي العهد، فقد زافيار صوابه وأطلق ثورةً عارمة، بتحالف مع مملكة الوحوش.
والنتيجة؟ قُتل جميع الشخصيات الثانوية، بمن فيهم زافيار نفسه. ولم ينجُ سوى البطلين الرئيسيين.
‘أيّ عبث هذا؟ مأساة تتنكّر بثوب الرومانسية!.’
حياتي بائسة، والقصّة التي أهرب إليها بائسة بدورها؟.
برمي الهاتف غاضبة على الأرض، ارتطم تحت السرير.
“آه! ماذا لو جاءني اتصال للعمل كسائقة بديلة؟ هذا خطير… هاه؟.”
هممتُ ألتقط الهاتف، لكن فجأة جال بخاطري.
هل ما زلتُ أفكّر في كسب المال حتى الآن؟ على الرغم من أنّهم لا يعترفون بي كابنة مهما جلبتُ لهم من نقود؟.
‘اللعنة على المال! ما نفعه إن كنت أستنزف حياتي لأجل الآخرين؟.’
في مثل هذه اللحظات، أتذكّر وجه أمّي التي رحلت عن المنزل، وجهًا لم أعد أستطيع استحضاره بوضوح. أما أبي، فرغم قسوته، كان على الأقل محتملاً حين كان على قيد الحياة.
‘لم أعُد أريد العيش هكذا… أريد أن أتوقف عن العمل، أريد حياة بلا قلق مالي… أريد حضن والدين دافئين، أريد تربية حيوانات، أريد حبًّا لم أعرفه قط… تعبتُ من هذه الحياة البائسة.’
انهمرت دموعي التي كنتُ أحبسها. بكيت حتى هدأ جسدي، ثم غلبني النوم على أرض الغرفة.
وفجأة، همس صوت في أذني:
“إذن… جرّبي أن تُغيّريها.”
وغصتُ في نومٍ عميق.
حين فتحتُ عيني، وجدت نفسي داخل رواية!.
استيقظتُ هذه المرة لا من أجل شيء إلا لأن الجوع ينهشني.
‘جائعة…؟.’
رأيتُ أمامي زوجين أوروبيي الملامح، يغمر وجهيهما الدموع، وإلى جوارهما خادمة متورّمة العينين من شدّة البكاء. كان الزوجان يرتديان أزياء فخمة من طراز كلاسيكي.
“يوريا، هل أنتِ بخير؟.”
“آه! ابنتي العزيزة!.”
اندفع الاثنان نحوي يعانقاني بحرارة.
“هاه؟!.”
أنا؟ من أنتما أصلاً؟ أبي قد مات، وأمّي هجرتني… فمن هؤلاء؟.
راحا يمسحان وجهي، ويشدانني إلى صدريهما، ويكرّران اسمي!.
“ما الذي تقولانه؟ لا أفهم شيئًا!.”
“كيف تجوعين نفسكِ أسبوعًا كاملاً من أجل حبّ من طرف واحد؟ يا لكِ من حمقاء!.”
“ظننتُ أنّكِ ستموتين يا يوريا!.”
يوريا؟ من يتحدثان عنها؟ وزواج؟.
“زواج؟!”
“أتنسين؟ لقد انهرتِ لأنكِ أصررتِ على الزواج من الدوق زافيار أوغست، الرجل الذي لا تستطيعين العيش بدونه.”
الدوق زافيار أوغست؟!.
مع سماع اسمه كاملًا، عادت ذاكرتي تعمل.
إنه الشرير الأكبر في الرواية «رجال القدّيسة روزيتا». واحد من القلائل الذين يحملون لقب “سيّد السيف”، رجل لا يواجهه أحد.
في النص الأصلي، حين يبدأ زافيار تمرّده ويزحف إلى العاصمة، يدمّر منطقة “بينز” التي يحكمها والد يوريا.
ولِمَ؟.
لأن “بينز” تقع على طريق العاصمة وتشكل منطقة فاصلة بين الإمبراطورية ومملكة الوحوش.
البارون دوغلاس غراهام، والد يوريا، رفض أن يخون بلاده ويفتح الطريق، فقتله زافيار بيده. وفي المشهد نفسه، تُقطع رقبة يوريا ووالدتها كذلك.
كان ظهورهم في الرواية لا يتعدى سطرين، لكنه كان مرعبًا بما يكفي ليُطبع في ذاكرتي.
شعرتُ بقشعريرة في عنقي ولم أتمالك نفسي، رفعتُ يدي أتحسّس رقبتي.
‘هل ما زالت في مكانها؟!.’
حين أيقنتُ أنّها لم تُقطع، شهقتُ من فرط الارتياح ثم قبضتُ يدي بقوّة.
الآن، وبعد شهرين من تجسّدي في هذا الجسد، أصبح هدفي الأول واضحًا:
عليّ أن أقطع شريط الموت المعلّق فوق رأسي!.
فلو ارتبط زافيار بالبطلة روزيتا، فلن يبدأ الثورة، أليس كذلك؟ حينها ستنجو “بينز” ولن يُقتل البارون وعائلته.
إذن الحل: أن أربط الدوق بالبطلة.
“مشروع جسر الحب بين الدوق والقدّيسة!.”
أعتذر منكِ يا روزيتا، لكن حياتي أثمن أولاً. أنتِ لديكِ حماية البطلة وستنجين مهما حدث، أما أنا…
لكن المشكلة أنّ الدوق خرج للحرب بالفعل.
وما إن تجسّدتُ في جسد يوريا، حتى وجدتُها منهكة بسبب صيامها.
بجسد فتاة بالتاسعة عشر، بلا قوّة ولا سيف. فكيف لي أن ألحق به إلى ميدان المعركة وأقول:
“مرحبًا يا دوق، القدّيسة ستظهر قريبًا، فهل ترغب بمواعدتها؟.”
يا للسخرية! إما سيعتبرني مجنونة فيطعنني، أو يتركني بين أنياب الوحوش.
لكن… في الرواية الأصلية، كان زافيار يعاني من نقص شديد في الإمدادات قبل وليمة النصر بشهر كامل.
إذن لو ذهبتُ إليه ومعي المؤن، فلن يتمكّن من ردّي. وبعد أن يأخذ المساعدة، عليّ أن أستغلّ هذا الدين لأطلب منه معروفًا واحدًا.
نعم، عليّ أن أقترب من الشرير لأجل النجاة… ثم أفرّ منه!.
‘وبمجرّد أن يلتقي روزيتا، سأقطع صلتي به تمامًا!.’
وسأعيش بعدها في رغد مع والديّ الجديدين، آكل وأشرب وأنعم بالسلام.
منذ أن استوعبت وضعي وأنا أخطّط بدقة على مدى شهرين. وما أقوم به اليوم جزء من هذا المخطط.
ها أنا أمام شركة غراهام التجارية، مبنى شامخ من الرخام الأبيض، يزيّنه لوح ضخم عند المدخل.
أرسلتُ خادمتي مايا إلى المنزل رغم إصرارها على مرافقتي، ثم دخلتُ المبنى واثقة الخُطى. وما إن اجتزتُ الباب الدوّار حتى أسرع نحوي رجل مسنّ بشعر أشيب.
“آنستي، لقد وصلتِ؟.”
“نعم يا جوزيف. كل شيء جاهز، أليس كذلك؟.”
“بالطبع، آنستي. ولكن… ألن تخبرينني بما تنوين فعله؟.”
ألقى عليّ نظرة متفحّصة، كأنّه يعرف لكنه يريد سماع تأكيدي.
هذا الرجل، “جوزيف”، المدير العام للشركة، والمسؤول عن شؤون الموظفين والمتطوّعين والطهاة والمعالجين لدعم الحرب.
ابتسمتُ ببرود وأنا أتابع السير عبر البهو الرخامي، خلعتُ قفّازي وسلّمته إليه.
“ألم يقل أبي: ‘إن لم تتعلّمي شؤون الشركة، فاذهبي لتتدرّبي على الزواج؟’ أليس في ذلك إشارة أنّه يريدني أن أتعلم بجدّية؟.”
“صحيح، آنستي، لكن… عليّ أن أقدّم تقارير للسيد…”
توقّفتُ فجأة، فارتبك جوزيف وتوقّف بدوره.
“ألستَ تثق بقدراتي إذن؟.”
“لا، أبدًا! لقد أفدتِ كثيرًا في الحسابات. لم أظن أنّك تعرفين مسك الدفاتر المزدوج. متى تعلّمتِ ذلك؟.”
“تعلّمتُ من أمّي، على الهامش.”
“أه… وهل هذا ممكن؟.”
“أنا غراهام أيضًا، أليس كذلك؟.”
“آه، فهمت. ولكن… لِمَ لا تُخبِرين السيّد؟ سيكون مسرورًا غاية السرور لو علم بالأمر.”
“لم يكن الوقت مناسبًا آنذاك.”
“عفوًا؟.”
“لقد ارتكبتُ الكثير من الأخطاء من قبل، أليس كذلك؟ لذلك أريد أن أدهش والدي شيئًا فشيئًا، لا دفعة واحدة.”
‘أيُّ والد سيفرح إن علم أن ابنته تُعِدّ نفسها للذهاب إلى ساحة المعركة؟.’
“آه، آنستي!.”
قال جوزيف وقد بدا كأنّه فهم كلامي على نحو آخر، ثم شبك يديه الكبيرتين ببعضهما تأثّرًا.
“لقد عرفْتُ منذ كنتِ طفلة أنّك لامعة الذكاء. قد يقول الناس إنكِ طائشة، لكنكِ كبرتِ ونضجتِ كثيرًا. سيكون السيد فخورًا غاية الفخر حين يعلم بذلك…”
“شكرًا لأنك ترى الأمر هكذا.”
وربّتُّ بخفة على كتفه، الذي كان يرتجف من شدّة انفعاله. وبعد لحظات، تمالك نفسه وسألني من جديد…
“لكن يا آنستي، مستدعوا الأرواح المائية ليسوا كغيرهم من الطهاة أو المعالجين. إنهم متعجرفون جدًّا. حتى شركتنا أخفقت مرارًا في استقطابهم.”
اليوم هو آخر يوم لاختيار الكوادر غير المقاتلة، ولم يبقَ سوى استقدام مستدعي الأرواح المائية.
“جوزيف، هل تعلم ما الذي يريده هؤلاء أكثر من أي شيء؟.”
“عقد مع روح عليا؟ توافق طبيعي؟.”
“لا. ما يريدونه حقًّا هو إمداد مستقرّ من الطعام.”
“الطعام؟!.”
بل إمداد مستقرّ من ‘المعادن النادرة’.
إذ إن التعاقد مع الأرواح يحتاج مواهب طبيعية، لكنّ تقويتها تتطلّب خامات خاصة. وهذه الحقيقة لم تُذكر في القصة إلا لاحقًا، وأنا وحدي أعرفها الآن.
أشرق وجهي بابتسامة وأنا أرى الحيرة على وجه جوزيف. سرعان ما أسرع وفتح باب قاعة المقابلات.
“أدخِلوهم الآن.”
صرخ بصوت جهوري.
“مستدعوا الأرواح المائية الذين تقدّموا لدعم الشركة في الحرب، تفضّلوا من هنا!.”
دخل خمسة رجال بثياب متأنقة وتكبّر بادٍ على وجوههم. لم يلقِ واحدٌ منهم حتى تحية.
تنهّدتُ في سري.
‘حسنًا… يريدون اختبار صبري إذن.’
Chapters
Comments
- 4 - أريد الذهاب إلى الدوق منذ يومين
- 3 - الأسبَق يحظى بالأفضل منذ يومين
- 2 - سأغيّر هذه الحكاية البائسة. منذ يومين
- 1 - لا بأس أن أكون سيّدة تافهة. 2025-10-04
التعليقات لهذا الفصل " 2"