لم يكن هناك أحد في القصر سوى بعض أفراد العائلة وعدد من الخدم الذين جاءوا إلى القصر الإمبراطوري، أما البقية فقد منحتهم إجازة، فصار المنزل خاليًا من الناس تمامًا. ألم يبدُ هذا غريبًا لهذا الرجل؟
“يا للعجب.”
ومع ذلك، حين فكرت في طباعه، شعرت بالامتنان لمجرد أنه أتى من غير سبب.
على أي حال، بمجرد أن رأيت راسل تحسنت حالتي المزاجية ببساطة.
كل ما جرى بالأمس مع إلوين وإيفلين تلاشى من رأسي كأنه لم يكن.
أمسكت بيد راسل واقتدته إلى الغرفة وقلت بصوت مفعم بالحماسة:
“اليوم سأريك أرجاء القصر الإمبراطوري. آه، لكن هل تود أن نأكل أولًا؟ فطور اليوم هو—”
“لا، الجولة لا تهمني. الأهم هو—”
“ماذا؟”
وفجأة توقّف راسل عن السير بعدما كان يتبعني بهدوء.
بدا وكأن الأجواء تغيرت فجأة.
أدار راسل عينيه الزرقاوين يتفحّص المكان من حوله، ثم قال بصوت منخفض:
“إذن، أين صديقتك تلك؟”
“ماذا؟”
سؤال غريب جدًا.
لكن ملامح راسل كانت جادة على غير عادته.
“أ… تقصد إيفلين؟”
“نعم.”
أجاب راسل بحزم وهو يومئ برأسه إيماءة صغيرة.
أتذكر أني حين حكيت له سابقًا عن ما قبل عودتي، ذكرتُ إيفلين بشكل عابر.
لم أقل شيئًا مثيرًا لاهتمامه، ولا حتى أن إيفلين بطلة الرواية.
وفوق ذلك، لم يكن بين راسل وإيفلين أي صلة في السابق.
إذن لماذا يسأل عنها الآن؟
شعرت بقلق غامض يتصاعد في صدري.
حاولت أن أخفي قلقي وأتحدث ببرود وأنا أسأله:
“ولماذا إيفلين؟”
“لأني جئت اليوم لرؤيتها.”
“ماذا تقول؟!”
سألته بدهشة وقد اتسعت عيناي.
فأجاب راسل وكأن الأمر طبيعي:
“لو لم يكن من أجلها، لما تكبدت عناء المجيء إلى هنا أصلًا.”
“…….”
كانت كلماته صادمة متتالية.
ذلك الكسول إلى حد لا يُحتمل، الذي يجب أن أُلح عليه ثلاثة أيام كاملة لأجعله يرافقني إلى أي مكان…
جاء بنفسه إلى القصر الإمبراطوري فقط لرؤية إيفلين؟!
تجمدت للحظة، فاغرة فمي قليلًا، قبل أن أستفيق كمن ضربه البرق.
“لا تقل لي…”
“هاه؟”
خاطرت بي فكرة مفاجئة جعلت صوتي يرتجف وأنا أنطق:
“أأنت تُحب إيفلين…!”
“إن كنتِ ستتفوهين بالهراء، فسأرحل من فوري.”
قاطعني راسل بوجه جاد أكثر مما ينبغي، قبل أن أكمل جملتي.
… هل كنتُ مخطئة في ظني؟
من رد فعله، بدا وكأن استنتاجي كان مبالغًا فيه. لكنني في داخلي عقدت العزم أن أراقب هذين الاثنين جيدًا من الآن فصاعدًا.
***
بعد أن تناولت فطوري على عجل في الغرفة وأنهيت استعدادي بسرعة، خرجت مع راسل إلى الخارج.
في الحقيقة، لو لم يأتِ راسل اليوم، لبقيت حبيسة غرفتي.
كنت قد وعدت ليوبولد بذلك أيضًا.
لكن بما أنه أصرّ بتلك الجدية على رؤية إيفلين، فلا بد أن هناك سببًا مهمًا.
المشكلة أني لم أكن أعلم أين هي إيفلين، فاضطررنا إلى السير بلا هدف.
“لكن، في قصر واسع هكذا، كيف سنجد إيفلين—”
“أليست تلك هي؟”
“هاه؟”
قبل أن أنهي كلامي، قاطعني راسل وأشار بيده.
اتبعت اتجاه إصبعه، وبالفعل… كانت تلك الفتاة إيفلين.
كانت تقف على أطراف أصابعها متكئة بخطورة على سور الشرفة، تنظر إلى الخارج بفضول.
“صحيح، إنها هي.”
“…….”
كنت أنوي أن أتوجه إليها لألقي التحية، لكني توقفت فجأة.
كان عند مدخل الشرفة فارسان، على ما يبدو حراسها الشخصيون.
طبيعي، فهي أميرة، ولا يمكنها أن تتجول بمفردها في بلدٍ أجنبي.
لا بد أن الأمس كان استثناءا حين تمكنت من التسلل لتتبعني.
لكن الآن… لا تبدو مقابلتها ممكنة.
“همم… يبدو أن إلقاء التحية صعب الآن.”
“…….”
كان الحراس يمنعون أي أحد من الاقتراب.
فربّتُ على كتف راسل وكأنني أواسيه.
“أنظري، أحدهم تمكّن من الدخول.”
“ماذا؟”
نظرت بسرعة، فإذا بشخصٍ ما يتجاوز الحراس ويقترب من إيفلين.
شاب ذو شعرٍ فضي يلمع تحت أشعة الشمس، وعينين ذهبيتين أكثر بريقًا من ذلك الشعر.
جماله كان أخّاذًا بحق، كأنه من عالم آخر.
ولم يكن سوى… ليوبولد.
حدّقت في الاثنين شاردة للحظة، ثم ما أن استوعبت الموقف حتى جذبت راسل بسرعة واختبأت خلف الستائر.
على الشرفة الفسيحة، لم يبقَ سوى ظلهما معًا.
“هذا الفتى… نشيطٌ جدًا.”
تمتمت وحدي وأنا أراقبهما من بعيد.
من مكاني، بدا الاثنان كزوجٍ مثالي.
لم يكن غريبًا أن يكونا بطل وبطلة الرواية.
شكلهما وحده كان لوحة فنية؛ أجمل شاب وفتاة في العالم يقفان معًا، يملآن الأجواء برومانسية واضحة.
ذلك ليوبولد… ألم يهددني كي لا أزعجه؟ ومع ذلك، هو بنفسه يتقرب منها بهذا الشكل.
في حياتي السابقة كان متحفظًا قليلًا، لكن يبدو أنه غيّر نهجه في هذه المرة.
“…….”
بينما كنت أتأمل، لاحظت أن راسل يخطو فجأة باتجاه الشرفة، بعينيه مثبتتين على الاثنين.
لكن الحراس أوقفوه فورًا.
“لا يمكنكم الاقتراب أكثر من هذا.”
“ولمَ لا؟”
سأل راسل بجدية، وكأنه لا يفهم.
بدا كأنه يقول: ولماذا يُسمح لليوبولد ولا يُسمح لنا؟
بالطبع، هناك فرق هائل بين أميرٍ من العائلة المالكة ونبيلٍ عادي مثلنا.
أما أنا، فأعرف هذا جيدًا، لكن راسل، كونه روحًا، لم يستوعب مثل هذه الفوارق.
“راسل، تعال.”
أمسكت بمعصمه وسحبته بعيدًا حتى عدنا للاختباء وراء الستائر.
من هنا، لا أحد سيرانا.
رمقني راسل بنظرة متجهمة، غير فاهم:
“لماذا؟”
“إنه موقف جميل. لا تفسده، ودعنا نراقب من هنا.”
لم أستطع أن أشرح له عن السلطة والفوارق الاجتماعية، فاختصرت.
والحقيقة أن الموقف رومانسي فعلًا.
شابة بشَعر ذهبي، وشاب بشَعر فضي… مجرد النظر إليهما يبهج القلب، لو تجاهلت عدائي لليوبولد.
“موقف جميل؟”
أعاد راسل كلماتي بعبوس، كأنه لا يفهم.
ثم أشار إليهما وسألني:
“أهذا يبدو جميلًا في عينيك؟”
“أنت روح، فلا تفهم المشاعر جيدًا. ثم إن هذا مجرد بداية، لا يجوز أن نقطعها.”
أجبته بنبرة: “ما الذي تعرفه أنت؟” فهو فعلًا لا يفهم مشاعر البشر كثيرًا.
لكن كان هناك سببٌ آخر جعلني أمنعه:
“ثم… ليس من الحكمة التدخل الآن.”
“ولماذا؟”
وضعت يدي على فمي وهمست له محذرًا:
“ليو هذا… إن قاطعت وقته مع إيفلين، يغضب غضبًا رهيبًا.”
“…….”
كنت أفعل ذلك لحماية راسل.
كم من الناس دفعوا الثمن غاليًا حين تجرأوا على إزعاجهما!
وأنا أكثر من عانى، لأني كنت الأقرب إلى إيفلين.
في مثل هذه الروايات الرومانسية، دائمًا ما يكون الأقرب إلى البطلة ضحية لغضب البطل.
وأنا، التي أعرف طبع ليوبولد جيدًا، لم أستطع أن أدع راسل يلقي بنفسه في النار.
“…….”
بدا راسل متفاجئًا قليلًا بما قلت، على غير عادته الباردة.
لكن سرعان ما عاد بوجهه الخالي من التعابير وسألني بنبرة مشككة:
“… هو؟”
من الواضح أنه يشكك في كلامي.
لكن الضحية الأكبر تقف أمامه.
“نعم! في حياتي السابقة كان يكرهني بشدة! وأنا الدليل الحي على ذلك.”
“… ماذا فعل بك؟”
سأل راسل وكأنه لا يريد أن يسمع الإجابة أصلًا.
رأيتها فرصة سانحة. فرصة لأكشف له كم أن ليوبولد شخصٌ حقير.
“تسأل ماذا فعل؟”
تذكرت معاناتي السابقة بسببه، ولم أتمالك نفسي من أن أبتسم بسخرية.
التعليقات لهذا الفصل " 42"