انفلتت مني كلمات الرفض قبل أن أفكر بها حتى. كان رفضًا غريزيًا، أشبه بردّ فعل انعكاسي من النخاع الشوكي.
“آه…” سرعان ما أدركت أنني ارتكبت خطأ، فبادرت إلى كتم فمي، لكن الوقت كان قد فات. فقد تجمّد وجه ليوبولد ببرود قاتم.
“…….”
“…….”
وفي عينيه الذهبيتين الهادئتين مرّت ومضة عابرة من عتاب. للحظة، خطر لي أنني ربما بالغت في رد فعلي.
…لكن، مهما نظر إليّ بتلك الطريقة، لم يكن بوسعي أن أناديه بتلك الكُنية “ليو”.
صحيح أنني تصرفت بعصبية زائدة، لكن هل يُعقل أن أنطق باسمٍ طفوليّ هكذا على مسامع أميرٍ من سلالة الإمبراطورية؟ ذلك سيكون مساسًا بمقام العرش. وكان ليوبولد يعرف ذلك بلا شك.
ثم إن تلك الكنية كانت ما اعتادت والدته الراحلة أن تناديه به حين كان لا يزال من عامة الشعب. لم يكن يحق لي أنا أن أستخدمها.
بل إن سماحه لي بها بهذه السهولة أثار ريبة في نفسي. هل يحاول أن يستدرجني عمدًا لتهمة “إهانة الأسرة الإمبراطورية”؟
وفوق ذلك، هو لم يكن أصلًا من النوع الذي يولي الألقاب والنعوت أي أهمية. أذكر حين وجدت نفسي أول مرة في هذا العالم، وكنت أرتبك بين لقب “صاحب السمو” و”جلالتك”، فلم يبدُ أنه يكترث بأيٍّ منها.
“تقولين إنك لا تريدين؟”
سألني ليوبولد مرة أخرى كمن يطلب تأكيدًا. أي سؤال هذا؟ بالطبع لا أريد.
“…نعم.”
أجبت بصرامة تحمل هذا المعنى.
“حسنًا.”
ردّ بصوت هادئ كعادته، ثم استدار عني ومضى.
كنت أخشى أن يعرض الأمر عليّ ثانية، ولا أجد مهربًا للرفض، لكن لحسن الحظ لم يفعل. بدا غريبًا أنه تنازل بهذه السهولة، على غير طبيعته العنيدة…
“هاه…”
تنفست الصعداء بعد أن تركني وحدي. شعرت براحة لكوني لن أضطر لسماع إلحاحه المزعج مجددًا.
لكن بينما كنت أسترخي، فُتح الباب فجأة بقوة.
“!”
ظننت فورًا أن ليوبولد لم يستسلم، وأنه عائد بإصراره المعتاد الذي لا يتراجع أبدًا عمّا يريده. فالتفت إليه بوجهٍ متبرّم.
“صاحب السمو!”
لكن الداخل لم يكن الفتى الفضي الشعر، بل فتاة صغيرة بديعة الجمال، ذات شعرٍ ذهبي لامع وعينين زمرديتين واسعتين… كانت إيفيلين.
كانت قد عادت بعد أن أنهت استعداداتها في خمس عشرة دقيقة فقط، رغم أنني توقعت أن تستغرق ثلاثين دقيقة على الأقل. ورغم استعجالها، ظلّت مشرقة الجمال. إلا أنّ عَجَلة التحضير تركت أثرها، إذ تقاطرَت قطرات ماء من أطراف شعرها الذهبي على الأرض.
توقفت يدي عن الحركة، وهي تنظر إليّ بعينين حادتين تنتظر الجواب.
استحضرتُ صورة وجه ليوبولد الأخيرة، ثم تمتمت مرتبكة:
“آه… لقد خرج لتوّه. ألم تريه؟”
“لم أره.”
قالت إيفيلين بوجه أكثر جدّية، ثم استدارت مسرعة إلى الخارج وسألت إحدى الوصيفات التي كانت بانتظارها:
“إلى أين ذهب صاحب السمو؟”
“لقد عاد إلى القصر.”
“ماذاا؟”
ارتسم الذهول على وجهها، وكذلك على وجهي. تسلّل إحساس بالذنب إلى قلبي… وكأنني أنا من جعلته يغادر غاضبًا.
…بل أجل، هذا ما حدث حقًا.
صرخت إيفيلين وهي تحدّق بي بعيون مذهولة:
“تينا، ماذا فعلتِ بصاحب السمو؟!”
“…….”
كان صوتها يفيض بالخذلان واللوم. من الواضح أنّ السبب الوحيد لمغادرته المفاجئة هو أنا.
لكنني بنفسي لم أدرِ لماذا. ما الذي فعلته حقًا؟ هل لأنه طلب أن أناديه بكنيته ورفضت؟ هل جرحه رفضي لتلك الكلمة؟
هل كان هذا كافيًا ليغضب إلى هذا الحد؟
صحيح أنه شخص غامض يصعب فهمه، لكنني لم أظنه سيغضب لمثل هذا السبب.
قالت إيفيلين بصوت مرتجف:
“لقد جاء ليراني!”
وعيناها الزمرديتان الكبيرتان اغرورقتا بالدموع.
إيفيلين كانت تحدّق بي بوجه يملؤه العتاب. ارتجف جسدي لا إراديًا حينما التقت عيناي بتلك العيون الخضراء المليئة بالبراءة واللوم.
“ماذا لو لم يأتِ مرة أخرى؟”
“…آسفة.”
همستُ باعتذارٍ خافت، لكنه على ما يبدو لم يصل إلى مسامع إيفيلين.
أخذت أربّت على ظهرها وهي تبكي بحرقة، محاوِلة تهدئتها:
“سأدعوه مجددًا، لا تقلقي.”
“متى؟”
ارتفعت رأسها إليّ بابتسامة مشرقة، كأنها لم تبكِ منذ لحظة. أطلقت تنهيدة ارتياح في داخلي.
لم يكن الأمر أنني ضعيفة أمامها، لكن أي إنسان يرى براءتها وجمالها سيجد نفسه عاجزًا عن رفض طلبٍ لها.
فكّرت قليلًا ثم قلت:
“…بعد ثلاثة أيام، سيكون هناك حفل في القصر الإمبراطوري. سأحاول أن أدعو ليوبولد مجددًا إلى القصر.”
“رائع! تينا، شكرًا لك!”
قفزت إيفيلين إلى حضني وهي تضحك بفرح غامر، وكأن دموعها لم تبلل وجنتيها قبل ثوانٍ. تمايلت قليلًا بفعل اندفاعها، ثم بادلتها العناق بابتسامة باهتة.
كان واضحًا أن ظهور ليوبولد قد جعلها تنسى تمامًا لقبي القديم “تيتي”.
ربّتُ على ظهرها وأنا لا أعرف إن كان عليّ أن أفرح لذلك أم أتحسر.
لكن ما لم أتوقعه هو أن ليوبولد لم يقبل دعوتي مطلقًا. منذ ذلك اليوم، صار يتجاهلني تمامًا.
مهما ناديته، كان يتصرف وكأني غير موجودة. لم يكن الأمر مزعجًا في العادة، فأنا أصلًا نادرًا ما أحتاج للتحدث معه.
لكن في مواقف مثل اليوم، لم يكن أمامي خيار.
فبعد ثلاثة أيام، اجتمع الجميع في القصر الإمبراطوري لحضور الحفل الكبير. كان عليّ أن أستغل المناسبة وأطلب منه الحضور إلى قصرنا من جديد.
وصلت إلى القصر مبكرًا قبل أسرتي. وبمجرد دخولي، استقبلني أحد خدم القصر:
“آنسة تينا فالنتاين، مرحبًا بقدومك.”
“شكرًا، أهلًا بك.”
“صاحب السمو ولي العهد بانتظارك. يمكنك السير في هذا الممر حتى تصلي إليه.”
“ممتنة لك.”
رافقني الخادم بنظرات إعجاب طفيفة، وكأن كوني “صديقة مخلِّصة لمن ستنقذ الإمبراطورية” قد أضفى عليّ هالةً لم تكن لي من قبل.
تابعت السير بخطوات سريعة، أحاول أن أثبت لنفسي عزيمتي:
سألتقي ليوبولد وأعتذر. حتى لو لم أعرف لماذا يجب أن أعتذر أصلًا.
“هاه…”
تنفست بعمق. لم أكن أعلم ما الخطأ الذي ارتكبته، لكن من أجل إيفيلين، عقدت العزم على أن أنحني له ولو لمرة واحدة.
أخذت أتمتم وأنا أمشي في الممر الفسيح:
“ليوبولد، لا أعلم حقًا ما خطئي، لكن… إن كنت تراني مذنبة، فأنا أعتذر، لذا أرجوك لا تغضب بعد الآن…”
توقفت فجأة. “لا، هذا لا يصلح…”
أعدت المحاولة بصوت خافت:
“مولاي، أرجو أن تهدأ، وأن تشرفنا بقدومك إلى القصر مجددًا…”
تأففت. “آه، هذا يبدو متذللًا جدًا…”
مهما حاولت، لم يخطر ببالي سوى جملٍ تثير استفزازه بدلًا من أن تُرضيه.
وبينما كنت غارقة في صراع داخلي مع كلماتي، سمعت وقع خطوات قادمة من الجهة الأخرى من الممر.
تألّق ضوء خافت حوله، فأدركت على الفور أنه ليوبولد.
وبالفعل، ظهر بعد لحظات، متألقًا في ثياب الحفل: بدلة سوداء مُزيّنة بخيوط ذهبية لامعة، وكأنها صُنعت خصيصًا له.
إن كان وسيمًا في الأيام العادية، فهو الآن أكثر وسامة من أي وقت مضى. ومع ذلك، بقي ليوبولد هو ليوبولد، ببروده الذي لا يتغير.
التقت عيناه بعينيّ، فتباطأت خطواته قليلًا.
“لـ… مولاي!”
انتهزت الفرصة وأسرعت نحوه بخفة، شعري يتطاير خلفي. لم أستقبله بهذه الحماسة في حياتي قط.
“… “
لكنه مرّ بجانبي ببرود، دون أن ينبس بكلمة، وكأنني مجرد هواء. تجمدت مكاني لثوانٍ، ثم التفت أتبعه بخطوات مترددة.
“مولاي…”
“…”
“مولاي، صاحب السمو…”
“…”
ناديتُه مرارًا وتكرارًا، لكنه استمر في التجاهل.
ذلك الرجل، الذي كان يستيقظ حتى على صوت ورقةٍ تسقط أرضًا، لا يمكن أن يدّعي أنه لم يسمعني.
لقد كان يتجاهلني عمدًا.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 9"