3
إليانور قلّلت من خروجها فترة من الزمن. لم يكن ذلك فقط بسبب التحذيرات الصريحة من أبطال القصة الذكور، بل لأن الناس يرون أن على الشابة النبيلة التي فُسخت خطوبتها أن تلازم بيتها بهدوء.
فآثرت التريّث ريثما تهدأ الصحف الصاخبة، متوقفة عن أي نشاط اجتماعي.
وبعد مرور شهر تقريبًا على الفسخ الأخير، بدأت الصحف كما المجتمع المخملي يفقدان اهتمامهما، ليحلّ محلّها ضجّة جديدة حول إحدى السيدات التي تورطت في علاقة مع سائس عربتها. عندها استطاعت إليانور أن تتمطّى وتتنفس الصعداء.
<سائس العربة يعني الي يعتني ويقود العربة>
‘لقد انطفأت النار أسرع مما توقعت. أهو لأن هذه هي المرة الثالثة؟ أم لأنني أخفيت السبب الحقيقي؟’
على أي حال، كان المهم أن يُطوى الموضوع. الفسخ قد وقع وانتهى، والآن عليها أن تعود إلى حياتها اليومية.
منذ مدة لم تلتقِ بصديقتها ستيلا، لذا قصدت قصر آل ماكسويل للقاءها. كانت قد قلّصت زياراتها إلى الحد الأدنى، ومع كثرة ارتياد الأبطال الأربعة لقصر آل ستيكوف، استحال عليها أن تدعو ستيلا إلى بيتها. لذلك، كما في السابق، هي التي ذهبت إلى بيت صديقتها.
قالت ستيلا وهي تعقد ذراعيها بامتعاض:
“إن كانوا حقًا يحرصون على آنسة ستيكوف، فالأجدر بهم أن يقلّلوا هم من زياراتهم!”
حتى في ردّها على رسالة التوضيح التي بعثتها إليها إليانور، كانت ستيلا قد ملأت الصفحة بخطّ غاضب يكاد يكون سبابًا. وبما أنها تعرف طباع صديقتها جيدًا، حرصت إليانور على ألّا تلتقي بها مع هؤلاء الرجال، إذ لن تتردد ستيلا في افتعال مشادة كلامية حتى بوجود ولي العهد نفسه.
لم تكن إليانور لترغب أن تتسبب لها بمشكلات إضافية، لذا اكتفت بهز كتفيها وهي تقضم بسكويت الزبدة قائلة:
“هم فقط قلقون على ليديا، لا أكثر. لا أرى في كلامهم سوءًا.”
فأجابت ستيلا بنفاد صبر:
“إذن قولي لهم أن يكفّوا عن التردّد على بيت شابة عزباء لا خطيب لها. لقد جاوزوا الحد.”
“ستيلا، تعلمين أن صاحب السمو ولي العهد بينهم، أليس كذلك؟”
“ولمَ لا؟ يقال إن الناس يجرؤون على انتقاد الإمبراطور نفسه حين لا تكون له آذان في المجلس، فما بالك بولي العهد!”
ضحكت إليانور بخفوت. إن جرأة صديقتها وطباعها الحادة كانت دائمًا ما تبعث في نفسها عزاءً. ما لم تستطع البوح به بسبب دورها كـ’أخت البطلة’، كانت ستيلا تقوله صراحة دون تردد، فيريحها ذلك كثيرًا.
واصلت ستيلا:
“اطلبي من أختك أيضًا أن تكفّ عن استقبال الرجال في البيت.”
“لكن ليديا لم تدعُ أحدًا. إنهم يأتون من تلقاء أنفسهم.”
“إذن اجعليها تمنعهم من المجيء. أليست كلمة منها كافية ليذعنوا جميعًا؟”
اكتفت إليانور بالابتسام وهي ترشف شايها. لم يكن من اللائق أن تقول كلمة جارحة في حق البطلة، وإلا انقلبت بسهولة إلى دور الشريرة. كان ذلك آخر ما تحتاجه.
لذا واصلت التمسك بدور الأخت الصامتة، كما فعلت دائمًا. صحيح أن الأمر أثقل كاهلها وأتعبها، لكن ما دام لا يوجد سبيل آخر، فلتسلك الدرب المألوف. فهي في نهاية المطاف مجرد شخصية ثانوية، والعالم مليء بغيرها. أما البطلة، فلن تتكرر.
قالت بهدوء:
“لا بأس، فأنا سأقيم حفلة شاي قريبًا. لا أريد أن يُقال عني شيء وأنا المضيفة.”
فأجابت ستيلا بحدة:
“ذلك مختلف، لأنك ستكونين المضيفة رسميًا. أما زياراتهم الخاصة، فليست مقبولة أبدًا.”
“ذلك لأنهم يملكون القدرة على جعل المختلف متشابهًا، والمتشابه مختلفًا.”
لم تجد ستيلا ما تردّ به. فقد تداعت إلى ذهنها مكانة أولئك الرجال ونفوذ عائلاتهم الباذخة. إنهم يملكون ما يكفي من قوة ليقلبوا الحقائق كيفما شاؤوا. وبما أن الأمر يمسّ ليديا، فهو في النهاية شأن عائلي، لذلك لم تستطع ستيلا أن تُلحّ أكثر في النقاش. لم تكن تريد أن تبدو وكأنها تتدخل أكثر مما يليق في أمور غيرها. ثم إن إليانور على وفاق حسن مع أختها، فالإفراط في لوم ليديا قد يجرح مشاعرها.
نظرت ستيلا إلى صديقتها وهي تقضم البسكويت بلا مبالاة، وبدا في عينيها ارتباك. إليانور تبدو دائمًا أختًا صالحة عطوفة، لكنها كانت تثير فيها أحيانًا شعورًا غريبًا يصعب تفسيره. فما إن تفتح فمها حتى يكون كلامها كله في مصلحة ليديا.
قالت ستيلا محاولة تغيير الموضوع:
“إذن، كيف تسير الاستعدادات للحفل؟”
أجابت إليانور بسلاسة:
“لا زلت في حيرة، هل أجعله في الهواء الطلق أم داخل القاعة؟”
“إقامته في الداخل سيكون أسهل. ثم إن عدد الضيوف ليس بالقليل.”
لم يذكرا السبب الحقيقي وراء أهمية هذا الحفل، فهو الأول الذي تنظمه إليانور منذ فسخ خطوبتها مع إدوارد. ومع ذلك، بدا وكأنهما تفاهما مسبقًا على عدم التطرّق إلى التفاصيل المؤلمة، وانشغلا فقط بالبحث عن أنسب طريقة لتنظيمه.
وبعد أخذٍ ورد، قررتا أن يقام في الداخل. كانتا منهمكتين في الحديث حين طرقت وصيفة ستيلا الباب، بنبرة ملؤها العجلة. وما لبثت أن تبعتها ليزا، وصيفة إليانور، ووجهها شاحب.
“ليزا، ما بكِ؟ هل حدث أمر ما؟” سألتها إليانور بقلق.
“آنستي…”
كانت ملامح ليزا توحي بأنها على وشك البكاء، وهذا ما زاد ارتباك إليانور، خاصة أنها كانت في طريقها إلى هنا مسرورة. وضعت يدها على ذراعها في محاولة لتهدئتها، لكن حين رأت أن حتى وصيفة ستيلا تحمل وجهًا قلقًا، أحست بإحساسٍ مشؤوم.
“ما الأمر؟ قولا لي حالًا.”
تنفست وصيفة ستيلا بعمق ثم قالت مترددة:
“لقد سمعنا للتو من ساندرا، العائدة من الخارج…”
عندها شهقت ليزا وأمسكت بيد سيدتها كما لو لتستعدّها لخبر صاعق.
“السيد هانس… قد تقدّم لطلب يد الآنسة ستيكوف.”
أغمضت الوصيفة عينيها بقوة وكأنها تخشى رؤية وقع الخبر. تجمّد وجه ستيلا في قسوة، فيما التفتت إليانور ببطء. عقلها استوعب الكلمات، لكن قلبها طلب توضيحًا أدق.
“أعيدي ما قلته. من تقدّم، ولمن؟”
“السيد إدوارد هانس… لآنسة ليديا ستيكوف…”
“ذلك الحقير!” انفجرت ستيلا بشتيمة صاخبة لم تستطع وصيفتها منعها. بل اكتفت بابتلاع ريقها متوجسة من ردّ فعل الفتاتين.
أضافت ليزا بصوت مرتعش:
“قال أيضًا إن فسخه لخطوبته معكِ كان بدافع الحب لليديا… وقد صرّح بذلك في مكان عام مزدحم.”
شعرت إليانور بأن الأرض تميد تحت قدميها. كيف سأواجه هذا الموقف؟ حتى قبل أن تفكر في الحل، كان السواد قد بدأ يملأ ناظريها.
“متى حدث هذا؟”
“قبل ساعتين تقريبًا. الخبر انتشر سريعًا، وقد نُشر بالفعل في الصحف.”
أخرجت الوصيفة صحيفة من جيبها وهي ترتجف. انتزعتها ستيلا أولًا، وقرأت العنوان ثم صرخت مرة أخرى: “إدوارد هانس، أيها الوغد!” ثم دفعت الصحيفة إلى إليانور.
قرأت بعين ثابتة رغم الغضب:
عاجل: خطيب إليانور ستيكوف السابق يعترف أنه أحب دومًا أختها ليديا! هل اندلعت حرب غيرة بين الشقيقتين على قلب رجل واحد؟
اليوم في تمام الساعة الواحدة ظهرًا، أمام مقهى “ميلوا ديزرت هاوس”، تقدّم السيد إدوارد هانس (22 عامًا) لطلب يد الآنسة ليديا ستيكوف (19 عامًا). خطوة صادمة لا يفصلها سوى شهر واحد عن فسخه خطوبته من أختها الكبرى إليانور ستيكوف (21 عامًا). وسط دهشة الحاضرين، ركع على ركبة واحدة وقدم باقة ورد قائلاً: “التي أحببتها دومًا هي أنتِ. وافقت على خطبة إليانور فقط لأنها أرادتني، أما أنا فكنت أسايرها لأرى وجهك أكثر. أحبكِ يا ليديا… هل تقبلين الزواج بي؟”
كانت الجريدة تنضح سخريةً وتهكّمًا، بل وذهبت إلى حدّ الادعاء بأن إليانور تعمّدت خطبته لإفساد حظوظ أختها.
مزّقت الصحيفة نصفين بيديها وهي تتمتم ببرود قاتل:
“إدوارد هانس… أيها الحقير.”
وافقتُ أنا أولًا على الارتباط به، نعم. لكنه لم يكن مُكرهًا أبدًا.
لو كان في إدوارد ذرة تردّد، لكانت إليانور هي أول من أنهت ذلك الارتباط. صحيح أنها هي من بادرت بالكلام أولًا، لكن إدوارد وافق عن طيب خاطر.
‘حتى وأنا بهذا النقص، إن كنتِ تقبلين بي… شكرًا لكِ، إيلي.’
قالها ذات يوم بوجه ممتن، وها هو اليوم يتحدّث وكأن إليانور ألحّت عليه فرضًا وهو يهوى غيرها منذ البدء. امتلأ صدرها بالغضب حتى قبضت على قصاصات الجريدة الممزقة فطحنتها في كفها.
“المعذرة يا ستيلا. أظن عليّ أن أعود إلى البيت فورًا.”
حاولت أن ترسم ابتسامة متماسكة وهي تتهيأ للرحيل. فبعد هذه الفضيحة، لم يعد البقاء في بيت عائلة ماكسويل خيارًا، بل كان عليها العودة بلا إبطاء. سارعت ليزا إلى مسح دموعها ونزلت مسرعة لتأمر بتجهيز العربة.
“هل ستكونين بخير؟” سألتها ستيلا بقلق.
“نعم، سأتواصل معكِ لاحقًا.”
رافقتها ستيلا بعينين مملوءتين بالشفقة، فيما ظلّت إليانور محافظة على ابتسامتها حتى لحظة صعودها العربة. وما إن أُغلق الباب خلفها حتى اختفت الابتسامة من على وجهها.
لقد باغتني إدوارد بقنبلة حطّمت كل حساباتي.
اهتزّ صدرها بالاضطراب، وظلّت ساقاها ترتجفان طيلة الطريق نحو قصر ستيكوف. وحين وصلت أمام بوابة القصر، كانت أول ما وقعت عليه عيناها صف من العربات متوقفة عند الحديقة، فغصّت غصّة حادة وكادت تعضّ على لسانها.
—
“آنستي الكبرى، الآنسة الصغرى قد…”
كان كبير الخدم بانتظارها عند المدخل، يلوّح على وجهه حرج بالغ. لم يكمل جملته، لكنها لم تكن بحاجة إلى سماع البقية. في أنحاء البهو تجمّعت الخادمات في قلق، يتبادلن النظرات نحوها باضطراب ظاهر.
“سأذهب إليها بنفسي.”
نزعت إليانور شالها وسلمته إلى ليزا، ثم ارتقت الدرج إلى الطابق الثاني. كانت تعرف حق المعرفة من ستجد في غرفة ليديا، لكن لم يكن أمامها مفر. فهي، كأخت كبرى حريصة على شقيقتها، لا يمكنها إلا أن تذهب إليها الآن. ليديا لا بد أن تكون غارقة في البكاء.
حين خطت إلى الممر، التقطت أذنها خيطًا ضعيفًا من الأحاديث. وقفت أمام الباب وطرقت بلطف:
“ليديا، أنا أختك. أيمكنني الدخول؟”
توقّف الصوت في الداخل فجأة. وبعد لحظة قصيرة، دوّى وقع خطوات مسرعة نحو الباب. فتح على مصراعيه لتندفع منه هالة وردية صغيرة إلى حضنها.
“أختي!”
طوقت إليانور ذراعيها حول خصر أختها بقوة، فيما التصقت ليديا بها ودفنت وجهها المرتجف في كتفها. راحت إليانور تربّت على شعرها الناعم الطويل، حتى رفعت الفتاة رأسها أخيرًا، ودموعها لا تزال عالقة على وجنتيها.
“أختي…” همست بصوت متهدّج.
حتى البكاء يبدو جميلًا عليها.
كان أنفها وأجفانها متورّدة كزهرة مغموسة في صبغة، ووجنتاها تتلألأ بدموع كالزجاج المصقول، تذكّرها بالزمرد اللامع. ورغم الاحمرار والدموع، لم يفقد وجهها أيًا من روعته، بل بدا أكثر رقة وجمالًا.
أخرجت إليانور منديلاً، ومسحت به الدموع بعناية كي لا يتأذى جلدها الرقيق. انخفض رأس ليديا بخجل وهي تنشج:
“أختي، أنا… أنا في الحقيقة…”
“أعلم. لكن تعالي، لنجلس ونتحدث بهدوء.”
خشيت أن يطول وقوفها فترهقها الدموع وتنهار. لن يكون من اللائق أن يراها أحد في مثل هذه الحال، لذلك ساقت أختها إلى داخل الغرفة.
وكان كما توقّعت.
فما إن دخلت حتى وقعت عيناها على الوجوه التي توقّعت وجودها هناك، جالسين متربّعين على الأرائك، يحدقون بها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات