رغم أننا قبضنا على أيوس، إلّا أن رحلة العودة لم تكن سهلة.
“هاه، جدتي؟”
“جيفري! ألم تمت قبل ثلاث سنوات؟”
“قائدة، ها هو أخي! عليّ أن أذهب لرؤيته!”
الجميع، عداي وكارلوس، رأوا أرواحًا.
“استيقظوا جميعًا!”
كان من الصعب جدًا إيقاظ الفرسان في كلّ مرّةٍ يرون فيها روحًا.
حينها وصلنا أخيرًا إلى نقطةٍ تمكّنا فيها من رؤية الأشجار الكثيفة في البعيد.
هاه؟
ثم فجأة، انقلب العالم رأسًا على عقب.
‘حان دوري الآن.’
عرفتُ غريزيًا أن الروح ساظهر أمامي قريبًا.
أغمضتُ عينيّ وفتحتُهما. ثم فجأةً، لاح ضوء الشمس من بعيد.
شعرتُ وكأن لهبًا مشتعلًا يتراءى أمامي.
نظرتُ حولي فلم أرَ أحدًا غيري. كنتُ وحدي.
شعرتُ بحرارةٍ تسري في جسدي، فبقيتُ ساكنةً للحظة. كان من الخطر التحرّك دون معرفة الحقيقة من الخيال.
لكن لم يبدُ أن الأرواح التي رأوها الفرسان قد حجبتهم عن الواقع تمامًا.
لماذا كنتُ مختلفة؟
بدأتُ أتساءل.
غابت الشمس فجأة. وفي المكان الذي كانت فيه الشمس …
‘يا إلهي، هذا كثير.’
شخصيةٌ نحيفة، ربما لا يتجاوز عمرها العاشرة، بشعرٍ أشعث، وحركاتٍ هشّة، وعيونٍ ذهبية.
كانت هناك روح، سوزانا بلا شك.
على الرغم من أنها كانت شبحًا، إلّا أنها لم تكن شفّافةً أو بلا أرجل.
كانت واقعيةً لدرجة أنني فهمتُ سبب ردّ فعل الفرسان العنيف.
لو لم أكن أعرف أنها سوزانا، لاقتربتُ من الشبح دون تردّد، ظانّةً أنها طفلةٌ في الصحراء.
بقيتُ ساكنةً على حصاني.
بمراقبتي للفرسان، عرفتُ أن الأشباح ستختفي تلقائيًا بعد فترةٍ دون أيّ ردّ فعل.
لكن كان هناك شيءٌ غريب.
مهما طال انتظاري، لم يختفِ شبح سوزانا.
‘إذا كان الوقت في الخيال هو نفسه الوقت في الواقع، فلا بد أنه مرّ وقتٌ طويلٌ الآن. هل أُغمي عليّ في الواقع؟’
بدأتُ أشعر بقلقٍ شديد.
{لماذا لا تقولين شيئًا؟}
في تلك اللحظة، تحدّث شبح سوزانا.
فكّرتُ فيما إذا كان عليّ الرّد.
{لا بأس بالإجابة. تحدّث مرؤوسوكِ أيضًا مع الأرواح، لكنهم جميعًا عادوا إلى طبيعتهم في النهاية، أليس كذلك؟}
تحدّثت سوزانا وكأنها قرأت أفكاري.
نعم، كما قالت سوزانا، استعاد الأعضاء رشدهم في النهاية. لم يكتفوا بالتحدّث إلى الروح، بل تشابكوا بالأيدي وتعانقوا.
“لسنا أصدقاء قدامى، فكيف ظهرتِ أمامي؟”
سألتُ سؤالي.
كانت الأرواح التي واجهها الأعضاء جميعها أشخاصًا تربطهم بها روابط عميقة.
حدّقت بي سوزانا بنظرةٍ فارغةٍ عند سؤالي.
{إنها المرّة الأولى التي نرى فيها بعضنا البعض وجهًا لوجه، لكن هذا لا يعني أننا لسنا غرباء.}
“كيف لنا ألّا نكون غرباء؟”
{في المرّة الأخيرة، كنتُ في منتصف جسدكِ. أصبح جسدكِ أصغر سنًا، وتغيّر لون عينيكِ.}
انتابتني قشعريرةٌ وأنا أتذكّر ذلك.
لولا بصمتي مع كارلوس، لكانت قد سيطرت عليّ دون مقاومة.
حتى دوروثيا، التي تتعامل مع الأرواح، قالت إن سحر استحضار الأرواح لا يُقهر.
‘بالتأكيد لن يحدث شيءٌ مماثلٌ هذه المرّة، أليس كذلك؟’
تجمّدتُ في مكاني.
{لا تقلقي. لستُ في وضعٍ يسمح لي بأخذ جسدكِ الآن.}
تحولت نظرة سوزانا إلى مكانٍ ما بجانبي. عادةً، كان هذا هو المكان الذي يجب أن يكون فيه كارلوس.
{أنا داخل دميةٍ الآن.}
“ماذا؟ إذن أتقولين إن أيوس نجح حقًا في السحر الاستحضار؟”
{نعم.}
أجابت سوزانا بإيجازٍ وأومأت برأسها.
صُدِمتُ، وتذكّرتُ الدمية القماشية التي سرقها كارلوس.
كانت روح سوزانا داخل تلك الدمية الصغيرة. هذا …
{هذا مُزعج.}
تحدّثت سوزانا مجددًا، وكأنها تقرأ أفكاري.
{أريد الفرار من حياة الدمية التي لا تقوى على الحركة، لا تضحك، ولا تبكي.}
تقدّمت سوزانا خطوةّ نحوي وقالت.
شددتُ اللجام للخلف، لكن الحصان لم يُنصِت وبقي ساكنًا، فترجّلتُ. ثم تراجعتُ خطوةٍ إلى الوراء، متجنّبةً سوزانا.
{أختي.}
اتّسعت عينا سوزانا الواسعتان أكثر وهي تتكلّم.
{ألن تُعطيني جسدكِ؟}
“… ماذا؟ قلتِ بوضوحٍ سابقًا إنكِ لا تستطيعين أخذ جسدي.”
{لا أستطيع أخذه بنفسي. لكن إن رضختِ، يُمكنني الدخول.}
قالت سوزانا. شعرتُ بعينيها تمتلئان بشوقٍ عميقٍ لشيءٍ ما.
{أختي، تنازلي لي أرجوكِ.}
“أنا …”
{أنا مثيرةٌ للشفقة حقًّا.}
امتلأت عينا سوزانا الذهبيّتان بالدموع وانهمرتا.
{مهما نظرتِ للأمر، فأنا الضحيّة. لقد مِتُّ دون أن أرتكب أيّ خطأ.}
“… أتفهّم محنتكِ.”
قلتُ وأنا أزدرد ريقي بمرارة.
“لكن هذا لا يعني أنني أستطيع التخلّي عن جسدي.”
عند كلماتي، غمر اليأس وجه سوزانا.
“إذا تخلّيتُ عن جسدي لكِ، فسأختفي من هذا العالم تمامًا. أليس كذلك؟”
{……}
صمتت سوزانا.
“إذن، دعيني أخرج من هنا. سأجد طريقةً لإخراج روحكِ من الدمية.”
قلتُ ذلك بينما كنتُ أفكّر في دوروثيا.
{… لم يكن لكِ أصلًا.}
صرخت سوزانا.
“ماذا؟”
{لم يكن هذا الجسد لكِ أصلًا.}
نظرت إليّ سوزانا بانفعال، وتحدّثت بعدوانية.
{لقد كنتِ محظوظةً بالحصول على جسد شخصٍ آخر، فلماذا تطلبين مني ألّا أفعل؟ كيف يمكنكِ أن تكوني الوحيدة السعيدة؟}
“مهلاً، أنا …”
حاولتُ الإجابة، لكنني لم أستطع.
لأنه كان من المؤكّد أن هذا الجسد لم يكن لي في الأصل.
{إذن، أعطِني إياها.}
اقتربت مني سوزانا بابتسامةٍ مخيفة.
“قائدة.”
في تلك اللحظة، سمعتُ صوتًا هادئًا وحازمًا يناديني.
نظرت سوزانا بجانبي بنظرة عدم تصديق، ووجهٍ مصدوم.
تبِعتُ سوزانا والتفتُّ.
ثم رأيتُ كارلوس واقفًا هناك، ممسكًا بـدميةٍ خرقة.
“سير إيباخ، كيف وصلتَ إلى هنا؟”
“لقد كانت قوّة البصمة.”
سألتُ بدهشة، فأجاب كارلوس ببساطة.
قوّة البصمة؟ إذًا هذا ممكنٌ مع البصمات.
كانت لا تزال دهشتي قائمةً وأنا أواصل النظر إلى كارلوس، حين مدّ يده بحذرٍ وأمسك بيدي.
“لا تذهبي.”
ثم تحدّث بشفقة.
“عن ماذا تتحدّث؟ أنا …”
“لقد تردّدتِ للتوّ.”
“…..”
“قبل قليل، كادت كلمات تلك الطفلة أن تُقنعكِ.”
اخترقت كلمات كارلوس كياني، وتركتني عاجزةً عن الكلام.
“أعلم أن لديكِ ضعفًا تجاه الضعفاء. وأعلم أنكِ تشعرين بأسفٍ شديدٍ على تلك الطفلة.”
ساد الصمت لحظة. وقفنا أنا وكارلوس، متقابلين، ننظر إلى بعضنا البعض.
لمعت عينا كارلوس ببريقٍ ذهبي.
“إذا تردّدتِ لأنكِ تشعرين بأنه خيارٌ أناني، فاعتبريه خطئي.”
“… خطأ السير إيباخ؟ هذا سخيف.”
“لأنني أحبّكِ، لأنني أريدكِ بجانبي، لأنكِ إن لم تفعلي … أشعر وكأنني سأموت. لذا، اعتبري أنكِ بذلك تُبقينني على قيد الحياة وابقي بجانبي.”
“…..”
فوجئتُ بنفسي.
لأنّني رغبتُ في طاعة كلام كارلوس.
{أختي.}
نادتني سوزانا بصوتٍ أجش.
“أنا آسفة.”
تنهّدتُ وقلتُ لسوزانا.
“أعلم أنني شخصٌ فظيع. لكنكِ ميّتةٌ بالفعل، والسير إيباخ أيباخ حي.”
{أنا مَن يُفتَرضُ أن يكون مظلومًا أكثر!}
“لكن السير إيباخ أثمن عندي.”
لم يكن قرارًا سهلًا.
كان قرارًا صعبًا، وقد عانيتُ منه كثيرًا.
لكن قراري ظلّ كما هو.
اخترتُ كارلوس.
* * *
في لحظة، انقلب عالمي رأسًا على عقبٍ مرّةً أخرى.
“قائدة! نائب القائد! هل أنتُما بخير؟”
عندما فتحتُ عينيّ، رأيتُ سيزار يمسك بي ويهزّني بعنف.
“أشعر بالدوار … اتركني الآن.”
دفعتُ سيزار ورفعتُ الجزء العلوي من جسدي. ثم رأيتُ كارلوس مستلقيًا بجانبي، عابسًا ومتجهّمًا.
“سير إيباخ.”
مددتُ يدي ببطءٍ وهززتُه برفق.
“انهض. لقد قرّرتُ العيش هنا.”
رفرفت جفون كارلوس للحظة، كاشفةً عن عينيه الذهبيتين.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 110"