3
أخفضت إيريال رأسها بوجهٍ كئيب.
لم تكن تهتم إن أُهينت هي نفسها. لكن مجرد التفكير في أن رجلًا غريبًا تمامًا قد يُلام بسببها جعل قلبها يضيق دون سبب.
نطقت كلماتها بحذر، لكن لم يأتِ رد. ظلّ واقفًا هناك دون حراك، ينظر إليها فقط.
لو كان بإمكانها رؤية تعبيره في مثل هذه اللحظات لكان ذلك جيدًا.
وسط مشاعرها المعقدة، تسلل صوتٌ جهوريٌ خافت.
«أشعر ببالغ الامتنان، لكن لا داعي لمثل هذه القلق. الزواج من آل الدوقية قرارٌ اتخذته لأنه سيكون مفيدًا لي أيضًا. من يجرؤ على الاعتراض؟»
«أشكرك على التعزية، لكن لا ينبغي الجزم بهذا…»
«لستُ أقبل بكِ رحمةً بكِ».
أغلقت إيريال فمها أمام النبرة الهادئة لكن الحازمة.
«هذا زواجٌ يتم بالتراضي المتبادل. أنا الذي اخترتُ، وأنا الذي قررتُ قبول الأميرة. أما الآراء الأخرى فمسائل ثانوية فحسب».
تبع الكلمات التي انهالت كالرصاص تنهيدةٌ خفيفة.
تقلّصت إيريال عنقها أمام النبرة الجافة، ونظرت إليه. دار صمتٌ غامضٌ يصعب تفسيره بينهما.
«حسنًا».
كانت إيريال من كسر الجو أولًا. مسحت عصاها بإبهامها واستطردت بهدوء:
«لا فائدة من القلق المسبق. سأثق بكلامك وأتبعه. قلت إن الزفاف الأسبوع القادم؟»
«نعم».
«من الأفضل أن أرتب أموري الشخصية مسبقًا. أرجو العناية بي في المستقبل».
أمسكت إيريال بطرف فستانها بيدها الفارغة وانحنت بعمق.
في رؤيتها الغائمة بلا ألوان، مرّ شعرها الأسود بلطفٍ على حافة الرؤية ثم اختفى.
أنهت تحيتها بأناقة، ثم أمسكت عصاها وعدّلت وقفتها.
في عالمٍ يشبه مسرحية الظلال الغريبة، كان الظل الأحمر يحدّق فيها من الأعلى بنفس الوضعية السابقة.
واجهت إيريال الظل بعينيها وقالت:
«إذا انتهى كلامك، هل يمكنني المغادرة أولًا؟ جئتُ لرؤيتك مباشرةً فور وصولي إلى القصر، ولم أفرغ أمتعتي بعد».
أومأ بيرتفالد برأسه، فانحنت إيريال تحيةً مهذبة.
نظرت إليه بعينيها غير المرئيتين مرةً واحدة، ثم دارت دون تردد.
تمايل شعرها الأسود الناعم كالحرير مع حركتها، ولم يبقَ في مكانها سوى صوت «طق طق» لعصاها وهي تضرب الأرض.
خرجت إيريال من الغرفة بمهارةٍ في استخدام عصاها، كأنها شخصٌ لا يرى شيئًا على الإطلاق.
كليك، أغلقت الباب خلفها، ثم تأكدت أن الرواق خالٍ، فنظرت إلى عصاها المألوفة بنظرةٍ خاطفة.
صوت العصا المعتاد بدا اليوم بائسًا بشكلٍ خاص.
* * *
لا يولد البشر دائمًا بأشكالٍ صحيحة.
قد ينقصهم عدد أصابع اليدين أو القدمين، أو تكون أجسادهم ملتوية، أو يفتقدون عضوًا ضروريًا.
حقيقةٌ بديهية، لكن معظم الناس ينسونها ويعيشون.
السبب بسيط. الأطفال الذين يولدون بمثل هذه العيوب إما يموتون قبل الولادة، أو أثناءها، أو بعدها مباشرة؛ ثلاث حالات تجعل وجودهم نفسه مجهولًا.
معظم مواطني الإمبراطورية لم يكن لديهم ترف احتضان طفلٍ معاقٍ ورعايته.
بالنسبة لهم، كان هؤلاء الأطفال ليسوا من نفس العرق، بل كائناتٍ ولدت بلعنة، لا أكثر ولا أقل.
لو كانت إيريال قد ولدت بعاهةٍ واضحة، لربما حصلت على راحةٍ أبدية فور ولادتها دون الحاجة للكفاح من أجل البقاء.
لكن، وللأسف، كانت عاهة إيريال إعاقةً بصرية يصعب اكتشافها فورًا، واعتقد والدا دوق آيغيس أن ابنتهما البكر ذات الشعر الأبنوسي والبشرة البيضاء الناعمة مجرد طفلةٍ جميلةٍ ورقيقة.
عندما اكتشفوا بعد نصف عام أن هناك مشكلة في عيني الطفلة، كانت أخبار ولادة الأميرة قد انتشرت على نطاقٍ واسع.
أصبحت حياة الأميرة التي لم يعد بإمكانها الموت أقسى مما توقعت.
لكن السبب الوحيد الذي جعل حياة إيريال ليست كئيبةً إلى هذا الحد كان بفضل أمها الحنونة.
«إيريال، ليس الآخرون من يقررون حياتك. إذا اعتقدتِ أنكِ سعيدة فأنتِ سعيدة، وإذا اعتقدتِ أنكِ تعيسة فأنتِ تعيسة. أيّهما تفضلين؟»
سؤالٌ بسيط، لكن إيريال فهمت المغزى المخفي. كانت أمها تسألها إن كانت مستعدةً لتكون سعيدة.
وأجابت الذكية بما كانت أمها تتمناه:
«إيريال تريد أن تكون سعيدة. تريد أن تصبح شخصًا يضحك كل يوم مثل أمي».
أرادت أن تضحك. لذا تعلمت التسامح والتفهم قبل كراهية الآخرين.
نحتت قلبها مرةً تلو الأخرى حتى أصبحت متواضعة.
…هل أصبحت سعيدة؟
كانت تعتقد أنها سعيدة حتى الآن، لكنها الآن لم تعد متأكدة.
هل يمكنها أن تكون سعيدةً بمفردها في مكانٍ لا عائلة فيه؟
«العروس، إيريال آيغيس».
رفعت إيريال رأسها تلقائيًّا عندما اخترق صوتٌ أفكارها. من خلف البرقع الأبيض، رأت ظلًّا رماديًّا يحدّق فيها.
قبعةٌ عاليةٌ مدببة، وفي اليد قطعةٌ مقدسة؛ كشفتا عن هوية الظل الرمادي.
أسقف الكنيسة.
أدركت إيريال أنها في منتصف حفل زفافها، فطردت أفكارها بسرعة.
نظر الأسقف إليها بتوتر، ثم رفع صوته قليلًا وسأل مرةً أخرى:
«العروس، إيريال آيغيس. هل تقسمين بالموافقة على عهد الزواج؟»
«آه، نعم! أقسم».
ما إن أجابت حتى انتشر ضوءٌ أصفر خافتٌ كتموجاتٍ من وسط الظل الرمادي.
لونٌ أصفر يعكس الارتياح. كلما رأته شعرت بالدفء، فتنهدت إيريال تنهيدةً خفيفةً لا تُسمع.
«بيرتفالد يانسيل، هل تقسم أنت أيضًا بالموافقة على عهد الزواج؟»
«أقسم».
أومأ الأسقف برأسه للإجابة الخالية من الحماس، ثم أدى واجباته بسرعة: توقيع وثيقة الزواج، تبادل خواتم الزفاف، شرح قواعد الأخلاق في الحياة الزوجية. وأخيرًا، أمر الزوجين بمواجهة بعضهما.
دفعت إيريال فستانها الثقيل جانبًا، ودارت نحو بيرتفالد. امتلأت رؤيتها الغائمة بظلٍّ أحمر قانٍ.
رغم أنها التقت به عدة مرات أثناء التحضيرات، إلا أن هذا القرب جعل اللون الأحمر الدموي يبدو أكثر كثافة.
كبحت شعورها بالانكماش، وانحنت قليلًا كما أمر الأسقف.
«الآن، ارفعي البرقع. من الآن فصاعدًا، يجب أن تواجها بعضكما بصدق، دون أن يعيق الرؤية كذبٌ أو إغراءٌ زائف».
كانت اليد التي رفعت البرقع أكبر وأطول بكثير من أي يد رأتها من قبل.
راقبت إيريال حركة اليد، وتساءلت لماذا عادت ذكريات الماضي فجأة.
بعد انتهاء هذا الزفاف، لن تكون إيريال آيغيس بعد الآن، بل إيريال يانسيل.
كانت تظن أنها عاشت حياةً مشرقةً بالخضوع للقدر، لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك.
ثقتها التي ملأت رأسها تبخرت دون أثر.
هل تستطيع العيش بجدٍّ في مكانٍ خالٍ من الأم والعائلة؟ امتلأ صدرها الفارغ بالقلق والخوف، فأغرق مزاجها في الكآبة.
«أيتها الأميرة، أمسكي يدي».
مع صوتٍ جهوريٍّ منخفض، أمسكت يدٌ كبيرة بيدها. قادها بيرتفالد ببطء نحو وسط الكنيسة، محدّقًا أمامه.
تساقطت بتلات الزهور في الهواء، ودوّى صوت الأورغن بوقار.
خلف تصفيقٍ فارغٍ كالخلفية، مرّ بكاءٌ خافتٌ جدًّا على أذنيها.
في اللحظة التي شعرت فيها أن الصوت مألوف، قال:
«يبدو أن الدوقة كانت تحب الأميرة كثيرًا».
كأنه خمّن أفكارها، فارتجفت إيريال وقبضت على يده بقوة.
«ذلك البكاء… هل هو أمي؟»
تردد بيرتفالد لحظة، ثم أجاب بنبرةٍ ألين:
«أي إجابة ستكون تعزيةً لكِ؟»
ابتسمت إيريال ابتسامةً غريبة، بين الضحك والبكاء، أمام النبرة الساخرة.
لم تجب، بل وجّهت بصرها نحو مصدر البكاء. بالطبع، كان من المستحيل تمييز أمها وسط الحشد الداكن المتشابك.
لم تتوقع أبدًا أن تبكي أمها في مثل هذا الموقف. فقد كانت دائمًا مشرقة.
لكن الآن فقط، بدأت تشكّ في أن تلك الإشراقة كانت مجرد مراعاةٍ لها.
كانت أمها دائمًا مراعية. كانت تعاملها كإصبعٍ مؤلم، ومع أخيها، عارضت الزواج حتى النهاية لتحتضنها.
أمها التي كانت دائمًا تمنح الحب بلونٍ ورديٍّ هادئ. أمها التي كانت دائمًا في صفّها.
لكن يا أمي،
أنتِ تعلمين أنني لا أصبح تعيسةً بسهولة. أنا أكثر مهارةً في البحث عن السعادة من التعاسة.
…فذلك كل ما علمتني إياه.
«أم… سيدي الكونت».
«نعم، أيتها الأميرة».
«عندما أعتاد على المقاطعة بعد مرور الوقت… هل يمكنني دعوة أمي إلى هناك؟»
بعد صمتٍ قصير، جاء الجواب فاترًا بعض الشيء:
«افعلي ما تشائين».
كان ردًّا خاليًا من الحماس، لكنه كان كافيًا الآن.
من خلف أبواب الكنيسة، كانت السماء تتلألأ بياضًا ناصعًا.
السماء البيضاء التي تربط الجميع دائمًا. على أي حال، تحت السماء نفسها، فما الفرق بين دوقيةٍ أو مقاطعة كونت؟
حتى لو كان هذا الزواج بيعًا باردًا،
…حتى لو لم يكن للزوج أي مشاعر تجاهها.
إضافة تعاسةٍ أخرى إلى حياةٍ تعيسة أصلًا لن تجعل الحياة تنهار في هاويةٍ لا نهاية لها.
بل، ماذا لو سقطت في الهاوية؟ إذا وصلت إلى القاع،
فإن سعادةً صغيرة ستكفي لأرفعني مجددًا، وربما تكون أسهل طريقة للعثور على السعادة.
شدّت على يده. كانت اليد الكبيرة تنقل دفئها إليها.
اعتمد قلبها على ذلك الدفء، وأغمضت إيريال عينيها غير المرئيتين ببطء.
‘بعد أن فُسخت خطبتي مراتٍ عديدة وأنا أتزوج الآن، أرجوكِ،’
‘…لا تجعل هذا الرجل يتخلى عني.’
ترددت كلماتٌ صغيرة بصمتٍ حول شفتيها.
* * *
بعد انتهاء الزفاف، توجه بيرتفالد وإيريال جنوبًا.
مقاطعة عائلة يانسيل، جوهرة الجنوب: باهار. على شاطئٍ واسعٍ يصدح فيه صوت الأمواج كأغنيةٍ تهدهد، كا
ن قصر الكونت الذي سمعوا عنه فقط يقف بفخامةٍ ينتظر صاحبه.
مرت أيامٌ حافلةٌ بالانشغال حتى في مجرد التأقلم، وقبل أن تعتاد إيريال على مناخ الجنوب الدافئ، رأت حلمًا.
…ذلك الحلم التنبؤي المزعج الذي يجلب دائمًا الحوادث والنحس.
التعليقات لهذا الفصل " 3"