1
1
“أنا في الحقيقة أحب ليديا.”
رمشت إليانور بعينيها. لم تستوعب ما كان يقوله الرجل الجالس أمامها. ارتعشت رموشها قليلًا وهي تحدّق فيه بذهول.
كان وجه إدوارد، خطيبها الجالس في الجهة المقابلة، جادًا كأنّه عقد العزم منذ زمن بعيد على أن يخرج بهذه الكلمات، وكأنّه أقسم ألا يتراجع عنها أبدًا.
حدّقت إليانور في شعره البني العادي وعينيه، وفكّرت:
‘ما هذا الهراء الذي يتفوه به؟’
قال إدوارد:
“لقد خطبتكِ لأنني كنت آمل أن أصبح جزءًا من عائلة ليديا، لكن لم أعد أحتمل. فكرة أن علاقتنا تمنعني من التعبير عن مشاعري الحقيقية… مؤلمة جدًا.”
انعوج وجه إدوارد بألم، وكأنّه بطل مأساوي عاجز عن الوصول إلى المرأة التي يحبها بسبب “الشريرة” خطيبته.
نظرت إليه إليانور بدهشة ممزوجة بالسخرية.
ألم يدرك أنه يعترف للتو بأنه يحب شقيقة خطيبته؟
قالت ببرود:
“إدوارد، أنت تدرك ما الذي تقوله، أليس كذلك؟”
“…نعم. لن أتردّد بعد الآن في الاقتراب من ليديا بسببك.” أجاب بصوت حازم، كما لو كان يقطع على نفسه عهدًا.
قهقهت إليانور باستهزاء. من يسمعه يظن أنها وقفت عقبة في وجهه ومنعته من الاقتراب من ليديا. والحقيقة أنها لم تفعل يومًا شيئًا كهذا. بل إن ليديا نفسها، بما لديها من رجال أوفر وسامة وشأنًا، ما كانت لترى في إدوارد شيئًا يستحق النظر.
‘ومع ذلك يزعم بلا حياء أنّني السبب في تعاسته؟’
اتكأت إليانور على ظهر الكرسي، متأملة إدوارد من رأسه إلى قدميه. لم يكن من أولئك الرجال الذين يُجتمع الناس على وسامتهم، لكنه كان شابًا صادق الملامح، جديرًا بالثقة. فارسًا ذا جسد قوي، ومن أسرة نبيلة متوسطة الحال. لقد اختارته بعناية، تحديدًا لأنه رجل عادي، لا يلفت الأنظار.
لكن حتى هذا الرجل، الذي لم يعرف في حياته سوى السيف، انتهى به المطاف واقعًا في حب شقيقتها. لم تعلم إليانور هل تضحك أم تبكي. لكن ما كانت متأكدة منه أنّ لها كل الحق في أن تغضب.
رفعت فنجان الشاي برشاقة ثم سكبت محتواه في وجه إدوارد.
“…إليانور؟! ما الذي—”
“أكنتَ تظن أنني سأرش عليك الورود بعدما اعترفت أنك تحب أختي؟”
عضّ إدوارد شفته السفلى بمرارة وهو يقطر بالماء الساخن.
“…أشعر بالأسف تجاهك، لكنني حقًا أحب ليديا. أقولها بصدق.”
كان صوته مفعمًا بالعاطفة، أكثر مما أظهره يومًا طوال عامين من الخطبة. لم يقل لها قط كلمة “أحبك”، لكنه الآن يسكبها بسهولة على أختها.
رغم ذلك، فقد أحبّته يومًا ما. تبسمت إليانور ابتسامة خاوية. لم يرها إدوارد كما هي، بل لم يرَ فيها إلا صفة واحدة: “أخت ليديا”.
‘تبًّا لهذا القدر.’
مهما حاولت، لا فكاك منه. نهضت إليانور بهدوء وهي تلتقط مظلتها المطرزة بالدانتيل. ارتفع نظر إدوارد يتابعها.
قالت بصوت بارد:
“اعتبر خطوبتنا منتهية. وسأمنحك نصيحة واحدة.”
تجمّد بصرها الأزرق وهو يحدّق في إدوارد من علٍ:
“ليديا لن ترتبط أبدًا برجل تافه مثلك. من يتوددون إليها من الرجال أفضل منك إلى درجة أنك لن تجد بينهم موضع قدم.”
تشنّج وجه إدوارد مجددًا، كاشفًا عن غيرة ونقص دفين. ضحكت إليانور باستهزاء.
أتظن أنني وحدي من يتألم؟
ما دامت لن تراه مرة أخرى، فلماذا تمنحه خاتمة جميلة؟
“إليانور، أنتِ…”
“لا أريد أن أرى وجهك ثانية. إنك تثير اشمئزازي.”
بهذه الكلمات أنهت إليانور الحديث وغادرت المقهى بلا أدنى تردد. نشرت مظلتها وسارت نحو عربة العائلة. سارعت الخادمة التي كانت بانتظارها إلى فتح الباب.
اعتلت إليانور العربة، وبمحض الصدفة التقت عيناها بنظرة إدوارد الذي كان يرمقها من بعيد. رجل أحمق. سواء تزوّجها أم لا، فلن يكون له أي نصيب مع ليديا. فليديا مختلفة تمامًا، متألقة إلى حدّ أن شخصًا عاديًا ومبتذلًا مثل إدوارد لن يُمنح حتى فرصة للاقتراب منها.
“انطلق.”
ما إن صدر الأمر حتى تحركت العربة، وحوّلت إليانور بصرها عن النافذة.
—
لقد مضت إحدى عشرة سنة منذ أن أصبحت جونغ هاي-يون هي إليانور ستيكوف.
كانت فتاة في العشرين، طالبة جامعية عادية، لها أب وأم يعملان موظفين وأخ يحاول الحصول على عمل. لكن عالمها تبدّل فجأة. ذات صباح استيقظت فإذا بها قد أصبحت إليانور ستيكوف ذات العشرة أعوام.
في ذلك العالم الغريب الذي أربكها، ظهرت أمامها ليديا ستيكوف. الأخت الصغرى الوحيدة لإليانور، والحبيبة المشرقة للرواية سيدتي العزيزة.
شَعرها الزهري بلون بتلات الورد، وعيناها الخضراوان الرقيقتان كلون البراعم الصغيرة، كانا يصرخان بوجودها الفريد. وجود يقول للعالم كله إنها البطلة الوحيدة المحبوبة في هذا العالم.
وعلى النقيض من ليديا، كانت إليانور بلا بريق. مجرد الأخت الثانوية للبطلة. شخصية هامشية لا يتذكرها أحد، حتى إن كثيرين لم يحفظوا اسمها واكتفوا بمناداتها: “أخت البطلة”. حتى جونغ هاي-يون نفسها لم تتذكر من هي إليانور إلا بعدما رأت ليديا بأمّ عينها.
“أنتِ إليانور. إليانور ستيكوف. أخت ليديا.”
حين علمت أنها أصبحت شخصية في رواية، عاشت فترة من الضياع. وفي حيرتها، أمسك بها الكونت وزوجته، والدا ليديا، وقالا لها: أنتِ الأخت الكبرى للبطلة. وهكذا صارت إليانور ستيكوف.
لم يكن أمامها سوى أن تعيش هكذا. فالعالم خُلق لأجل ليديا، ومن الطبيعي أن تكون هي محوره ومحبوبة الجميع. لم يكن المركز لإليانور قط.
“هذه الآنسة ليديا ستيكوف. من بين كل التلاميذ الذين علّمتهم، هي الأذكى والأجمل. آه، وتلك الآنسة إليانور، شقيقة ليديا.”
هكذا قدّمها معلّم المنزل للآخرين، وكأنها مجرد مكمّل لوجود أختها.
“جوهرتي الغالية، ابنتي العزيزة ليديا! ها قد عاد والدكِ. هل استمتعتِ بيومكِ؟ آه، إليانور، أنتِ هنا أيضًا.”
كان الكونت، والدها، يعود كل مساء متشوقًا إلى ابنته الصغرى. يحملها بين ذراعيه ويدور بها مبتسمًا، بينما تقف إليانور على الهامش، كظلّ لا يلاحظه إلا بعد حين.
“آه… آنستي ستيكوف، المعذرة. كنت أبحث عن شقيقتك. ربما التبس الأمر على الخدم حين نادوا باسم ستيكوف. هل بإمكانكِ مناداتها؟”
هكذا واجهتها مرة أحد الحاضرين في حفلة. حتى هناك، كان الناس يبحثون عن ليديا وحدها.
كان من المفترض أن تُعرف البنت البكر بأنها الابنة الممثلة للعائلة، لكن في آل ستيكوف، اللقب ذهب إلى ليديا لا إلى إليانور.
“آنسة إليانور، أنتِ أخت ليديا، أليس كذلك؟ الأخت الكبرى يجب أن تحب أختها وتدعمها دائمًا.”
هذه الكلمات التي قالتها لها المربية يومًا ما جعلتها تدرك الحقيقة: ‘أنا مجرد أخت البطلة، شخصية ثانوية في عالم وُجد لأجلها.’
أدركت أنها روح تعيسة حوصرت داخل جسد الأخت الإضافية.
في هذا العالم المبني لأجل ليديا، لم يكن لإليانور سوى أن تبقى “الأخت الزائدة”.
“ليديا كم هي جميلة! عائلتها عريقة ووجهها كالملاك، أغبطها حقًا.”
“يكفي أن تتحدثي معها لحظات لتشعري بأن روحك صارت أصفى. لا عجب أن يحبها الجميع.”
“ليتني أقترب منها أكثر، سيكون رائعًا لو صرنا صديقتين.”
كالفرشات التي تنجذب للضوء، كان الناس يتهافتون نحو ليديا. يمدحون جمالها وأخلاقها ومواهبها وكل ما يتعلق بها.
الجميع أحبّ ليديا واعتنى بها.
وكانت إليانور مثلهم تمامًا، إذ إن حبها لأختها ورعايتها لها كانا قدرًا محتوماً.
فإليانور ستيكوف لم تكن سوى شخصية استهلاكية وُجدت لتُحب البطلة وتكرّس نفسها لها. وحين صارت جونغ هاي-يون هي إليانور، ورثت بدورها هذا الدور: دور الأخت الكبرى التي لا وجود لها إلا لأجل البطلة.
“أجل، سأفعل أي شيء من أجل ليديا. فأنا أختها الكبرى.”
هذا السطر المقتبس من الرواية كبّل جونغ هاي-يون التي أصبحت إليانور. صارت مضطرة أن تتنازل عن كل شيء وتُضحّي به في سبيل ليديا. فما من شيء خُلق ليكون لها، لأنها ليست سوى الأخت الزائدة للبطلة.
أما ليديا، فقد كانت تلمع ببريق لا يُقارب، بريق جعل أختها نفسها تعجز عن النظر إليها مباشرة. كانت ليديا محبوبة إلى حدّ أن العالم كله بدا وكأنه يدور حولها، محبة لدرجة تُبكي.
لكن الفراشات التي تجذبها الأضواء المبهرة لا بد أن تحترق في النهاية.
“إليانور، عليك التفكير في ليديا. فأنتِ أختها.”
“حتى في عينيكِ، لا بد أن ليديا تبدو في غاية الروعة، أليس كذلك؟ آه، بديهي، فأنت أختها.”
“تبدو علاقتكِ طيبة بليديا، آنستي. كما توقعت، أخت كبرى محبة وحنونة.”
“كما ظننت! إليانور ليست أختًا حقودة تغار من ليديا، بل أخت صالحة بالفعل!”
كان الناس يحشرون أقوال إليانور وأفعالها كلّها في قالب “أخت البطلة”. ولو حاولت أن تتجاوز هذا الدور، حتى قليلاً، انقلبوا عليها حالًا، ووسموها بالشريرة.
“إليانور… لم أتوقع هذا منك. في النهاية، أنتِ مجرد إنسانة حسودة، مثل غيرك، تكرهين ليديا.”
“كم هو مؤسف لليديا. أن تُضطر لوجود أخت كهذه! يا لها من مسكينة.”
“إليانور، كيف تفعلين هذا بليديا؟ إنها أختك! لا يجوز أن تسيئي إليها.”
“أيّ آنسة من آل ستيكوف كانوا ينادون؟ ليس تلك! لا أريد حتى التحدث معها، إنها مخيفة وموحشة.”
في عالم غريب لا تجد فيه من تأوي إليه، كان النبذ أمرًا مرعبًا. لذلك اجتهدت إليانور لتؤدي دورها كأخت البطلة بأمانة كاملة، كي لا تُقصى خارج عيون العالم.
كانت تحسب خطواتها كلها، وتتصرف دائمًا على أساس أنها مجرد “أخت البطلة”.
لكن حياة تعاش فقط في سبيل ليديا سرعان ما صارت مملة ومثقلة. لم تعد تحتمل أن تكون مجرد جسر يعبر عليه الآخرون للوصول إلى أختها.
‘إلى متى سأظل أعيش هكذا؟’
أرادت إليانور أن تتحرر من هذا الدور. فالوقوف بجوار من يضيء بالأنوار لا يعني إلا أن تُغرقك الظلال. مكان بارد، موحش.
هي لم تكن بطلة الرواية. ليديا هي البطلة. أختها الكبرى كيان مستقل عنها. فلماذا عليها أن تعيش فقط كـ”الأخت الزائدة للبطلة”؟
حاولت أن تأخذ ما لا تحتاجه ليديا. فالعالم وإن كان يدور لأجل أختها، إلا أن ثمة أمورًا لا تخصها، ويمكن أن تؤول إلى إليانور.
لكن العالم لم يترك لها حتى تلك الفتات.
خطيبها الأول أحب ليديا. الثاني أيضًا. والثالث، إدوارد، لم يتردد في الاعتراف بأنه يحبها.
كل ما يخص إليانور كان في النهاية ينتهي عند ليديا، كأنها مجرد كوكب صغير يدور حول شمس عظيمة.
وكانت تقف بلا حيلة، تراقب الأشياء تتسرب من بين أصابعها. فما بيدها شيء لتفعله. إذ لم تكن بطلة هذا العالم.
ومع ذلك…
‘لقد تعبت.’
ثلاث فسخ خطبة، كفيلة بتدمير سمعة أي فتاة نبيلة، جعلت إليانور تستنزف كل طاقتها.
‘كفى. لا أريد أن أعيش بعد الآن كالأخت الزائدة للبطلة.’
في عالم كُتب على كل من فيه أن يحب ليديا، بقيت إليانور غريبة… ووحيدة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"