ذهبتُ للعمل في مقرّ الفرسان فور انتهاء فترة إقامتي الإجبارية.
كان عدم التغيب عن العمل من الأمور التي اعتدتُ عليها منذ أن عدتُ إلى رشدي.
“هل لا يزال السير إيباخ يعزل نفسه؟”
لم يكن التقرير الذي تلقّيتُه من سيزاري سارًّا على الإطلاق.
‘كنتُ آمل في قرارة نفسي أن يبوح كارلوس بكلّ شيء.’
حتى بالنسبة لكارلوس، بدا الأمر مستحيلًا.
“في الوقت الحالي، لا توجد مشكلةٌ في الجدول. لقد رحل عدوّنا الأكبر.”
تحدّث سيزاري عن ولي العهد أيوس الذي أُعدِم بالفعل.
أخذتُ تقرير إعدام أيوس من زاوية مكتبي.
تصفّحتُه سريعًا، لم أُرِد الخوض كثيرًا في مصير أيوس.
“وهناك حديثٌ في الخفاء عن أن سمو الأمير الثاني قد يُصبح وليًّا للعهد.”
حسنًا، كان هذا متوقّعًا.
“سأزور سمو الأمير الثاني قريبًا. هل يمكنكَ من فضلكَ تقديم طلب لقاء؟”
“نعم، هل ستذهبين بمفردكِ؟”
“…لا، من فضلكَ اذكُر اسم السير إيباخ أيضًا.”
“أمرُكِ.”
بدا سيزار فضوليًّا، لكنه كمساعدٍ كفؤٍ ومخلص، لم يسأل سؤالًا واحدًا، واتّبع أوامري ببساطة.
بعد تقديم طلب اللقاء، قمتُ بمهامي المُعلَّقة المختلفة، ونهضتُ من مقعدي فور حلول وقت المغادرة.
“أيّتها القائدة؟ هل ستغادرين بالفعل؟”
“حان وقت المغادرة، أليس كذلك؟”
“هذا صحيح، ولكن …”
“يجب عليكَ المغادرة مُبكّرًا أيضًا. البقاء في العمل ولو للحظة سيُفسد روحك.”
أومأ الجميع موافقين، وبدأوا يستعدّون للمغادرة بسرعة.
بعد مغادرة مقرّ الفرسان على ظهر حصاني، استدرتُ فورًا في الاتجاه المُعاكس للمنزل.
كنتُ متّجهةً إلى قصر إيباخ.
حدّقتُ في غروب الشمس بينما كنتُ في طريقي نحو قصر إيباخ، عادت إلى ذهني ذكريات الماضي عندما مررتُ من هنا.
تحدّثتُ مع كارلوس في قصر إيباخ بذريعة الحديث عن ولي العهد.
‘بالتفكير في الأمر، ألم يكن ذلك بمثابة موعدٍ غرامي؟’
دقّ قلبي بشدّة.
‘كلّ ما قاله كارلوس آنذاك كان يلمّح إلى أنه يحبّني.’
شعرتُ بغرابةٍ عندما أدركتُ أن كارلوس كان يحبّني منذ زمنٍ طويل.
“ألستِ السير إيليا؟”
استقبلني وجهٌ مألوفٌ في قصر إيباخ. كان إلمان، كبير الخدم في قصر إيباخ.
“لقد مرّ وقتٌ طويل.”
انحنيتُ لإلمان وترجّلتُ عن حصاني.
“هل أتيتِ لرؤية السيد الشاب كارلوس؟”
سأل إلمان، وعيناه مليئتان بالترقّب. فهمتُ بشكلٍ غامض سبب حماس إلمان، لكن الأمر بدا غريبًا مجدّدًا.
“صحيح. أعتذر عن إزعاجكَ فجأةً، لكن هل يمكنكَ إخبار السير إيباخ أنني هنا؟”
“بالتأكيد. سأفعل ذلك في الحال.”
عيّن لي إلمان خادمًا ليرافقني واختفى بسرعةٍ داخل القصر.
“… القائدة؟”
بينما كنتُ أشرب الشاي في غرفة الاستقبال، ظهر كارلوس بعد قليلٍ من الانتظار.
بدا وجهه شاحبًا. بالطبع لن يكون بخير، بعد سماعه مثل تلك الكلمات.
“أعتذر على زيارتي المُفاجئة.”
“لا، لقد فوجئتُ فقط …”
“لم أتمكن من زيارتكَ حتى الآن لأني كنتُ تحت المراقبة، لكنني أتيتُ اليوم فورًا لأن فترة المراقبة قد رُفِعت.”
“سمعتُ ذلك. جلالته …”
لم يستطع كارلوس الاستمرار وصمت.
“هل ترغب بالجلوس أولاً؟”
أشرتُ إلى الكرسي، فاقترب كارلوس بتردّدٍ وجلس أمامي. ثم ساد صمتٌ مُحرِجٌ بيننا.
لم نكن أنا ولا كارلوس مُعتادين على هذا النوع من الحديث.
“أمم، ذلكَ…”
“إن كنتِ تنوين مواساتي، فلا بأس.”
قال كارلوس وهو يهزّ رأسه.
“لستُ أصدّكِ، بل أنا حقًّا بخير. شعرتُ بخيبة أملٍ فقط حين أدركتُ متأخّرًا أنّ الإمبراطور هو شخصٌ على هذه الشاكلة.”
بالتأكيد، لم تكن نبرة كارلوس نبرة شخصٍ يحتاج إلى المواساة.
في الواقع، بدا مُرتاحًا، كما لو أن شيئًا ما كان يُثقله قد أُزيح عن كاهله.
“كنتُ فقط بحاجةٍ إلى بعض الوقت.”
أخيرًا، هدّأت كلمات كارلوس من روعي.
ياللراحة. لم يكن مُنهارًا تمامًا.
“إذن، متى ستعود إلى عملك في مقرّ الفرسان؟”
“حسنًا، لقد رتّبتُ مُعظم الأمور التي تحتاج إلى ترتيب، لذا يُمكنني العودة غدًا.”
“طلبتُ مقابلة الأمير الثاني. أعتقد أن لدينا وقتًا. هل يمكنكَ مرافقتي؟”
“سأفعل.”
أومأ كارلوس.
“احتياطًا … ليس لديكَ نيّةٌ لتصبح وليّ العهد، صحيح؟”
“كلّ ما أريده هو استعادة شرف أمّي.”
“فهمت.”
أومأتُ ووضعتُ فنجان الشاي في يدي.
ثم نظرتُ إلى كارلوس بأقصى ما استطعتُ من جديّة، وتحدّثتُ.
“سأساعدكَ أيضًا.”
نظر إليّ كارلوس بتعبيرٍ من الدهشة.
“هل لا بأس في ذلك؟”
أضفتُ على عجل، مُدرِكةً أنه قد لا يُوافق على مساعدتي.
لكن كارلوس لم يُجِب، واستمرّ في التحديق بي.
“ما الخطب؟ هل هناك شيءٌ ما على وجهي؟”
شعرتُ بالحرج، فمسحتُ وجهي بارتباك.
هزّ كارلوس رأسه وابتسم ابتسامةً خفيفة.
“لا، ظننتُ أن هذا يشبهكِ أيّتها القائدة.”
‘ما الذي يشبهني؟’
أردتُ أن أسأل بصوتٍ عالٍ، لكنني كتمتُه. خشيتُ أن ندخل في محادثةٍ لا نملك حيلةً لخوضها.
“همم، إذن سأراكَ في مقرّ الفرسان غدًا.”
بدلًا من ذلك، جليتُ حلقي ووعدتُه بلقائه غدًا. وبينما كنتُ على وشك المغادرة …..
“قائدة.”
أمسك بي كارلوس.
“ما الأمر؟”
عندما سألتُ، نظر إليّ بنظرةٍ جادّةٍ وعميقةٍ وبدأ بالكلام.
“ألا ترغبين في المبيت في منزلي دون أن تغادري؟”
مـ ماذا؟!
* * *
لحسن الحظ، كان كارلوس يعني حرفيًا عندما طلبه مني، النوم فقط.
‘الوقت متأخّر، وكان علينا مناقشة خططنا المستقبلية أيضًا.’
عندما سمعتُ تلك الكلمات، مررتُ يدي على فمي بلا سبب واضح، فقط لأخفي وجهي الذي تورّد خجلًا.
‘لو كنتُ تسرّعتُ في الأمر، لكانت كارثةً حقيقيّة.’
بينما اغتسلتُ وغيّرتُ ملابسي، خطرت لي فكرةٌ مُرعِبةٌ جعلتني أقف.
ارتديتُ الملابس التي وفّرها لي الخدم في قصر إيباخ، وتوجّهتُ مباشرةً إلى غرفة المكتب التي سألتقي بها مع كارلوس.
“هل أنتِ هنا؟”
رحّب بي كارلوس، وهو يُراجع كومةً من الوثائق.
هو أيضًا كان قد اغتسل، ووجهه يبدو أكثر إشراقًا وانتعاشًا من ذي قبل.
إذن، كان يرغب بشدّةٍ في العمل.
مع أنني كنتُ أعرف هذا مُسبقًا، إلّا أن خيبة أملٍ خفيفةٍ لا يُمكن تفسيرها غمرتني وأنا أُلقي نظرةً على الوثائق.
… لا بد أنني مجنونة. أيّ شعورٍ بخيبة الأمل هذا؟
بحقك، إيليا إلفينجتون. أنتِ الرئيسة! كارلوس هو مرؤوسكِ!
“إذا كان اللقاء ضروريًا، فأودّ أن نذهب إلى لارغا غدًا.”
“لارغا؟”
“عليّ أن أهتمّ بأمر الدمية.”
“أوه، صحيح.”
سحب كارلوس صندوقًا مُغلقًا بإحكامٍ من تحت المكتب. عندما فتحتُ الصندوق، انكشفت دميةٌ قماشيةٌ عليها دائرةٌ سحرية.
نظرتُ إليها، فتذكّرتُ شبح سوزانا الذي قابلتُه على الحدود.
“علينا أن نفعل شيئًا حيال هذه الفتاة أيضًا.”
“وهناك أمرٌ سأتحدّث عنه عندما أقابل سمو الأمير الثاني.”
استمرّ الحديث طويلًا. كان حوارًا جادًّا لدرجة أنني شعرتُ بالحماقة لتوقّعي أيّ شيءٍ آخر.
‘حسنًا، لقد وضعتُ حدًّا بنفسي، وكارلوس لن يتجاوزه. إنه يحترمني.’
لطالما شعرتُ بهذا الشعور، لكنني أدركتُ مجدّدًا كم كان كارلوس رائعًا.
وأدركتُ أنني أنا مَن يملك مفتاح تغيير هذه العلاقة.
إذا اتّخذتُ إجراءً، سيتغيّر شيءٌ ما.
رفعتُ بصري وحدّقتُ في كارلوس، المنهمك في أوراقه.
تحت شعره الأحمر الحريري، رأيتُ عينيه البنيّتين، وقد تغيّر لونهما الذهبي بالسحرٍ. تلك الملامح الجميلة والكتفين العريضين القويين اللذين لطالما أُعجِبتُ بهما في بداية تجسيدي.
علاوةً على ذلك، كانت يداه جميلتين. ربما لأنه كان في المنزل، لم يكن يرتدي قفّازات، فظهرت بشرته العارية.
كان شعورًا رائعًا أن أُمسِك تلك اليد، أن أعانق ذلك الجسد، أن أتشارك طاقته.
لكنّ العناق لم يَعُد كافيًا الآن، وإن أردتُ تجاوز تشابك الأيدي إلى ما هو أبعد من ذلك، فعليَّ أن ……
“قائدة؟”
“هـ هاه؟”
“هل هناك شيءٌ على وجهي؟”
“أوه، لا.”
تلعثمتُ كالحمقاء مرّتين.
“لماذا تحدّقين بي هكذا إذًا؟”
“أحدّق بكِ؟”
“لقد كنتَ تحدّقين بي منذ فترة.”
“هـ هذا …”
دون أن أُنكِر ذلك، خفضتُ رأسي.
بينما كنتُ أملأ الاستمارة بلا هدف محاولةً التملّص من الموضوع، وفجأة، دخل كارلوس في مجال رؤيتي.
“أوه، لقد أفزعتَني!”
“…ألستِ متفاجئةً أكثر من اللازم؟ هذا يجعلني أتألّم.”
“ماذا تفعل بينما تُدخِل وجهكَ فجأةً هكذا؟”
رفعتُ رأسي مجدّدًا، لم أرغب في مواجهته في هذا الوضع المُحرج. عندها عاد كارلوس إلى وضعه الأصلي.
مرّت لحظة صمت.
“أنا، هذا مُفاجئ، لكن …”
كسر كارلوس الصمت بصوتٍ جاد.
“لديّ شيءٌ لأخبركِ به عن البصمة.”
“عن البصمة؟”
أملتُ رأسي مُندهشة، وأومأ كارلوس برأسه.
“ما الأمر؟”
“أنا …”
توقّف كارلوس عن الكلام على غير المعتاد، تاركةً جملته غير مكتملة.
التعليقات لهذا الفصل " 117"