**الفصل 106**
بوجهٍ صغير، بدَتْ الذّكرى من أواخرِ المراهقة. لم أفهمْ لمَ دخلتُ هذا الحلمَ فجأة، لكنْ قرّرتُ المراقبةَ بهدوء.
“لاتيه، لمَ وجهُكِ مكفهرٌّ مجدّدًا؟ هل تشاجرتِ؟ من فاز؟”
“وما يهمُّكِ؟”
تمتمتِ الطّفلةُ وأدارتْ رأسَها، لكنْ كانَ واضحًا أنّها لا تكرهُها. بل كانَ خجلًا من اهتمامِ شخصٍ تحبُّه.
اقتربتْ ريلكه من الطّفلةِ وانحنتْ لتساوي عينيها.
“تتحدّثينَ بوقاحةٍ مع من هو أكبرُ منكِ؟ أأضربُكِ على مؤخّرتِكِ؟”
“الأطفالُ سخرَوا من اسمي!”
“لماذا؟”
“في الصّفّ، تحدّثوا عن نحّاتٍ تمنّى الزّواجَ من تمثال. وكانَ اسمُ التّمثالِ الذي صارَ بشريّةً… غالاتيا!”
ضحكتْ ريلكه بصوتٍ عالٍ، مرجعةً رأسَها للخلف.
“كائنٌ وُلدَ من رغبةٍ شديدةٍ وحبّ! أليسَ ذلكَ رائعًا؟”
“لكنّه مجرّدُ تمثال!”
“لا يهمُّ شكلُ من تحبّينَ أو ماهيّتُه. هذا ما يجعلُ الأمرَ سعيدًا.”
مرّرتْ ريلكه يدَها في شعرِ غالاتيا، معقّدةً إيّاه بمرح. سألتِ الطّفلةُ المتذمّرة:
“أختي ريلكه، هل تعرفينَ ما هو الحبّ؟”
“لستُ متأكّدة.”
“إذن، لمَ تقولينَ لي دائمًا إنّكِ تحبّينَني؟”
“لأنّني أريدُكِ أنْ تعرفي. الحبُّ شعورٌ يُتعلّم. إذا كرّرهُ أحدهم، ستفهمينَه بطبيعةِ الحال.”
“ألم يكنْ هناكَ من قالَ لكِ إنّه يحبُّكِ؟”
سادَ صمتٌ قصير. بدلَ الرّدّ، ضمّتْ ريلكه غالاتيا إلى صدرِها، وفركتْ خدَّيْهما معًا.
“لاتيه، قولي لي إنّكِ تحبّينَني، بسرعة!”
“لا! وتوقّفي عن مناداتي بلاتيه!”
“لمَ؟ أحبُّ هذا اللّقب.”
احمرَّ وجهُ الطّفلةِ كالتّفاحة، وكافحتْ للهروبِ من الحضن. عندما تحرّرتْ أخيرًا، ركضتْ مبتعدة. نظرتْ ريلكه إلى ظهرِ غالاتيا المبتعدِ بابتسامةٍ حزينة.
فجأة، انهمرتْ أشعّةُ الشّمسِ من الأعلى، وتغيّرَ المكان. تحوّلَ الشّتاءُ الباهتُ إلى صيفٍ مليءٍ بالخضرة، وظهرتْ حديقةٌ مزهرةٌ بالورودِ الزّهريّة.
شابهَ المكانَ الذي رأيتُه مع المحقّقِ في الطّائفة. اختفتِ الطّفلةُ وريلكه، وبدَوَ الأمرُ كأنّ سنواتٍ مرّت.
عندَ ورودٍ متفتّحة، رأيتُ ظهرَ امرأةٍ فضيّةِ الشّعرِ ترتدي زيَّ فارسٍ مقدّسٍ أبيض. عندما استدارتْ، شابهتْ وجهُها غالاتيا التي أعرفُها، لكنْ بجوٍّ صلبٍ وساخر، بعكسِ القدّيسةِ المرحةِ المعتادة.
‘هل كبرتْ تلكَ الطّفلةُ هكذا؟ أم أنّها حياةٌ سابقةٌ لغالاتيا؟’
“القائدةُ غالاتيا، هناكَ علاماتُ انشقاقٍ في الشّمال.”
اقتربَ فارسٌ مقدّسٌ بسرعةٍ وأبلغَها. أجابتْ:
“حسنًا، اجمعِ الأعضاء.”
بينما اتّجهتْ نحوَ ميدانِ التّدريب، عبستْ فورَ رؤيتِها إيدن ڤان جارسيل، أسودَ الشّعرِ وأزرقَ العينين.
“لا تقلْ إنّكَ ستذهبُ أيضًا؟”
كانَ واضحًا أنّها لا تريدُه معها.
هزَّ إيدن رأسَه، وفي فمِه سيجار.
“لا.”
“إذن، لمَ أنتَ هنا؟”
“بسببِ زوجتي.”
بدَتْ متوتّرة، بينما كانَ هو هادئًا ومرتاحًا. تقوّستْ شفتاها بسخرية.
“تُراقبُها، ومع ذلكَ تناديها بحنانٍ كهذا؟”
من حديثِهما، بدَوَ الأمرُ بعدَ طردِ ريلكه من الطّائفة.
“ليسَ لديّ لقبٌ آخر. كلّما ناديتُها باسمِها، شتمتني، زوجتي.”
“لمَ تزوّجتَ ريلكه؟ بسببِ دمِها الملكيِّ رغمَ كونِها غيرَ شرعيّة؟ هل تخطّطُ لقتلِها بعدَ اكتسابِ الشّرفِ والزّواجِ من ليليانا؟”
مرّرَ إيدن يدَه في شعرِه الأسودِ وأجابَ بلامبالاة:
“أملكُ ما يكفي من الشّرفِ والسّلطة. لا أعرفُ تلكَ المرأة. كيفَ أتزوّجُ من لا أعرفُها؟”
“سمعتُ أنّ هناكَ حديثًا عن زواج.”
“بإرادةِ من؟”
حدّقتْ غالاتيا إليه بعيونٍ حادّة، وخفضتْ صوتَها.
“لا تنكر. الأوساطُ الاجتماعيّةُ مليئةٌ بالشّائعاتِ عن لقاءاتِكما خلفَ ظهرِ ريلكه. تقولُ ليليانا إنّكما ستتطلّقانِ قريبًا، وتتبادلانِ رسائلَ حبّ.”
“أتلقّى عروضَ زواجٍ كثيرة، لكنّني لم أردَّ ولو مرّة. كلُّها من طرفٍ واحد.”
عبسَ إيدن، ونفثَ دخانَ السّيجار، ثمّ تابع:
“لا أنوي الطّلاقَ أو إعادةَ الزّواج. هل عليّ تفسيرُ هذا لكِ بالتّفصيل؟ أنتِ التي لم تفعلي شيئًا عندما أُصيبتْ، فالتّظاهرُ بالاهتمامِ لا ينفع. توقّفي عن النّفاقِ السّخيف.”
بصوتٍ منخفضٍ تحذيريّ، عضّتْ غالاتيا أسنانَها بغضب.
“أيّها النّذل الكلب.”
تجاهلَ إيدن شتيمتَها الخافتة، وسحقَ السّيجارَ وقال:
“الكلبُ على الأقلِّ مخلصٌ لسيّدِه.”
مرَّ بها ببرودٍ تاركًا كلمتَه الأخيرة.
هبَّتْ نسمةٌ تهزُّ الأوراق. وقفتْ غالاتيا وحيدة، تنظرُ إلى السّماءِ الصّافية، وتمتمتْ:
“ريلكه، لمَ تزوّجتِ رجلًا يريدُ قتلَكِ بدلَ الهروب؟”
ضغطتْ على عينيها وأطرقتْ رأسَها. تابعَ صوتُها اليائس:
“…لمَ تقبلينَ الموت؟”
حدّقتُ إليها مذهولة، وفركتُ صدري.
‘ذكرياتُ ريلكه، لكنْ لمَ أسمعُ حديثَهما؟ هل كانتْ ريلكه هنا؟’
شعرتُ بفراغٍ في القلب، واندفاعِ مشاعرَ ليستْ لي، تغرقُني بلا مقاومة. شعورُ تركِ شخصٍ عزيزٍ والرّحيلِ أوّلًا، لم أفهمْ سببَه.
شعرتُ بهذا عندما سمعتُ بموتِ إيدن ڤان جارسيل. حينها، كانَ حزنُ فقدانِ شخصٍ عزيز.
—
**مكتبُ غالاتيا**
كانتْ ميا لا تزالُ نائمةً على الأريكة، وجفناها ترتعشانِ أحيانًا مع أحلامِها.
لفتْ غالاتيا شعرَ ميا البنيَّ حولَ يدِها، مستذكرةً نفسَها وريلكه قبلَ 150 عامًا، قبلَ تجدّدِ ولادتِها.
كانتْ ريلكه لها أختًا، صديقةً، وأمًا، رغمَ يتمِها. أحبّتِ الجميعَ بإفراط، لكنّها لم تُحَبَّ من أحد، وتحوّلتْ إلى شيطانٍ واختفتْ، المسكينة.
في حزنِها، توسّلتْ غالاتيا لأيِّ أحدٍ أنْ يُعيدَها، حتّى لو كانتْ شيطانة. لم يهمَّ لو انتهى العالم.
*”أيتها الطّفلةُ المتعطّشةُ الجائعة، سأحقّقُ أمنيتَكِ، لكنْ أعطيني الفراغَ الذي لا يُملأ.”*
لم يُجبْ إلهٌ أو ملاك، بل شيطانٌ عظيم.
*”أنا واحدٌ من الخطايا السّبع، شيطانُ الطّمع، أو الفراغ.”*
بعدَ زمنٍ طويل، وجدتْ أخيرًا الرّوحَ المتجدّدة.
‘إنْ لم يكنْ هذا خلاصًا، فماذا يكون؟’
أمسكتْ غالاتيا العقدَ الأحمرَ حولَ عنقِ ميا، وتدفّقتْ هالةٌ سوداءُ من يدِها.
“سأساعدُكِ على العودة، ريلكه.”
ابتسمتْ بحرارة.
‘هذه المرّة، أنا من سيساعدُكِ.’
لكنْ عندما ضغطتْ على الجوهرةِ الحمراءِ لتحطيمِها، امتدّتْ يدٌ بسرعةٍ وأمسكتْ عنقَها.
“…!”
رفعتْ ميا رأسَها ببطء، وعيناها الخضراوانِ المشحوذتانِ تحدّقانِ في غالاتيا.
شحبتْ غالاتيا، مستشعرةً عيني ريلكه التي رأتْ بهما من خانَ البشر.
حاولتْ إزاحةَ يدِ ميا، لكنّها لم تتحرّك. تحرّكتْ شفتا ميا المغلقتانِ ببطء:
“…لا تحاولي أخذَه.”
اتّسعتْ عينا غالاتيا الفضيّتانِ بدهشة. تمتمتْ، مقيّدةً بيدِ ميا:
“مقاومةُ السّحر؟”
كانتْ غريزةُ ميا، مجرّدِ بشريّة، تتحكّمُ بريلكه الشّيطانةِ العظيمةِ التي حاولتِ الخروج، وتوقفُ غالاتيا التي حاولتْ تنفيذَ ذلك.
“وبتمريرِ قوّةِ شيطانٍ عظيم؟ لا أشعرُ بسحر، فكيفَ تستخدمينَ هذه القدرةَ دونَ وسيط؟”
شعرتْ غالاتيا بضغطٍ يخنقُ عنقَها.
كانتْ ميا في حالةِ لاواعٍ تامّ، بلا كلام، تحدّقُ بها بوجهٍ خالٍ من التّعبير.
نظرتْ عينا غالاتيا الشّاحبتانِ إلى العقد. كانَ ينبعثُ منه هالةٌ لا تُقاوم، قوّةٌ لا يملكُها إلّا متعالٍ.
*- هه، سيّدُ القصر، هل ستصمدُ أمامَ القَدَرِ هذه المرّة أيضًا؟ رغمَ نفيِكَ، تفعلُ ذلكَ ببراعة.*
تمتمَ شيطانُ الطّمعِ المختبئُ في غالاتيا بنزق. ضيّقتْ غالاتيا عينيها الحمراوين.
“بيل، هل تعتقدُ أنّ سيّدَ القصرِ هو سببُ عدمِ استيقاظِ ريلكه المختومة؟”
ظهرَ الشّيطانُ المسمّى بيل بهيئةٍ ضبابيّة: بدلةٌ سوداءُ مع هالةٍ سوداءَ قرنيّةٍ بدلَ رأس، تنبعثُ منها طاقةٌ شرّيرة.
“نعم. لا خيارَ سوى انتظارِ استيقاظِها بنفسِها.”
“هل هذا ممكن؟”
“الجسدُ المتجدّدُ يتحرّكُ لاستعادةِ الذّكريات. عندما يستعيدُها، ستتراكمُ المشاعرُ السّلبيّة. مع المحن، سينكسرُ قلبُها. أنتِ تعرفينَ ضعفَ البشرِ جيّدًا بعدَ قرونٍ من المراقبة.”
كانتْ غالاتيا تؤمنُ بذلكَ حتّى قبلَ قليل، لكنّ رأيَها تغيّرَ قليلًا.
“البشرُ لا يُمكنُ التّنبّؤُ بهم. يأكلونَ حتّى الشّبع، ينامون، وينسونَ همومَهم. قد يبدونَ بسطاءَ وطريّين.”
المرونةُ التي تتغيّرُ حسبَ الظّروف، ربّما هي قوّةُ ميا فورتونا.
نقرتْ غالاتيا بأصابعِها، فانحلّتْ يدُ ميا من حولَ عنقِها بسلاسة.
—
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 106"