### الفصل 63
“السيد إيدن ڤان غارسيل العزيز، أليس لديك أمور تُعطيها الأولويّة على حياتنا الزوجيّة؟”
كان صوتًا هادئًا وأنيقًا قد سمعته من قبل. أدار إيدن بصره قليلاً لينظر إليها.
“صحيح.”
“أنا أتفهّم تمامًا ميلك للتعامل حتّى مع الزواج بطريقة رسميّة. لكنّ زياراتك المتكرّرة رغم انشغالك بالشؤون العامّة والخاصّة تجعلني أشعر بعدم الراحة.”
رفعت ريلكه كوب الشاي وابتسمت بلطف. أمّا إيدن، الجالس مقابلها، فقد نظر إلى الشاي الذي برد تمامًا.
“السيّدة ريلكه غارسيل المحترمة، بما أنّني زوجك على الورق، فمن واجبي التأكّد من سلامتك. لا أريد أن أكون ذلك الزوج اللامبالي الذي يترك زوجته تموت وحيدة.”
“لا تقلق. لقد حجزتُ تابوتين عاليي الجودة وموقعين ممتازين للدفن تحسبًا للموت وحيدة. سيعتقد الجميع بلا شكّ أنّني تلقّيتُ حبّ زوجي اللانهائيّ حتى النهاية.”
انحنت عينا إيدن برفق وقال:
“أحدهما لي؟”
“نعم، الزوجان الحقيقيّان يرحلان معًا في نفس اليوم والساعة.”
“مدهش أنّ مثل هذه العادات الهمجيّة لا تزال موجودة. من الأصل، البشر يرحلون بمفردهم.”
بدت كمناقشة راقية للوهلة الأولى، لكن مع ابتسامة شكليّة، كأنّهما يقولان “مت!” و”مت أنت بدلاً مني!” هذه هي الطريقة الأصليّة للنبلاء في الحديث. حادّة جدًا.
بينما كنتُ أنظر بصدمة، جمعت ريلكه أطراف يديها وابتسمت بجمال وقالت:
“هذا القصر كان منزلًا في المدينة يسكنه سيّد عائلتكم، أليس كذلك؟ أنا ممتنّة دائمًا لأنّك وفّرت لي مكانًا للعيش ورعاية وكثيرًا من اللطف بعد أن طُردتُ تحت وصمة الفساد.”
مال إيدن بجذعه نحوها، مقربًا وجهه منها وقال:
“من حسن الحظّ أنّكِ تعلمين ذلك. كم عدد من سيتزوّجون شخصًا بلا مأوى ويمنحونه حياة مريحة؟”
“بما أنّك تكرّمت عليّ بالرعاية، كنتُ أتمنّى لو ضمنت لي الحدّ الأدنى من الحريّة أيضًا.”
“أيّ حريّة تريدين، يا سيّدتي؟ قولي فقط.”
ظهرت ابتسامة مصطنعة على وجه ريلكه المنمّق كالدمية وقالت:
“حريّة الرؤية.”
أهذا يعني… “أنا لا أريد رؤيتك، فلمَ تستمرّ في المجيء وانتهاك حريّتي البصريّة؟”
يبدو أنّ تفسيري كان صحيحًا، إذ ضحك الرجل الذي يشبه دانتي وهو يغطّي فمه بخفّة.
“يمكنني منحك حريّة التعبير كما تشائين، فإذا احتجتِ شيئًا أو شعرتِ بانزعاج، يمكنكِ قوله في أيّ وقت. لكن لم أقل إنّني سأنفّذ مطالبك.”
صراع النفوذ هذا ليس مزحة. أنا، الشخص البسيط، لا أستطيع حتّى التدخّل.
“إيدن ڤان غارسيل اللعين.”
كشفت عينا ريلكه، التي كانت صامتة مغلقة الفم، عن غضب مكبوت.
“نعم، أخيرًا تستخدمين حريّة التعبير كما يحلو لكِ.”
على عكسها، بدا إيدن هادئًا. فتلوّت زاوية فم ريلكه قليلاً وقالت:
“لقد طلبتُ منك الخروج بأكثر طريقة مهذّبة ممكنة، فهل لم تفهم، أم أنّك تفتقر إلى اللباقة؟”
“سلطة أمر الإخلاء تعود لي وحدي. يبدو أنّ ضميركِ قد غادر قبلي، يا سيّدتي.”
تنهّد دانتي وهو يراقب مواجهة الشخصين ذوي العناد القوي. ربّما لأنّه رجل يفضّل الأفعال على الأقوال، بدا منهكًا من النقاش اللامتناهي.
“يا للشفقة. يحاول التغلّب على زوجته.”
“هل طموحك المستقبليّ أن تكون زوجًا خاضعًا؟”
كان إليورد، الذي وبّخ دانتي، يبدو مرتاحًا جدًا.
“الصراع والقتال وكراهيّة الآخر. يبدو جميلاً للسمع. أريد سماعه كلّ ليلة قبل النوم.”
بالنسبة لشيطان، يبدو أنّ هذا بمثابة موسيقى ASMR مريحة قبل النوم.
شعرتُ ببعض الضيق من رضاه المنفرد، فهمستُ في أذنه بنبرة مباركة:
“أنتَ خادم وُلد ليُحَبّ. تتلقّى هذا الحبّ في أحضان سيّدة المنزل…”
“لا تعذّبني، يا سيّدتي. اشتميني بدلاً من ذلك.”
شعرتُ بالرضا وأنا أرى إليورد يفرك أذنه متأفّفًا. مضايقة شيطان أكثر متعة ممّا توقّعتُ.
“لا أحد يعلم متى سيظهر الشيطان العظيم الكامن بداخلك مجدّدًا.”
سمعتُ صوت إيدن الثقيل، فعدتُ أركّز أذني بسرعة. كانت ريلكه تعضّ شفتيها وتنظر إليه بنظرة حادّة.
“حينها، هل ستقتلني؟”
“لقد أنقذتِ الناس بقوّة الشيطان العظيم عبر القضاء على مرسول الحاكم، لكن إذا سيطرت تلك القوّة عليكِ بالكامل وفقدتِ السيطرة، فقد تدمّرين العالم.”
تنهّدت ريلكه وهي تستمع بهدوء. تشقّقت جبهتها الجميلة، ثمّ أمسكتها وأظهرت وجهًا يعاني ألمًا شديدًا.
“نتيجة إنقاذ الناس كانت وصمة الفساد والنبذ، وحياة مقيّدة بزواج غير مرغوب فيه أنتظر فيها الحكم. أليس هذا مصيرًا قاسيًا؟”
لم يجب إيدن. في الصمت، تابع صوت ريلكه الهادئ:
“كان ثمن ولادتي كابنة غير شرعيّة والاعتراف بي كجزء من العائلة الملكيّة هو ألم رهيب يأكل جسدي وعقلي بفعل الشيطان العظيم. كنتُ حمقاء لأنّني شعرتُ بمودّة عائليّة تجاه مصالح مبنيّة على الأنانيّة، وسُررتُ بأن أكون مفيدة، وقبلتُ الشيطان بكلّ رغبة، أليس كذلك؟”
عبثت ريلكه بملعقة الشاي وأنزلت بصرها.
طق، طق. رنّ صوت نقر أصابعها على الطاولة. لم يتبادل الاثنان سوى أنفاسهما المكبوتة
في الصمت.
كسر إيدن الهدوء أوّلاً وقال:
“لا.”
مدّت ريلكه يدها البيضاء لتلامس خدّ إيدن النقيّ. كان تلامسًا بلا معنى.
لم يرفض تلك اللمسة الباردة. بل بدا وكأنّه يقبلها برحابة صدر.
“لا؟ لقد تزوّجتني لأنّ واجبك يقتضي التخلّص منّي، أليس كذلك؟ في النهاية، كلّ ما تبقّى لي هو استنتاج أنّ ‘لا أحد يريدني’.”
على الرغم من نبرتها الهادئة، كان الشعور بالوحدة واضحًا. عيناها بلون الأفسنتين غُمرتا باليأس.
“هذا أيضًا غير صحيح.”
هزّ إيدن رأسه. كان في عينيه الزرقاوين الهادئتين نفيٌ حازم.
فجأة، أدارت ريلكه رأسها ونظرت نحونا.
شعرتُ بشعور غريب، فأمسكتُ بكمّ دانتي دون وعي.
“السيد دانتي، يبدو أنّها ترانا؟”
“لا أعتقد ذلك.”
أمسك دانتي معصمي القلق برفق.
كما قال، ربّما كان مجرّد صدفة، إذ أعادت بصرها إلى إيدن وقالت:
“إيدن ڤان غارسيل، أنا أكرهك. لا أريد منك شيئًا.”
أمسك إيدن يدها التي كانت ستبتعد عن خدّه وقال:
“أعلم، يا سيّدة القداسة.”
تسرّبت طاقة مظلمة من بين يديهما المتماسكتين، وبدأت تنتشر عبر عروق يد إيدن ومعصمه.
“لم أعد قدّيسة نبيلة، ولا رسولة تقبل إرادة الحاكم وتنقل الوحي.”
رفعت ريلكه زاوية فمها وابتسمت بغرابة. كانت تلك الابتسامة الغريبة موجّهة نحوي بدقّة.
“لقد جعلني العالم شيطانة.”
في لحظة تقاطعت عيناي مع عينيها الخضراوين المضيئتين في الظلام، شعرتُ بقشعريرة باردة تجتاح جسدي. كانت بالتأكيد تنظر إليّ.
كأنّها كلمات موجّهة لي.
تك تك.
رنّ صوت عقرب ساعة الحائط في أذنيّ بقوّة، حتّى ظننتُ أنّه يتردّد في رأسي.
‘ستصبحين مثلي.’
كلماتها الصامتة حُفرت بوضوح في ذهني.
* * *
“آه!”
فتحتُ عينيّ فجأة. ما إن استيقظتُ من الحلم حتى شعرتُ بضيق في التنفّس مع صوت العقرب المنتظم.
“حبيبتي، استيقظتِ؟”
أدرتُ رأسي جانبًا، فرأيتُ ابتسامة مشمسة لشيطان وسيم ذي شعر أشقر بلاتينيّ وعينين قرمزيّتين.
“…حبيبتي؟”
“إذا نام المرء في سرير واحد، فهو حبيب، أليس كذلك؟”
أجاب بنبرة ماكرة.
عبستُ قليلاً، فاقترب دانتي، الذي كان مستيقظًا بالفعل، وناولني كوب ماء وهو يوبّخ إليورد:
“إذن، هل ستسمّيني حبيبًا أيضًا؟”
“عشتُ طويلاً، لكنّني لم أكتسب هواية حب الرجال.”
أعاد ترتيب شعره البلاتينيّ المشعّث وهزّ كتفيه.
شربتُ الماء بنهم لأروي عطشي ونظرتُ حولي. على عكس الأجواء المظلمة والكئيبة في ذاكرتي، كانت أشعّة الصباح المشرقة تتسرّب إلى القصر.
“السيّدة ريلكه… مسكينة.”
بعد رؤية ذكرياتها، كان أوّل شعور شعرتُ به هو الأسف.
جلس دانتي على حافة السرير وهو يرى حزني على وجهي وقال:
“يبدو أنّ الحاكم هو من أصدر الحكم على البشر في الماضي، ولمقاومته استدعت الكنيسة والإمبراطوريّة السابقة شيطانًا عظيمًا. ولإخفاء ذلك، طردوها.”
في النهاية، أنقذت ريلكه العالم لكنّها استُغلّت وأُلقي بها من الجميع؟ أنا منزعجة من أجلها.
“الإنسان الطويل العمر الذي رأيناه في دار الرعاية قال إنّ العالم كاد أن ينتهي، أليس كذلك؟”
قالها إليورد وهو متّكئ على رأس السرير.
“الإنسان الطويل العمر” للإشارة إلى الجدة ليليانا؟ اختيار كلماته غريب كما يليق بشيطان.
ابتسم بعينين تبدوان بريئتين وقال:
“لم أكن أتوقّع أن تظلّ تلك المرأة على قيد الحياة.”
“هل تعرف الجدة ليليانا؟”
أومأ إليورد برأسه وقال:
“نعم، كنتُ في العاصمة حينها. كانت قدّيسة مزيّفة حلّت محلّ القدّيسة المنفيّة. كانت بديلة. البشر الذين فقدوا الأمل وأُجبروا على المواجهة يتشبّثون بالإيمان.”
إذن، إليورد يعرف الماضي بالكامل؟
“اشرح لي ما حدث.”
“ما الذي يثير فضولكِ؟ سأجيب عن أيّ جزء يمكنني الحديث عنه.”
إذا تمكّنتُ من معرفة الحقيقة من هذا الشيطان، فلن أضطرّ لمشقّة رؤية الذكريات عبر الأحلام.
“كلّ ما حدث في الماضي و…”
“جزئية لقد جعلني العالم شيطانة.”
‘ستصبحين مثلي.’
تذكّرتُ كلمات ريلكه الأخيرة ونظرتُ إلى إليورد مباشرة وقُلت:
“هل الشيطان العظيم الذي أفسد ريلكه هو سيّد هذا القصر، السيد ماتياس؟”
* * *
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 63"