### الحلقة 76
توقّفتُ عن التّنفّس دون قصد عند سماع صوته المنخفض المنساب بنعومة.
“لماذا تحبّه؟”
شعرتُ بوخز غريب، فأشحتُ بنظري بسرعة وسألت. حتّى لو كان الجوّ غريبًا، لا أستطيع كبح فضولي.
“عندما أُرسلتُ إلى كرومسيل في المنطقة القطبيّة، رأيتُ شفقًا قطبيًا في ليلٍ طويل. كان ضوء الأبسنت الذي ينير عالمًا بلا نهار جميلاً، لا يزال عالقًا في ذاكرتي.”
أشار دانتي إلى النّافذة المصبوغة بضوء الفجر الباهت.
“لا يُرى في الإمبراطوريّة، لكن أريد أن أريكِ إيّاه يومًا ما. ستحبّينه بالتأكيد، سيدتي.”
“نعم… سأريكِ أنا أيضًا كلب هاسكي رائع يعيش في سيبيريا في المرّة القادمة.”
خدشتُ مؤخرة رأسي بحرج وقلتُ أيّ شيء.
“مشاهدتكِ تُسعدني، سيدتي.”
أطلق دانتي ضحكة خافتة. ظهرت أسنانه البيضاء من بين شفتيه المفتوحتين قليلاً.
يبدو وجهه الضاحك كصبيّ. حدّقتُ في ابتسامته التي كأنّها تذيب الجليد، ثمّ انتبهتُ فجأة.
“أم… متى ستُريني إيّاه؟ الشفق.”
“بعد أن ننهي ما يجب تسويته، وبعد أن تفتتحي أنتِ وإيجيكل المخبز. سآخذكِ حينها. متى ستأخذينني أنتِ؟”
“إذا ذهبنا في يومين متتاليين في نفس الفترة سيكون مناسبًا. سيبيريا وكرومسيل متجاورتان كالجيران على أيّ حال.”
كنتُ أعلم أنّنا لا نستطيع الذّهاب الآن. تلك منطقة صراع حاليًا. هل ستنتهي الحروب في كلّ مكان بحلول ذلك الوقت؟
الإمبراطوريّة… ستبدأ الحرب مجدّدًا قريبًا.
“بالمناسبة، متى ذهبتَ إلى المنطقة القطبيّة؟”
عند سؤالي، تحرّكت نظرة دانتي الممزوجة بذكرى خافتة في الهواء، ثمّ عادت إليّ.
“منذ زمن. كنتُ في السابعة عشرة.”
كان صوته هادئًا، لكنّه أصبح أثقل نهايةً.
كم تحمّل ليتحوّل من صبيّ إلى شابّ بأكتاف عريضة وطولٍ شاهق؟
رغم أنّه رجل أكبر منّي بكثير، شعرتُ برغبة في التّربيت عليه.
“كان البرد قارسًا بالتأكيد.”
هل لأنّني أعرف ماضيه الذي يريد إخفاءه؟ لم أجد تعليقًا مناسبًا للمواساة.
رفعتُ كوب القهوة البارد لأخفي تعبيري الكئيب.
“الجنود لا يشتكون من البرد.”
مدّ دانتي يده فوق الكوب، فدفئت القهوة وتصاعد منها البخار.
كأنّه يحاول تغيير الجوّ الثقيل، بدأ موضوعًا آخر.
“الخدمة الاجتماعيّة في الملجأ أو دور الرّعاية لن تكفي، لذا سأضطرّ لتقديم طلب خدمة دوريّة.”
“لا مفرّ من ذلك. سأحاول التّرتيب قدر الإمكان.”
ابتسمتُ بأسف.
نظر إليّ بهدوء وهو يفحّص تعبيري وقال.
“أعلم أنّكِ تريدين فعل ذلك بنفسكِ ولا تحبّين مثل هذه المساعدة، لكن سأدعم جزء التّبرّعات.”
“أحبّ هذا النوع من المساعدة الأخلاقيّة.”
لم أرفض مساعدته لأنّ الأمر كان يقلقني منذ فترة. التّمسّك بالكبرياء قد يؤخّر كلّ شيء.
أمسكتُ يده الكبيرة دون وعي وضيّقتُ عينيّ بجدّيّة.
“شكرًا. سأسدّد المال تدريجيًا. أخبرتني سابقًا عن دانيلوف، موظّف وزارة الثقافة، أليس كذلك؟ لا أعرف هويّته الحقيقيّة، لكنّه يجلب المال شهريًا.”
“لا داعي للتّسديد…”
“سأحصل على جزء من التّبرّعات ببيع أغراض القصر. سأفتّش القبو بالكامل. قد أجد حجر الحكيم. رغم أنّه من غير المرجّح أن يكون شيء مهمّ مدفونًا هناك.”
“سيدتي، لا تفعلي هذا.”
نظر دانتي بلا تعبير إلى أصابعي التي تتحسّس يده بنهم.
بالغتُ في اللّمس. أزلتُ يدي بسرعة محرجة.
“بغضّ النّظر عن كيف ترينني، أنا رجل على أيّ حال.”
خفّض صوته كأنّه يزمجر، كتحذير بعدم إيقاظ الوحش بداخله.
“حتّى لمس اليد يفعل ذلك؟ أنت مليء بالحيويّة. آسفة.”
لم أكن بريئة على الإطلاق، ففهمتُ كلامه جيّدًا. نظرتُ بطرف عيني إلى قلب الورود على السرير، مدركة أنّ هذا ليس جوًّا للإمساك باليد من أجل قضيّة نبيلة.
هذا الرجل حسّاس للأجواء.
“إذا أردتِ البقاء بمفردكِ، يمكنني الخروج قليلاً…”
“لا داعي.”
لا أعرف لماذا، لكنّه بدا متضايقًا قليلاً.
“ماذا ستفعلين إذا وجدتِ حجر الحكيم؟”
جاء سؤاله فجأة. أجبتُ دون تفكير.
“أليس لماتياس أصلاً؟ يجب إعادته. إذا سبقتُ أشخاص الطائفة الجشعين، قد يكافئني بحلّ اللغز بموقع كنز مليء بالذهب. نهاية سعيدة لأصبح غنيّة.”
هل تفاجأ بإجابتي؟ سعل دانتي بخفّة.
“…سأغيّر السؤال. إذا أعطاكِ قوّة هائلة مقابل إيجاده، ماذا ستفعلين؟”
شعرتُ وكأنّه يقول ‘لنثِر ثورة معًا إذا حصلنا على قوّة عظيمة!’ لا أعرف سبب الثورة بالضّبط، لكن إذا كان دافعنا متشابهًا…
“همم… ربّما أستخدمها لمعاقبة الأشرار الذين يؤذون الأطفال؟ أو لحماية أو إنقاذ شخص ما. يبدو أنّني أتظاهر بالطيبة، لكن ليس لديّ استخدام آخر. لا طموح عظيم كالسيطرة على العالم.”
إذا استطعتُ تحرير دانتي وكيليان وإيجيكل وأصحاب القدرات من معاناتهم.
لكن لذلك، يجب أن تتوقّف الحرب أوّلاً. ليس لأنّني أسعى للخير، بل لأنّني لا أريد البقاء وحيدة.
كلّ الطّرق المتفرّعة تؤدّي إلى هدف واحد: العيش مع الجميع بحياة عاديّة.
لكن لا أملك أيّ دليل عن مكانه. لا خيار سوى البحث في سجلّات الإمبراطوريّة السابقة أو ذكريات ريلكه.
لمع شيء في عيني دانتي الزرقاوان وهو ينظر إليّ بهدوء.
كنتُ سأسأله لماذا ينظر إليّ بهذا العمق، لكن سمعتُ صوت إليورد.
‘سيدتي، اكتشفتُ شيئًا.’
أزلتُ القرط ليسمع دانتي أيضًا.
“سيّد إليورد، أخبرني. ماذا وجدتَ؟”
‘جيني تُبنّيت رسميًا، صحيح. الوالدان أراداها فعلاً. هناك سجلّ يُظهر زيارتهما لملجأين.’
“إذًا لا مشكلة؟”
سمعتُ همهمة كأنّه يفكّر.
‘وجدتُ في مكتب الدّراسة وثيقة عن والديها الحقيقيّين ووفاتهما. بما أنّكِ تريدين إنقاذ الأطفال، قد لا يهمّكِ سماعها.’
اتّسعت عيناي. هل كان الملجأ يعرف تفاصيل وفاة والديها؟
“ماذا كُتب في الوثيقة؟ أخبرني.”
‘كلاهما من أصحاب القدرات، وماتا قبل عام بسبب فقدان السّيطرة. سأخبركِ بالتفاصيل عندما نعود.’
فقدت جيني والديها ووصلت إلى الملجأ منذ وقت قريب. كم كان ذلك محزنًا ومربكًا لها. ابتلعتُ مرارة شعوري وسألت.
“هل اكتشفتَ لماذا يراقب الجنود القصر؟ قالوا إنّها مهمّة نقل.”
‘لا يبدو أنّهم ينقلون الطفلة لمكان آخر. قال إيجيكل إنّ إسايا سأل الوالدين إن كان يمكنه زيارتهما، فقالا إنّه مرحب به متى شاء، وأعطياه العنوان.’
هذا مطمئن، لكن ما مهمّة النقل التي تحدّث عنها الجنود إذًا؟ ماذا يريدون نقلَه؟
رمشتُ وعصرتُ دماغي، ثمّ سألني إليورد.
‘بالمناسبة، أين أنتِ الآن؟’
“آه، أنا ودانتي نراقب من فندق مقابل.”
‘أوه… ذهبتما لوحدكما إلى مكان لطيف؟ أشعر بالغيرة.’
ماذا سمعتُ للتوّ… لطيف؟
“جئنا لأمر عمليّ بحت! لذا اخترنا فندقًا تجاريًا صارمًا لا يسمح إلّا بالحديث العملي، وإلّا طُردنا!”
‘سمعتُ تبريركِ جيّدًا. من الأفضل مراقبة المزيد من هناك. يبدو أنّهم ينتظرون شيئًا. لا أعتقد أنّ شيئًا كبيرًا سيحدث، لكن سأتصل إذا رأيتُ شيئًا مشبوهًا.’
انقطع صوته فجأة كأنّ التّواصل توقّف.
التفتّ إلى دانتي بوجه جادّ.
“لا يمكننا الاطمئنان تمامًا بعد، فلنراقب حتّى الغد على الأقل. نشبه المحقّقين. نراقب ونأكل الدونات.”
“هل تريدين دونات؟”
“نعم.”
لم أقصد أنّني أريده، لكن عندما يُسأل المرء، من الطّبيعي أن يقول نعم.
نظر دانتي إلى ساعته وأومأ.
“سأشتريه لكِ صباحًا. لا مكان مفتوح الآن.”
“حسنًا. الشّمس سترتفع قريبًا.”
رفعتُ عينيّ إلى سماء الفجر التي بدأ لونها الدّاكن يخفّ، لكنّ التّعب ضغط على جفوني بثقل.
أغلقتُ عينيّ دون وعي.
* * *
“آه؟”
غفوتُ للحظة.
قبل أن أغمض عينيّ، كانت النّافذة مملوءة بفجر أزرق داكن، لكنّها الآن تحوّلت إلى منظر صباحيّ مشمس. منذ متى كانت يد كبيرة تحجب ضوء الشّمس عن وجهي؟
“استيقظتِ؟”
ما هذا الشيء الصّلب الذي أتكئ عليه؟ نهضتُ بسرعة مرتبكة.
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 76"