سأل تشايرس بوجه لا يزال يعلوه الشك:
“هل أكلتِ شيئًا غريبًا عن طريق الخطأ؟ أو ربما أُصيبتِ بعدوى من الدوق؟”
“سيدي تشايرس…”
ارتسمت على وجهي أبلغُ تعبير للحزن، وما إن تنهد حتى لوّح بيده باستهزاء وغادر.
“لا بأس. انسِ الأمر.”
رغم أنني شعرت بالرضا لطرد تشايرس، إلا أنني لم أستطع التخلّص من القلق الذي يراودني من أن شكوك الدوق كايرون قد تتفاقم في أي لحظة.
ما كان ينبغي لي أن أتحمّس إلى هذا الحد كمُعجبةٍ بهذه الشخصية!
بعد تلقّيه أوامر الدوق، لا بد أن تشايرس جاء إلى غرفتي برفقة جورج، وقد وضعا في حسبانهما كل السيناريوهات الممكنة وخطط الطوارئ اللازمة.
لو كنتُ قد أظهرتُ أيّ علامة على الجنون، لكانا حبساني حتى يتأكدا من أن مرضي غير معدٍ. ولو بدوتُ مزيفة أو مثيرة للريبة، لكانا زجّا بي في سجن تحت الأرض وعذّباني فورًا.
فهو يعرف جيدًا أن مقاطعة هارفل الشمالية ليست بالسكينة التي تبدو عليها.
لحسن الحظ، لم يشكك أحد في مرضي المزعوم بـ”مرض السِّلم”.
فمهما كان تشايرس مستشارًا بارعًا، لم يكن بوسعه أن يتعدّى على ابنة جورج، الذراع اليمنى للدوق، دون روية.
عندما سحبتُ الغطاء مجددًا على جسدي، شعرتُ بالارتياح أخيرًا. وفيما أمعنتُ التفكير، بدا أن مقابلتي للطبيب كانت ضربة حظ.
إن واجهتُ موقفًا صعبًا لاحقًا، فيمكنني التظاهر بألم في الرأس للخروج منه.
لكن… هل سأتمكن من مواصلة تقمّص دور “أرييلسا” المتزنة والهادئة بإتقان؟
ذلك ما كان يخيفني.
عندما يقع الدوق كايرون في حب البطلة، تلك الملقبة بـ”وردة الجنوب”، ماذا سيحدث بعدها؟
هل سأتمكن من العودة إلى عالمي؟
كنت أتهرب دومًا من التفكير في ذلك، لكن عندما طرأت الفكرة على ذهني، اجتاحتني مشاعر الحنين، وغفوتُ باكية.
شعرتُ بشيء دافئ يلامس جبهتي.
كنت أتنهد باكية وأنا نائمة، لكن ذلك الدفء طمأنني وأغرقني في نوم أعمق.
استيقظتُ مع الفجر، ولا يزال أثر ذلك الدفء والضغط الخفيف على جبيني قائمًا—حينها أدركتُ أن ذلك جاء من يد “أبي”.
وتلك الكلمات التي همس بها لي… لم تكن حلمًا. كانت حقيقية.
يبدو أن جورج بقي إلى جواري طوال الليل، وقد غادر للتو.
شعرتُ بالأسى على الكرسي الصغير الذي احتمل ثقله طوال الليل بصبر.
وحين فتحتُ عيني، كنتُ وحدي… لكنني شعرتُ بتحسّن كبير.
> “أرييلسا، إن حدث لكِ أي مكروه، فإن أباكِ هنا… لا تخيفيني هكذا مجددًا. تعافي بسرعة، أيتها المشاكسة.”
عندما تذكّرتُ همس جورج الحنون، شعرتُ بالخوف… والذنب.
فأنا لستُ ابنته الحقيقية.
وربما كانت أرييلسا الحقيقية قد فارقت الحياة فور سقوطها من على السلم وارتطامها بالأرض.
وبسببي، ربما حُرم من الوقت الذي كان من حقه أن يمضيه في الحزن على ابنته.
لكنني، رغم ذلك، لم أمتلك الشجاعة لإخباره بالحقيقة.
فبدون جورج، حياتي داخل هذا الجسد الجديد ستكون بلا حماية، كمن أُلقي به في العراء بلا درع.
لا سيما أن شخصًا كهذا، قد يُضحّي بحياته لمجرد أنني ناديته بـ”أبي”… كيف يمكنني إيذاؤه بالحقيقة؟
لذا، اتخذتُ قراري—سأكون أرييلسا من أجله، عرفانًا بحمايته.
سأحمي بيديّ كلاً من بطلنا، وجورج، وحتى ذلك المزعج الوفي تشايرس.
لن أسمح لبطلنا أن يفقد هذه الأرض الشمالية، ولن أدع جورج يموت كما مات في الرواية.
ذلك العزم منحني القوة.
لأن هذا… كان أمرًا لا يستطيع أحد غيري فعله.
“طعمها مختلفٌ عن المعتاد.”
“لقد نقعتُها اليوم بخفة أكثر قليلًا. هل راقت لك، سيدي؟”
حدّق دوق كايرون بي مطولًا، ثم رفع فنجان الشاي مرة أخرى.
يا إلهي… كيف يمكن لأصابع تمسك السيف أن تكون بهذا البياض وهذا الطول؟
أين ذهبت عزيمتي على التماسك؟ سرعان ما استسلمتُ لأفكاري المشتتة وبلعت ريقي بتوتر.
ارتشف رشفة أخرى من الشاي، ثم قال:
“جيّد. هذا ألذ شاي فراولة شتوية تذوقته في حياتي.”
“شكرًا جزيلًا، سيدي.”
لو كانت “أرييلسا” الحقيقية في مكاني، لما تراقصت فرحًا على مديح رئيسها. أقصى ما كان يجب أن أفعله هو ردة فعل خفيفة من قبيل: “شكرًا جزيلًا، سيدي”.
لذا، وخشية أن تظهر مشاعري، غرست أظافري في فخذي، ورسمت ابتسامة متحفظة.
وحين هممت بالابتعاد عن مكتبه—
“لماذا لم تعدّيه بهذه الطريقة من قبل؟”
لماذا؟
لأنني قرأت الرواية الأصلية، يا سيدي الدوق:
[رغم أن كثيرين يرون دوق كايرون شخصًا متطلبًا ومتغطرسًا لأبعد حد، فإنه في الحقيقة لم يشتكِ يومًا من طعم الشاي الذي تعدّه له الخادمة، مهما كان باهتًا أو خفيفًا. لم يكن يظهر تلك الطباع الحادة إلا عندما يكون هناك ما يستدعيها حقًا.]
ومع ذلك، أجبت بأضعف صوت استطعتُ إخراجه، على أمل كسب تعاطفه:
“في الواقع… منذ تلك الحادثة مع السلم…”
تغيرت ملامح دوق كايرون قليلاً، فاستعجلت بإكمال حديثي:
“كلما شعرتُ بأنني أسوأ، زاد حرصي على أداء مهامي. وخدمتك، سيدي… أردتُ على الأقل أن أعدّ لك شايًا ألذ.”
“…فهمت.”
كانت إجابته مقتضبة، يصعب تفسير مغزاها. واكتفى بالاستمرار في شرب الشاي بصمت.
بخار الشاي المتصاعد تلاشى داخل هالته الطاغية.
عيناي اكتفتا فقط بالنظر إليه بامتنان.
“الفرسان يسقطون كثيرًا من على خيولهم ويصابون في رؤوسهم. لكن ذلك لا يجعل شخصياتهم أو تصرفاتهم تتغير فجأة، أرييلسا.”
هو من كان يحتسي الشاي الدافئ، لكنني أنا من شعرتُ فجأة باندفاع الحرارة في وجهي.
هل عذر “مرض السلم” لم يُفلح في تبديد شكوكه بعد؟
جفّ حلقي، وأدركت أن عليّ أن أقدّم له تفسيرًا أكثر إقناعًا.
كنت متوترة للغاية لدرجة أن صوتي خرج متحشرجًا:
“عندما سقطت من السلم…!”
رفع الدوق عينيه إليّ في عبوس خفيف، وكأنه يقول: “أهذه القصة مجددًا؟”
“أ-أعتقد أنني رأيتُ العالم الآخر.”
يا للمصيبة. لقد انفلت الحديث من فمي… وأنا من أطلقه، لا أحد سواي.
حدّق بي دوق كايرون بصمت، ثم وضع فنجان الشاي على الطاولة بهدوء.
“العالم الآخر؟”
كدت أبوح بقصة السيارة التي اندفعت نحوي في طريقي إلى المعهد.
تلك السيارة اللعينة في ذاك العالم الآخر، حيث لا أحد يحترم قوانين المرور، وتُمحى حياة الإنسان في لحظة عبثية.
لكنني أغلقت فمي بسرعة، وأومأت برأسي بعينين تملؤهما الحيرة والحزن.
ولأن هذا ما شعرت به حقًا، لم أحتج حتى إلى التمثيل.
“أنا فقط… أريد أن أعيش بشكل أفضل. دون أن أكرر أخطاء الماضي. أريد أن أرى أشياء جميلة، وآكل جيدًا، وأعيش بشكل صحيح.”
حدّق بي دوق كايرون بصمت.
“وأريد أن أكون ابنة صالحة لأبي… وأكون الخادمة التي تليق بثقتك، يا سيدي الدوق.”
ابتسمت له ابتسامةً مشرقة تنمّ عن عزيمة.
لقد كانت قناعةً صادقة نابعة من القلب، والتعبير عنها بصوتٍ مسموع منحني قوةً إضافية.
وظهرت ابتسامة خفيفة على شفتي دوق كايرون أيضًا.
مبهرٌ جدًا… من فضلك لا تبتسم.
“أرييلسا.”
“نعم، سيدي الدوق.”
“قولي لتشايرس فقط إنكِ تعانين من صداع.”
“…حاضر، سيدي الدوق.”
رفع دوق كايرون مجددًا فنجان الشاي، أما أنا فانسحبت بهدوء وجلست في زاوية المكتب، على مقعدي المعتاد. كان قلبي يخفق كأنه على وشك الانفجار.
كان مكتبٌ صغير موضوعًا بجوار النافذة في ركن الغرفة هو مكان أرييلسا المخصص. ومن هناك، لم يكن بإمكاني رؤية الدوق كايرون، لكنني كنت قادرة على التوجّه إليه فورًا إذا ناداني.
ولأنني لم أكن أراه، كنت أصغي حتى لأنفاسه. تساءلتُ عما قد يكون منشغلاً به اليوم، لكن إظهار اهتمامٍ زائد بشؤونه كان مخاطرة.
لم أستطع التوقف عن الابتسام عندما قال إن عليّ أن أخبر تشايرس بأنه مجرد صداع. في الواقع، لو كنت قد أخبرته بأنني “رأيت العالم الآخر”، لكان ارتاب فيّ أكثر.
من الواضح أن الدوق انحاز إليّ، تمامًا مثلما كان يفعل حين كنّا صغارًا…
“أرييلسا.”
قطع دوق كايرون حبل أفكاري وهو ينهض واقفًا.
“نعم، سيدي الدوق!”
قفزت واقفة وتقدّمت نحو مكتبه بسرعة.
“سأذهب إلى ساحة التدريب.”
“نعم، سيدي الدوق!”
حدّقت إليه بعينين متسعتين، وبادلني النظرة للحظة قبل أن يتنهّد بعمق.
“تبًا لفطيرة التفاح تلك.”
كانت همهمة لنفسه، ومع ذلك سمعتها بوضوح لدرجة أنني احمررتُ خجلًا على الفور.
“أحضري معطفي.”
تتبعتُ بنظري اتجاه إصبعه، فرأيت المعطف معلقًا على الحائط، فركضت على الفور لإحضاره.
كنت متوترة وأنا أساعده على ارتدائه، لكن المعطف كان مزوّدًا بمشبكٍ غريب بدلاً من الأزرار أو السحّاب، ولم أتذكر على الفور كيف يُغلق.
وما زاد الطين بلة أنني كنت ألمس جسده أثناء ذلك، ما زاد من توتري وارتباكي.
عندها، أمسك بظهر يدي بلطف، وكأنّه يحتضنها. ارتبكتُ ونظرت إليه سريعًا، فقام، بينما لا يزال ممسكًا بيدي، بتثبيت المشبك ببطء، كما لو كان يريدني أن أتعلّم طريقة فعله.
كانت حرارة كفّه تلفح ظهر يدي كأنها نارٌ خفيفة.
“هممم…”
أطلقت أنينًا خافتًا وأنا أطبق شفتيّ بقوة، فسألني متجهمًا قليلًا:
“ما الأمر؟”
ما الأمر؟ الأمر أنك وسيمٌ جدًا… هذا هو السبب.
ولأمنع نفسي من إطلاق صيحة، أو حتى أنّة من فرط التوتر، لم يكن أمامي إلا أن أعضّ شفتي.
بمعطفه الذي يزيّنه طوقٌ من الفرو عند الياقة، بدا دوق كايرون وسيمًا إلى حدٍّ مؤلم. من المذهل كيف يمكن لمعطفٍ واحد أن يُبرز كل هذه الرجولة والقوة.
ربما بدا عليّ الارتباك الشديد، لأنه أطلق ضحكة صغيرة لا إرادية.
وازدادت حمرة وجهي أكثر.
“ما الذي تفعلينه؟”
نقر بلسانه بإشارة خفيفة، وأشار نحو الركن—حيث كان معطفي معلّقًا أيضًا. كان معطفًا بسيطًا وعاديًا.
رغم وجود فروٍ خفيف حول الياقة ليمنع دخول الرياح، إلا أن الهدف كان عمليًا تمامًا، بعيدًا كل البعد
عن الأناقة.
أسرعتُ في إحضاره وارتديته، بينما كان الدوق كايرون يتوجه أولًا نحو الباب.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
5 صوت ⭐
═══∘ ° ❈ ° ∘═══
ترجمة : أوهانا
الانستا : han__a505
الواتباد : han__a505
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 6"