**الفصل 105**
مشيتُ خلفَ المحقّقِ الصّامتِ عبرَ ممرٍّ رخاميٍّ طويل، وسألتُه:
“لمَ لا تسألُ عن قضيّةِ الوحوش؟”
“رفاقُكِ سيتكفّلونَ بالشّهادة.”
“أليسَ من الضّروريِّ شهادتي؟”
“لا. بعدَ حديثِنا، شعرتُ أنّه مضيعةٌ للوقت.”
‘حسنًا، لا بأس.’
دخلتُ مكتبًا، فرأيتُ غالاتيا جالسةً خلفَ مكتبٍ بلونِ خشبِ البلوط، مرتديةً زيَّ كاهنة. شعرُها الفضّيُّ الطّويلُ حتّى خصرِها مضفورٌ بأناقة، يمنحُها مظهرًا راقيًا وجميلًا.
“ميا، كنتُ أنتظرُكِ.”
ابتسمتْ بعطف. شعرتُ بالرّاحةِ لأنّها ليستْ غريبة، لكنّ القلقَ من كوني في قلبِ معسكرِ العدوِّ لم يفارقني.
انحنى المحقّقُ الذي أوصلَني وغادر، ثمّ أشارتْ غالاتيا إلى الأريكة. كانَ على الطّاولةِ شايٌ برائحةِ الزهور وكومةٌ من الحلوى التي يحبُّها الكبار.
‘أليستْ هذه البسكويتاتِ التّقليديّة؟’
“اجلسي.”
تحرّكتُ متوترةً وجلستُ بجانبِها بحذر. نظرتْ إليّ بهدوءٍ وضحكتْ بخفّة.
“لم أقلْ اجلسي بجانبِ لاتيه.”
نهضتُ مسرعةً وجلستُ مقابلَها. تحدّثتْ بصوتٍ مليءٍ بالضّحك:
“سمعتُ القصّة.”
“الشّائعاتُ المرعبة؟”
“أعلمُ أنّها غيرُ صحيحة، لكنْ عليّ التّظاهرُ بالتّحقيقِ واجبًا.”
ابتسمتُ بخجلٍ بدلَ الرّد.
كأنّها تنتقلُ إلى الموضوعِ الرّئيسيّ، أخرجتْ شيئًا ووضعتْه على الطّاولة: دميتا تشيكي وأنيبل، مقيّدتانِ بحبلٍ لامع.
‘الدّمى التي وجدتُها في الطّابقِ السّفليِّ وبعتُها لمتجرِ الآثار!’
“كانتْ شياطينُ محبوسةٌ في هذه الدّمى. أتباعٌ لشيطانٍ عظيم.”
‘لمَ كانتْ هذه الأشياءُ في قبوِ منزلي؟ لمَ لم يفتّشوا القصرَ واكتفَوا بالحديقة؟ هل يخافون؟’
“لا، مستحيل! كانتا دائمًا جميلتينِ ولطيفتين. لم يحدثْ شيءٌ عندما امتلكتُهما، وهما هادئتانِ الآن، أليس كذلك؟”
تظاهرتُ بالجهلِ رغمَ خوفي. نظرتْ إليّ غالاتيا بهدوءٍ ونقرتْ بأصابعِها.
“حسنًا، سأفكُّ الختمَ لترَيْ بنفسِكِ.”
انحلَّ الحبلُ المقيّدُ للدّمى بسلاسة.
‘هل أطلقتْ الشّياطينَ الآن؟’ انكمشتُ مذعورةً وغطّيتُ رأسي. ‘آه، سأُلعن!’
“لا داعي للخوفِ الشّديد.”
فتحتُ عينيّ المغمضتينِ بحذرٍ عندَ صوتِها النّاعم. رأيتُ شيطانًا صغيرًا يتلوّى في قبضتِها: أسودُ الجسم، بقرونٍ وجناحينِ وذيل.
بدأَ الشّيطانُ المقبوضُ عليهِ في يدِ القدّيسةِ يتوسّلُ بكلامٍ معسول:
“أنقذيني وسأرشدُكِ إلى كنزٍ من الذّهبِ والجواهر. البشرُ جميعًا يتشابهون، وأنتِ مليئةٌ بالطّمع، أليس كذلك؟ تحتاجينَه!”
لو كنتُ أنا، لأطلقتُه فورًا، لكنَّ القدّيسةَ ظلَّتْ قدّيسة.
“هذا ليسَ ما أريده.”
هزَّتْ غالاتيا الشّياطينَ ككأسِ كوكتيل، مبتسمةً بهدوء.
“هكذا تكونُ إغراءاتُ الشّياطين. طمعُ البشرِ لا نهائيّ، فيُضحّونَ بكلِّ شيءٍ في النّهاية.”
“أوه، لن أقعَ في الإغراءِ أبدًا.”
‘لكنْ تحقيقُ بعضِ المصالحِ الصّغيرةِ لا بأسَ به، أليس كذلك؟ أنا واثقةٌ من قدرتي على التّوقّفِ عندَ الحدّ.’
“ميا، لمَ تعيشينَ في ذلكَ القصرِ المشبوه؟”
“لظروفي، لم أجدْ منزلًا بمثلِ جودتِه. هل تعرفينَ معاناةَ من لا يملكُ بيتًا؟”
“لاتيه لا تهتمُّ بالمادّيّات. وجبةٌ دسمةٌ وحلوى تكفيها.”
‘بالطّبع، الطّائفةُ تمنحُكِ المالَ والطّعامَ والمأوى!’ تمتمتُ بانزعاجٍ داخليّ. فجأة، دفعَتْ شيطانًا صغيرًا نحوي.
“أووه…”
تقابلتْ عينايَ مع الشّيطان، فأصدرَ أنينًا وأدارَ رأسَه، مخفيًا ذيلَه الملفوفَ ككلبٍ خائف. سألتْ غالاتيا:
“لمَ نجَتْ ميا، العاديّة، من هذا الشّيطان؟”
“لماذا؟”
“أسألُكِ أنتِ.”
‘هل بسببِ قدرتي على إلغاءِ التّأثيرات؟ إنْ اكتُشفَ ذلك، سأُسجن!’
فكّرتُ بسرعة.
“ربّما بسببِ الخواتمِ التي أعطاني إياها دانتي وإيجكيل؟ قلقا عليّ لعدمِ امتلاكي قدرات، فأعطياني خواتمَ بقدراتٍ خاصّة.”
مددتُ يدي لأريهِ الخواتم. تضيّقتْ حدقتا عينيها كعيني قطّة.
“بالنّسبةِ للاتيه…”
ابتسمتْ غالاتيا بكسل، بينما اختفى الشّيطانُ الصّغيرُ في يدِها بصراخٍ ودخانٍ أسود، متناقضًا مع ابتسامتِها اللّطيفة.
“يبدو أنّ العقدَ الذي ترتدينَه يقمعُ الشّياطين. ألم تعرفي؟”
“ماذا؟ أيُّ شيطان؟”
نظرتُ مذهولةً إلى العقدِ الأحمرِ حولَ عنقي.
انحنتْ شفتا غالاتيا بنعومة.
“إنّه يحميكِ، لكنّه لا يؤدّي وظيفتَه الأصليّة. بل تغيّرتْ قدراتُه الأساسيّة.”
لم أفهمْ ما تقول، وشعرتُ بالارتباك. حدّقتُ إليها مذهولةً وقلتُ ببطء:
“قدراتٌ أساسيّة؟ هذا من جدّي، تذكارٌ عائليّ.”
“لا أنوي سلبَه. لا يمكنُ لأحدٍ سواكِ استخدامُه، فهو جزءٌ من قلبِكِ. لن أخبرَ أحدًا.”
اقتربتْ فجأة، وانحنتْ لتفحصَ العقدَ بيدها.
“ميا تملكُ قلبًا قويًا، ومتفائلة، أليس كذلك؟”
‘صحيحٌ أنّني أحوّلُ المصائبَ إلى نكات، لكن…’
بفضلِ حياةِ العملِ في كوريا وحياةِ العملِ الجزئيِّ في هذا العالم، صرتُ صلبةَ الإرادة. ‘الحياةُ الثّانيةُ تُعلّمُكَ ذلكَ بطبيعةِ الحال.’
سألتُ بخجل:
“هل أبدو كذلك؟”
“نعم. لكنْ كبشريّة، ستضعفينَ يومًا. سيأتي وقتٌ تنكسرينَ فيه.”
كانتْ أصابعُها النّحيلةُ تتلمّسُ شقًا دقيقًا في الجوهرةِ الحمراء.
“لاتيه تتطلّعُ إلى ذلك.”
“إلى لحظةِ انكساري؟ هل تُحبّينَ مثلَ هذا؟”
نظرتُ إليها بخيبةِ أمل، فأطلقتْ العقدَ وهمستْ في أذني:
“لا، إلى خيارِكِ حينها. نحنُ متشابهتان. حتّى ذلكَ الحين، سأحميكِ، فلا تقلقي.”
لم أفهمْ معنى كلامِها بسهولة.
ابتسمتْ بعينينِ ناعستين، ولمسَ طرفُ ضفيرتِها كتفي.
“أريدُ التّدقيقَ أكثر.”
“في ماذا؟”
“شيءٌ يحتاجُ التّحقّق، جزءٌ من التّحقيق.”
نقرتْ بأصابعِها، وفجأة، أظلمَ كلُّ شيءٍ أمامي.
—
اتّكأتْ غالاتيا على ظهرِ الأريكة، ملمّسةً خدَّ ميا النّائمةِ بأصابعِها.
“لم يكتفِ بحبسِ الرّوحِ فيه، بل أغلقَه بأداةٍ سحريّةٍ بقفلٍ مزدوج. لا عجبَ أنّني لم أجدهُ مهما بحثت.”
توقّفتْ نظرتُها على العقدِ الأحمر.
كانَ أداةً سحريّةً استدعتْ بها ريلكه شيطانًا عظيمًا، تُعرفُ بـ”حجرِ الحكماء” الأسطوريّ. كانتْ في الماضي خاتمًا، لا عقدًا.
احمرَّتْ عيناها كمن تتوقُ للقاءِ شخصٍ عزيز.
“لا تعلمينَ كم انتظرتُكِ.”
أمسكتْ يدَ ميا، وضعتْها على خدِّها، وأغمضتْ عينيها، ناطقةً باسمِ من اشتاقتْ إليه:
“ريلكه تيريزا دي بيازا.”
—
وقفتُ في مكانٍ غريب. كأنّني أرتدي نظّارةً غيرَ مناسبة، فأمامي مشوش، فرمشَتْ عينايَ لأركّز.
“أوه، أينَ أنا؟”
‘كنتُ في الطّائفةِ قبلَ لحظة!’
لم أشعرْ بالواقع. نظرتُ حولي: كلُّ شيءٍ أبيض. فوقَ مبانٍ قديمةٍ غيرِ مشابهةٍ للآن، رأيتُ سماءً ضبابيّة. تساقطتْ ثلوجٌ خفيفة، فهو الشّتاءُ بلا شكّ، لكنّني لم أشعرْ بالبّرد. سقطتْ رقاقاتُ الثّلجِ على يدي دونَ إحساسٍ بالبرودة.
“القدّيسةُ جاءت!”
“القدّيسة!”
استدرتُ لأصواتِ أطفالٍ مبتهجين. من مبنى يشبهُ الكاتدرائيّة، خرجَ أطفالٌ بملابسَ متشابهة، يركضونَ بسعادة.
‘يبدو ميتمًا تابعًا للطّائفة.’
مرُّوا بجانبي دونَ أنْ يرَوني.
‘هل هذا حلم؟’
توقّفتْ عينايَ على فتاةٍ في الثّالثةَ عشرةَ تقريبًا، واقفةً أمامَ شجرةٍ يابسةٍ بلا أوراق. شعرُها فضّيٌّ وعيناها حمراوانِ كالورد. وجهُها بلا تعبير، لكنْ عينيها تخفيانِ فرحًا لا يُخفى.
“غالاتيا.”
سُمعَ صوتٌ أنيقٌ من الخلف. استدرتُ، فرأيتُ امرأةً جميلةً بنيّةَ الشّعرِ وعينينِ خضراوين، ترتدي عباءةً صوفيّةً خضراء. مرّتْ عبري كأنّني شبح.
‘ريلكه؟’
رمشتُ بعينيّ. ‘في غيابِ إليورد ودانتي، دخلتُ ذكرياتِ ريلكه؟’
—
المترجمة:«Яєяє✨»
التعليقات لهذا الفصل " 105"