**الفصل 86**
بينما كانَ الشّيطانُ المسكينُ يبحثُ عن الرّوح، ابتسمَ إليورد لي بمرح.
“أليسَ لطيفًا؟ يتمرّدُ بعنادٍ لكنّه يخضعُ في النّهاية. له طعمُ التّرويض.”
‘شيطانٌ بحقّ!’ فكّرتُ أنّني لو وقّعتُ اتّفاقًا معه، سأقعُ ضحيّةَ ذوقه الشّرير. ‘لن أوقّعَ أبدًا!’
بعدَ حوالي ثلاثِ دقائق، استدارَ إليورد نحوَ مكانٍ ما.
“هل وصلتَ؟ إذا وصلتَ، ارسمْ دائرة.”
رسمتْ دائرةٌ على الأرضِ فجأة.
‘أليسَ هذا مثلَ لعبةِ استدعاءِ الأرواح؟’
فوقَ دائرةِ الاستدعاءِ على الأرض، بدأ شيءٌ غامضٌ يطفو.
“رو… روح!”
ما إنْ رأيتُ الشّكلَ ذا الشّعرِ البنّيِّ الطّويلِ يرتفعُ من الأرضِ حتّى توقّفَ نفسي. كانَ له ذراعٌ نحيلةٌ مع عظامٍ بارزة، وعيونٌ غائرة، شبحٌ بلا شكّ.
“إعطاءُ إجابةٍ لمن لم يوقّعْ اتّفاقًا هو أمرٌ مرهقٌ ومزعجٌ ومُتعب. وأنتِ، سيّدتي، لا تُكافئينَني حتّى.”
تذمّرَ إليورد وهو يمرّرُ يدَه في شعرِه الأبيضِ البلاتينيّ.
لم أهتمَّ بكلامِه، كنتُ متشبّثةً بذراعِه كالكوالا، أرتجفُ خوفًا.
“سيّدتي، لماذا تخافينَ روحَ إنسانٍ أكثرَ من شيطان؟ حسنًا، رؤيتُكِ مرتعبةً تُشعرُني بالرّضا.”
“آه، آه…”
“هيّا، قدّمي التّحيّة. هذه والدةُ الفتاة.”
“أ، مرحبًا؟ أوّلُ مرّةٍ نلتقي؟”
كنتُ خائفةً جدًا، فخرجَ صوتي غريبًا. استدارَ الجسمُ الرّوحيُّ الضّبابيُّ ببطءٍ ونظرَ إليّ.
تشيييك- تشيييك-
بدأتْ موجاتُ الرّاديو على الطّاولةِ تتغيّرُ تلقائيًا، وتخلّلتْ كلماتٌ وسطَ الضّوضاء.
“كيكيك- جي، ني.”
كأنّ الرّوحَ تختارُ الكلماتِ التي تريدُ قولَها عبرَ الرّاديو.
أشارَ إليورد إلى الرّاديو بعينيه.
“اعتقدتُ أنّ سماعَ كلامِ الموتى مباشرةً سيكونُ أكثرَ مصداقيّةً من ترجمتي.”
“ألا يمكنُكَ التّرجمةُ فقط؟”
‘هذا الموقفُ مرعبٌ جدًا! من الآنَ فصاعدًا، كلّما رأيتُ راديو، سأفكّرُ بالأشباح. هذا الصّوتُ مخيفٌ جدًا!’
لكنْ سرعانَ ما توقّفتُ عن التّفكير.
“جيني، تشييك- أينَ هي.”
رؤيةُ الرّوحِ قلقةً على ابنتِها حتّى بعدَ الموتِ جعلتني أراها أمًّا وليسَ شبحًا. جمعتُ شجاعتي، رغمَ جبني، وتقدّمتُ.
“جيني بصحّةٍ جيّدةٍ وتعيشُ بسعادة. لديها أصدقاءٌ تتفقُ معهم، وقبلَ فترةٍ أقمنا حفلةَ عيدِ ميلادٍ معًا. الآنَ تعيشُ في منزلٍ جيّد، ترتدي ملابسَ جميلة، وهي سعيدة.”
ابتسمتِ الرّوحُ قليلًا، ثمّ غطّتْ وجهَها بيديها وانحنتْ. بدتْ وكأنّها تبكي.
شعرتُ بالأسى، ومددتُ يدي نحوَها متردّدةً. ‘كيفَ أواسيها؟’ بينما كنتُ أنظرُ إلى يدي الممدودةِ عبثًا، سألَ دانتي.
“هل يمكنُكِ إخبارُنا كيفَ توفّيتِ؟”
“في الجبهةِ الأماميّة، أثناءَ قتالِ الوحوش، وصلنا إلى حدودِنا. كنا نشتاقُ إلى ابنتِنا.”
كانتْ كلماتُها واضحةً رغمَ الضّوضاءِ الصّاخبة. لقد لاقتْ نهايةً مشابهةً لأصحابِ القوى الآخرين.
“أب الطّفلةِ بدأ يتحوّلُ إلى شيطان.”
تشييك-
“تحوّلَ إلى وحشٍ واختفى. ذهبتُ للبحثِ عنه.”
تشيييك-
“مختبرُ الأسرارِ العسكريّة.”
تشييك-
“في النّهاية، لم أجدهُ ومتّ.”
تركتْ كلماتِها الأخيرةَ واختفتْ فجأة.
وقفتُ مذهولةً أنظرُ إلى المكانِ الذي كانتْ فيه. ثمّ عبّرتُ عن قلقي الذي كانَ يراودُني من قبل.
“سيّد إليورد، هل ذلكَ الوحشُ هو والدُ جيني؟”
تضيّقتْ عينا إليورد الحمراوان.
“نعم.”
‘لم أكنْ أتوقّعُ أنْ يكونَ فعلًا والدَها!’
تذكّرتُ لحظةَ سقوطِ الوحشِ وتلاشي عينيهِ الحمراوين، فتصلّبتْ أصابعي.
“هل يمكنُ استدعاؤه؟ أريدُ سماعَ قصّتِه.”
حتّى لو تأخّرتُ، أردتُ مساعدتَه ولو متأخّرًا.
لكنّ إليورد هزّ رأسَه.
“روحُه فاسدةٌ بالفعل، فهذا مستحيل.”
تحدّثَ دانتي، الذي كانَ يستمعُ بهدوء.
“يبدو أنّه هربَ من مختبرِ الأسرارِ العسكريّةِ الذي ذكرتْه والدةُ جيني.”
‘ربّما يكونُ المختبرُ مكانًا يُعزلُ فيه أصحابُ القوى الذينَ يتحوّلونَ إلى وحوش.’
‘إذا تحوّلوا إلى وحوش، يُقتلونَ عادةً، فماذا كانوا يفعلونَ بهم في المختبر؟’
تذكّرتُ جيني وهي تبكي وأذناها متدلّيتان، فشعرتُ بألمٍ في قلبي. ‘هل هربَ لأنّه اشتاقَ إلى ابنتِه؟’
‘معرفةُ دارِ الأيتامِ الدّقيقةِ بوالدَيْ الأطفال، وكونُ الوالدينِ من أصحابِ القوى…’
‘إذن، أطفالُ الدّارِ هم أبناءُ أصحابِ القوى الذينَ تجاوزوا حدودهم وفقدوا السّيطرة.’
‘هؤلاءِ الأطفالُ قدْ يواجهونَ نفسَ مصيرِ والديهم عندما يكبرون، والأطفالُ الجُددُ سيصبحونَ يتامى ويذهبونَ إلى الدّار، وهكذا تتكرّرُ الدّورةُ المؤسفة.’
تذكّرتُ معاملةَ عمّتي وزوجِها القاسية، فشعرتُ بألمِ الذّكرياتِ كندبة. تحمّلتُ لأنّني كنتُ أعرفُ أنّ بإمكاني فعلُ الكثيرِ عندما أكبر، لكنَّ الأطفالَ لا يعرفونَ شيئًا.
“قدري، سأعودُ إليه بالتّأكيد.”
تذكّرتُ صوتًا بعيدًا من الماضي، الصّوتَ الوحيدَ الذي بقيَ في ذاكرتي عن والدي.
غمرني شعورٌ غامضٌ وكأنّ شيئًا يعتصرُ قلبي. لم أعرفْ ما هو هذا الألمُ الحادّ. ‘هل هكذا يكونُ شعورُ القلبِ المتصدّع؟’ كلّما فكّرتُ، ازدادَ الألم.
شعرتُ بفراغٍ وكأنّني نسيتُ شيئًا مهمًا. فجأة، ناداني دانتي بصوتٍ هادئ.
“سيّدتي.”
كانتْ عيناهُ الزّرقاوانِ تنظرانِ إليّ بحزنٍ عميق.
“سنبحثُ عن مختبرِ الأسرارِ العسكريّة. كما تعلمين، ما سنفعلُه قدْ يكونُ خطرًا. الطّائفةُ تراقبُكِ بصفتِكِ مديرةَ القصر.”
أضافَ إليورد وهو ينظرُ إليّ.
“الطّائفةُ تعتقدُ أنّكِ ستورثينَ قوّةَ المديرِ الأوّل. يرونَ أنّ حجرَ الحكماءِ هو الوسيطُ لاستخدامِ تلك القوّة.”
نظرَ دانتي إليّ بحزن.
“أتمنّى أنْ تعيشي حياةً عاديّةً بعيدًا عن كونِكِ صاحبةَ قوى.”
‘إذن، هل يعني أنّهم سيستبعدونَني من الآنَ فصاعدًا؟’
‘ربّما يستغلّونَني مثلَ أصحابِ القوى الآخرين، أو أكونُ عائقًا.’
‘هل سأبقى وحدي بعدَ أنْ يغادرَ الجميع؟’ شعرتُ بالوحدةِ من مجرّدِ التّفكير.
‘أعرفُ أنّني لستُ مميّزة. لهذا كانوا يقضونَ على المتسلّلينَ خلسةً أثناءَ نومي، ويخرجونَ للتّحقيقِ دونَ علمي.’
‘لكنْ قلّةٌ هم مَنْ يُولدونَ عظماءَ من البداية.’ ابتلعتُ الواقعَ المريرَ وشددتُ قبضتي.
“سيّد دانتي، لم أكنْ عاديّةً يومًا. ولم أكنْ استثنائيّةً أيضًا.”
سادَ صمتٌ ثقيلٌ بعدَ توقّفِ كلامي. ‘حياتي، التي لا تملكُ سوى ذكرياتِ حياةٍ سابقة، لم تكنْ عاديّةً أبدًا.’
“العيشُ بعاديّةٍ لا يعني تركَ المخاطرِ والمسؤوليّاتِ للآخرينَ في حياةٍ جبانة. يتطلّبُ الأمرُ جهدًا لتعويضِ النّقص. لماذا تستبعدونَني؟ تتآمرونَ معًا في الخفاء! تنتهكونَ قواعدَ صاحبةِ المنزل، تتسلّلونَ ليلًا في الخفاء! تستحقّونَ عقابًا إلهيًا…”
أردتُ أنْ أطالبَ بفرصةٍ لإثباتِ نفسي، لكنّ كلامي خرجَ مشوّشًا مليئًا بالحزنِ والغضب.
فتحَ دانتي عينيهِ بدهشةٍ وصمتَ لحظة، ثمّ تحدّثَ بهدوء.
“لم أقصدْ أنْ لا تفعلي شيئًا.”
نظرتُ إلى عينيهِ الزّرقاوينِ وأنا أتنفّسُ بغضب.
“إذن، ما المقصود؟”
“لو كنتُ أريدُ ذلك، لما درّبتُكِ بقسوة. أردتُ فقط ألّا تُستغلّي مثلَ أصحابِ القوى الآخرينَ أو المديرِ الأوّل. من الآنَ فصاعدًا، سأجعلُكِ أقوى من أيّ شخصٍ لحمايةِ حياتِكِ العاديّة.”
‘ماذا؟’
‘هل ينوي تحويلي إلى سلاحٍ بشريٍّ قوي؟’
‘مَنْ يُصبحُ الأقوى في العالمِ فقط ليعيشَ حياةً بسيطةً عاديّة؟ ما مفهومُ العاديّةِ لديكَ؟’
‘أليسَ من المعتادِ أنْ يُطلبَ منّي البقاءُ بعيدًا لأنّ الأمورَ خطرةٌ ولكي لا أُسبّبَ المشاكل؟ كنتُ أظنّه يعني ذلك.’
لكنّ هذا الرّجلَ لم يكنْ يفكّرُ كالبقيّة.
“كما قلتِ، سيّدتي، الحياةُ العاديّةُ لا يحميها الآخرون، بل تُكتسبُ وتُحافظُ عليها بيديكِ. سنواجهُ طوالَ حياتِنا طمعَ مَنْ يريدونَ أخذَ ما ليسَ لهم.”
انحنى دانتي ليُساويَ عينيهِ بعينيّ. كانتْ عيناهُ الزّرقاوانِ الغامضتانِ تتراقصانِ معَ أنفاسِه.
“بدلًا من الهروبِ أو الاختباء، أفضّلُ القضاءَ على العوائق. هذه طريقتي.”
‘صحيح، هذه طباعُه. لا يبحثُ عن طرقٍ أخرى، بل يواجهُ ويُحطّمُ ليصنعَ الطّريق. هل يطلبُ منّي الانضمامُ إلى هذا التّدمير؟’
مدَّ يدَه إليّ وأكمل.
“نحتاجُكِ معنا، سيّدتي. هل ستنضمّينَ إلينا؟”
—
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 86"