3
ظهرت حديقة تغمرها أشعة الشمس الدافئة أمام ناظري.
عبق التربة الناعمة وصوت أمي اللطيف ملأ المكان.
“هذا العشب يساعد على تهدئة القلق ويُريح العقل.”
همست أمي بلطف وهي تسلّمني عشبة مغطاة بالتراب.
ابتسمتُ بفرح وأخذتها منها.
“أمي، أنتِ مريضة، لذا تناولي هذه. يومًا ما، سأزرع الكثير من الأعشاب وأشفيك تمامًا!”
اكتفت بابتسامة دافئة واحتضنتني. حينها، لم أفهم الحزن الخفي في عينيها.
تبدّلت المشاهد. كانت جنازة أمي.
الحديقة العشبية التي كانت تحبّها أصبحت مهجورة، وغرق والدي في الكحول كل يوم.
ثم في أحد الأيام، دخلت امرأة غريبة القصر برفقة فتاة صغيرة.
قال لي أبي أن أناديها بـ”زوجة أبي”.
وأصبحت تلك الفتاة الجميلة، التي تشبه الدمى، أختي.
“أختي، تبدين تمامًا كأميرة من حكاية خرافية! تمامًا كالدُّمية هذه!”
كانت راشيل صديقتي الوحيدة، رغم أنها كثيرًا ما كانت تأخذ أشيائي وتعبث بمقتنيات والدتي دون إذن.
وبينما كان أبي ثملًا دائمًا وزوجة أبي تعاملني كغريبة، كانت راشيل الوحيدة التي تبتسم في وجهي.
مرت المواسم، وفي عيد ميلادي العاشر، توفي أبي وزوجة أبي في حادث عربة.
ولأن الإمبراطورية لا تسمح للنساء بوراثة الممتلكات، آلت ثروة والدي إلى ابن عمي، بيير.
وبصفته سيد الأسرة الجديد، بدأ بيير بتبذير المال على القمار والكحول.
وكما هو متوقع، انهارت ثروة العائلة، وسرعان ما غرقنا في الديون.
وعندما فشلت آخر مشاريعه التجارية، بدأ يُهينني، واصفًا إياي بالعديمة الفائدة.
وفي كل مرة كان يقلب مائدة الطعام وهو في نوبة غضب ثمل، كنت أهرب إلى الحديقة—
الركن الوحيد الذي يحتفظ بذكريات والدتي.
زرعت الأعشاب واعتنيت بها في زاوية صغيرة من الحديقة.
كان ذلك عزائي الوحيد.
“أسيلين، أدويتك مذهلة. هل يمكنكِ أن تعلّمينني المزيد عن طب الأعشاب؟”
بتشجيع من خطيبي، أليكس، عملت بجد أكبر، وزرعت أنواعًا عديدة من الأعشاب.
حفرت في التربة حتى اسودّت أطراف أصابعي، وسقيت النباتات، وجرّبت مزج التركيبات.
ومن خلال بحثٍ لا يعرف الكلل، اكتشفت علاجات فعالة.
مع الوقت، توسعت أدويتي من مراهم إلى حبوب.
“حتى حشرة عديمة الفائدة تملك موهبة، ها؟
دعونا نرى ما إذا كان بإمكانك أن تكوني مفيدة للعائلة حقًا.”
مع تزايد أرباح أدويتي، تغيّر موقف بيير.
ولأول مرة، شعرت أنني معترف بي.
لم أكن أعلم أنه ينوي استغلال نجاحي ولم يرَ جهودي إلا وسيلة لجني المال.
“ابنتي العزيزة، ضعي سعادتك فوق كل شيء. طالما أنكِ بصحة جيدة وسعيدة، فهذا يكفيني.”
أنا آسفة، أمي.
انسابت الدموع على وجنتي.
—
“..آنسة، هل أنتِ مستيقظة؟”
فتحت عينيّ المغرورقتين بالدموع.
“..دانا؟ أأنتِ من يتحدث؟”
“نعم، أنا! كنت قلقة جدًا عندما سقطتِ فجأة بالأمس!”
“..لقد سقطتُ؟”
“ألا تتذكرين؟”
نظرت دانا إلى وجهي بجدية.
“لقد صفعتِ الآنسة راشيل على وجهها، ثم أغمي عليكِ فورًا ونمتِ طوال اليوم.”
اتسعت عيناي بينما كنت أستعيد ذاكرتي.
تذكّرت لسعة الصفعة في كفي، وذهول راشيل، ووقوف أليكس بحرجٍ لا يعرف من يساند.
“..ها… هاها.”
انفجرت ضاحكة.
كان الأمر أشبه بمشاهدة دراما رخيصة.
“دانا، ما هو العام الآن؟”
“إنه العام الإمبراطوري 320.”
وجهت نظري إلى أشعة الشمس الصيفية الساطعة المتدفقة من النافذة.
آخر ما أتذكره قبل الحادثة كان سقوطي من الشرفة في اليوم الأخير من يونيو.
إذًا…
“هل اليوم هو الأول من يوليو 320؟”
“نعم. بالأمس تم تحديد موعد زفافك، وجاء الفيكونت أليكس لزيارتك.
لكن عندما أغمي عليكِ، اضطر للمغادرة. وقد عاد مؤخرًا وينتظرك في غرفة الاستقبال.”
عند سماعي لكلام دانا، غرقت في تفكير عميق.
320… هذا يعني أنني عدت إلى الماضي، قبل عامين بالضبط، عندما كنت في العشرين.
وفي أغسطس، كنت على وشك الزواج من أليكس…
ثم يتم استغلالي والتخلص مني، ليقودني ذلك إلى موتي.
لكن هذه المرة، لن أتزوج أليكس أبدًا.
لن أضيّع هذه الفرصة الثانية المعجزة على قمامة مثله.
استجمعت أفكاري وقلت:
“إذًا، أليكس ينتظر في غرفة الاستقبال؟”
“..أليكس؟ أوه، تعنين الفيكونت أليكس؟
نعم، قال إنه سينتظر لساعة، لذا من المفترض أنه ما زال هناك.”
من دون تردد، خرجت من الغرفة.
وأثناء سيري في الممر الطويل، بدأت مشاهد القصر المألوفة والباردة تظهر أمامي.
نظرت من النوافذ المقوسة ورأيت بقايا شجرة كرز قديمة.
تلك الشجرة، والحديقة بجانبها، كانتا المكان الوحيد الذي يحتفظ بذكريات دافئة—ذكريات والدتي.
“الأشياء عديمة الفائدة، سواء كانت أشجارًا أو أشخاصًا، يجب قطعها!”
تذكّرت تلك الليلة حين كان بيير ثملاً وأمسك بفأس وقطع الشجرة.
سرق دفتر أبحاثي واستعمله ليتخرّج كأول طالب في أكاديمية الإمبراطورية.
أخذ دليل علاجاتي العشبية وأنشأ تجارة، وحقق أرباحًا من جهدي.
لم أشتكِ قط. فقد اعتبرت أن شرفه كرئيس للعائلة أهم من شأني.
لكن عندما قطع الشجرة التي احتفظت بذكريات أمي…
حينها، كُسر قلبي فعلًا.
شعرت بوخز في أنفي من شدة التأثر، لكني ضغطت بأصابعي على عينيّ وتوجّهت إلى غرفة الاستقبال.
وقبل أن أصل إلى نهاية الممر—
“مهلا!”
صوت حاد ناداني.
توقفت في مكاني.
كان بيير يقترب من الطرف الآخر من الممر.
كان يسير بخطوات غير ثابتة، وشعره فوضوي تمامًا.
من الواضح… أنه كان يبحث عن أحد ليفرغ عليه غضبه.
لابد أنه ثمل مجددًا البارحة.
تجاهلته وتابعت سيري مباشرة.
لكن قبل أن أدرك، كان يقف أمامي، يربت على كتفي بإصبعه.
“هيه، ألم تسمعيني أناديك؟
لماذا لا تجيبين؟”
لا يزال كما هو. يناديني وكأنني كلبة ضالة.
نظرت إليه مباشرة وابتسمت بخفة.
“كنتَ تناديني؟”
“نعم، هل أذناكِ مسدودتان؟ لماذا تجاهلتني؟”
“لم أسمعك تنطق اسمي.”
“مستحيل. ناديْت عليك بصوت عالٍ!”
تجهم وجه بيير بعدم تصديق.
بدأ التوتر يزداد، فتراجعت خطوة.
ثم، أخذت نفسًا عميقًا وصرخت بأعلى صوتي:
“مهلااا!”
اتسعت عينا بيير وهو يمسك بأذنيه.
ابتسمت له بابتسامة بريئة.
“أوه، لكن اسمي هو أسيلين روندينيلا.”
“لابد أنكِ ضربتِ رأسك عندما سقطتِ من الشرفة. لماذا تصرخين فجأة؟”
“أنتَ صرخت أولًا، فظننت سمعك ضعيف. فقط أردت التأكد من أنك تسمعني جيدًا.
أما عن إخباري لكَ باسمي، فقد ظننت أنك لا تعرف أبسط آداب الحديث.”
“ولم لا أعرف الآداب؟ هل تحاولين تعليمي، أنا، سيد هذه العائلة؟”
“عندما تنادي أحدهم، تنطق اسمهليس ‘مهلا’. هذا أمر بديهي.
سيد العائلة ما لازم ينبح مثل كلب ضال، أليس كذلك؟
هذا سيكون… تصرف جاهل.”
“مـ مـاذا؟ كلب؟… جـاهل؟”
كادت عيناه تخرجان من مكانهما.
ثم ضيّقهما بابتسامة ساخرة.
“”فقط لأنكِ تستطيعين صنع بعض الأدوية، هل تعتقدي أنك مهمة؟
في النهاية، أنتِ مجرد امرأة.
مهما كنتِ جيدة، فأنتِ لا تساوين أكثر من علكة ملتصقة بأسفل حذاء رجل.
فكوني امرأة مطيعة واغلقي فمك!”
رجل عديم الفائدة، يتفاخر فقط لأنه يملك شيئًا إضافيًا.
كتمت تثاؤبًا وأنا أشاهده ينبح ككلب.
“مهلا، هل تسمعينني؟
ماذا عن الدواء الجديد؟”
عند صراخ بيير، عادت إليّ ذاكرة فجأة.
آه، صحيح… في هذا الوقت تقريبًا، كنت قد طوّرت مرهمًا خاصًا.
“بالأمس كان عرض المستثمرين للدواء الجديد، لكنك سقطتِ من الشرفة مثل الحمقاء!
هل تعلمين كم سببتي لي من مشاكل ؟!”
صوته كان كقِطَار بخاري غاضب.
لقد كان يتباهى في كل مكان وكأنه صيدلي محترف.
حسنًا، الآن يمكنه أن يتذوّق بعض المعاناة.
رمشت بعيني، ثم ابتسمت له ابتسامة مشرقة وفتحت فمي لأتحدث…
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "3"