على أي حال، كنت قد خرجت خلسة من القاعة متخفية عن أنظار الخدم، وإن تأخرت أكثر فسوف يثير ذلك ضجة لا محالة. كان عليّ أن أعود.
أيقظت راسل الذي كان قد غفا بعمق كأنه في نافورته الخاصة. هززته برفق وقلت:
“راسل، استيقظ. فلنعد. يبدو أنني كنت واهمة.”
“…….”
أمسكت به وهممت بالعودة إلى قاعة الحفل التي ما زالت صاخبة بأجواء الانتصار، لكن راسل أمسك بذراعي ليوقفني.
“انتظري. لا أظن أن هناك حاجة للعودة بعد.”
“ماذا؟”
التفتُّ إليه متعجبة، لأجده ما زال في هيئته كروح، عيناه مثبتتان على النافذة.
“لدينا… زائر.”
“زائر؟”
رفعت حاجبي بدهشة واقتربت من النافذة على أطراف أصابعي. هناك، رأيت أحدهم يقترب في اتجاهنا.
فتى جميل ذو شعر فضي لامع، جماله يشعّ بوضوح حتى من بعيد. وكلما اقترب، بدت عيناه الذهبية أكثر بروزاً وسط ملامحه المتألقة.
في هذه الرواية… لم يكن هناك سوى شخص واحد بهذه المواصفات.
ذلك الشعر الفضي النادر، وتلك العينان الذهبيتان الحادتان – العلامة التي لا تخطئ على انتمائه للعائلة الإمبراطورية.
لقد كان “ليوبولد”… في أوج صباه. لحظة رؤيتي له جعلتني أُسقط نفسي في الماضي. نعم، كان هو تماماً كما التقيته لأول مرة.
“…ليو؟”
همست دون وعي، بالكاد مسموعة، ثم سارعت بتغطية فمي.
لكن في تلك اللحظة، رفع ليوبولد رأسه، وعيناه الذهبيتان تلاقتا مباشرة مع عيني المعلقة عند النافذة.
“! “
بخفة، انكمشت إلى الأسفل واختبأت تحت إطار النافذة.
ذلك البريق في عينيه… كم كان مألوفاً. في حياتي السابقة، طالما نظر إليّ بتلك النظرة نفسها. نظرة ضجر، نظرة استياء، نظرة ازدراء لا تنطق بكلمة لكنها تقول كل شيء.
وكنت أتساءل: ألهذا الحد كنت مزعجة له؟ إن كان لديه اعتراض، ألم يكن بوسعه أن يتحدث بدلاً من تلك النظرات المسمومة؟ لم يكن ذلك يليق بلقب “سيّد السيف” الذي حمله.
في البداية كنت أرتبك وأتراجع أمامه، لكن مع تكرار تلك النظرات… بدأ جزء مني يتمرّد ويقاوم.
نظر إليّ راسل باستغراب وسأل:
“لماذا تختبئين؟ أليس هو من كنتِ تنتظرينه أصلاً؟”
“…….”
حقاً… لماذا؟
لكن الشيء الأكيد هو أنّ تلك النظرة التي تبادلناها قبل لحظة لم تكن أبداً نظرة شخص يلتقي بغريب للمرة الأولى.
لقد عرفت في الحال… أن ليوبولد يتذكر كل شيء، تماماً كما أفعل أنا.
وأنه، بلا شك، السبب في كل ما يجري.
“! “
طرق… طرق… طرق… طرق.
وفجأة، بدأ أحدهم يطرق باب المخزن. في البداية كان الطرق هادئاً ومنتظماً، ثم سرعان ما صار أشد وأسرع، إلى أن بدا وكأن الباب سينهار تحت قبضاته.
مع كل طرق، كان قلبي يخفق بعنف كما لو كنتُ مجرمة محاصرة. يا إلهي… أشبه ما يكون بمشهد من فيلم رعب.
لكنني كنت أعرف طبع ليوبولد. مجرد أنه لم يحطّم الباب فوراً كان دليلاً على أنه يحبس غضبه بصعوبة بالغة.
“… هه.”
تنفست بعمق. في النهاية، أنا من كان يبحث عنه، وهو من كنت أريد مقابلته.
فتحت الباب بعزم.
طَق.
وعندها التقت عيناي مباشرة بالعينين الذهبيتين لذلك الفتى، وكان وجهه يوحي بنفاد صبره وتوتره.
وقفت أحدّق في الفتى ذي الشعر الفضي والعينين الذهبيتين، ذاك الجمال النادر الذي يخطف الأنفاس. في الثالثة عشرة من عمره فقط، كان ما يزال يحمل ملامح طفولية خفيفة، مما أضفى على وجهه الوسيم مسحة محايدة.
“وجدتُك.”
ما إن التقت عيناي بعينيه حتى تمتم ليوبولد كمن يحدّث نفسه. في صوته، الذي اعتدت بروده، خالج نبرة غريبة أقرب إلى النشوة.
وجدتك…؟ تلك الجملة كان يجدر بي أنا أن أقولها. أنا التي ظللت أبحث عنه، لكن الغريب أن شعورًا اجتاحني وكأنني أنا من وقع في شِراك الاكتشاف.
ما إن فُتح الباب حتى بادر ليوبولد بالإمساك بكلتا معصميّ، وكأنني سأفرّ من أمامه في أية لحظة.
أه؟
تجمدت برهة في دهشة وصمت، قبل أن أسحب يديّ ببطء وكأن شيئًا لم يحدث، وأردف مبتسمة:
“ليو، مرّ وقت طويل.”
“…….”
لم يرد. كان يكتفي بالتحديق في وجهي بصمت.
هل بدا له مظهري القديم، المليء بالخيبات والذكريات السوداء، غريبًا؟ لا عجب، فهو لم يعرفني إلا بعد أن تخلّصت من وزني الزائد، أما هذه الصورة فلا بد أنها غريبة على ذاكرته…
“……كيف حالك؟ لقد كبرتَ كثيرًا، أو بالأحرى… لا. بل صغرتَ كثيرًا، أليس كذلك؟”
“…….”
كدت أن أقولها بعفويتي المعتادة “لقد كبرتَ” لكنني تداركت نفسي بسرعة، فخرجت العبارة متناقضة بشكل مضحك.
غير أنّ ليوبولد لم يُعر سقطتي الكلامية اهتمامًا، بل تجاهلها ببرود، ثم قال بنبرة خافتة تحمل شيئًا من الضيق:
لم يجب. هل ما زال يشكّ؟ نظرت إلى عينيه التي أخذ برودها يشتد شيئًا فشيئًا، فسارعت بإضافة جملة بدت أقرب إلى الاعتراف:
“في الحقيقة، كنت أنتظرك أنت بالذات.”
“……هكذا إذن؟”
لمحت في وجهه المتجهم ارتخاءً طفيفًا، يكاد لا يُرى. لكنه لم يَفُتني؛ فأنا أعرف ليوبولد بما يكفي لالتقاط هذه التغيرات الضئيلة في ملامحه. بدا وكأنه لم يمانع سماع ذلك، بل ربما سرّه قليلًا.
“……لقد مر وقت طويل.” قال أخيرًا.
“أجل، أليس كذلك.” أجبت بابتسامة.
حقًا، هل كان يهمه إلى هذه الدرجة إن كنت قد تجنّبته أو لا؟ ومتى صرنا مقرّبين لهذه الدرجة أصلًا؟ راودني هذا التساؤل، لكنني آثرت أن أبتلعه دون أن أبوح به.
“…….”
ساد الصمت بيننا قليلًا بعد التحية القصيرة. وفجأة أدركت أنني لم أرتب في رأسي ما سأقوله حين أراه، إذ شغلني رَاسِل بتدريباته القاسية حتى غاب عني التفكير في الأمر.
وبينما أنا غارقة في حيرتي، جال ليوبولد بنظره حول المكان بنظرة متفحّصة غامضة، ثم قال فجأة:
“- لكن.”
“ماذا؟”
“هل كنتِ مع أحد؟”
“……لا؟”
أسرعت بهز رأسي نافية بكل ما أملك من إقناع.
رَاسِل كان في هيئة روح شفافة، لذا لم يكن بإمكان ليوبولد أن يراه. لكن، مع ذلك، بدا كأنه استشعر وجوده بالفطرة.
ولو علم أنني لست وحدي هنا، فقد لا يفتح قلبه للحديث كما أريد. لذا تماسكت وأظهرت ملامح الجهل التام، كأنني لا أفهم شيئًا.
كان ليوبولد يرمقني بنظرة مريبة، لكن لما تظاهرت بأنني لا أعرف شيئًا، لم يزد في استجوابي.
قال بهدوء:
“إذن.”
“ماذا؟”
“… كنتِ تقولين أنك كنتِ بانتظاري؟”
رفع ليوبولد عينيه الذهبيتين نحوي، يتأملني بصمت، وكأن في عينيه بريقًا من الترقب.
هل لأننا نلتقي بعد زمن طويل؟ بدا لي اليوم أكثر كلامًا من المعتاد، على غير طبعه. كأنه في حالة من الحماس الخفي.
لو قلت للآخرين إن هذا بالنسبة لليوبولد يُعد ثرثرة لما صدق أحد. فقد كنت في الماضي أظنه أبكم لقلة كلامه، أو لا يُجيد سوى إطلاق السخرية والانتقاد.
وقفتُ لحظة أفكر بما سأقول، فتذكرت ليوبولد الذي رأيته قبل عودتي بالزمن. كان في داخلي يقين أن المشهد الأخير الذي عاينته منه لم يكن منفصلًا عما يحدث الآن.
وبينما أتردد في كلماتي، كان ليوبولد ينتظر بصمت، لا يستعجلني.
تمتمت أخيرًا وأنا أحدق في عينيه الذهبيتين المتلألئتين:
“هل أنت… من استدعاني إلى هنا؟”
“صحيح.”
أجاب بسهولة، ببرود وكأن الأمر تحصيل حاصل. كأنه توقع سؤالي منذ البداية.
أنا من ارتبكت، إذ لم أتخيل أنه سيعترف هكذا دون مواربة.
“ولماذا؟”
صوته غاب. لم يرد.
كنت حقًا أتساءل: لماذا أنا بالذات؟
ظل صامتًا لبرهة، فتوهمت أن وراء تردده سببًا جللًا، وكتمتُ أنفاسي منتظرة جوابه.
لكنه اكتفى بالقول:
“… ليس هذا مكان البوح.”
“ماذا تعني؟”
“سأرتب لقاءً آخر، ونكمل الحديث.”
ثم التفت عني كأن الأمر انتهى، كأنني لم أسأله شيئًا.
يا له من رجل! دائمًا ما يتصرف وكأن كل شيء يجب أن يجري وفق مشيئته.
اندفعت وأمسكت بذراعه قبل أن يستدير مبتعدًا. شعرت باهتزاز طفيف في جسده، علامة دهشة لم يتوقعها.
“انتظر! تستدعيني إلى هنا ثم تترك الأمور غامضة هكذا؟ عليك أن تشرح.”
كان في صمته تهرّب واضح، مما أشعل في داخلي شيئًا من الغضب.
لقد انتظرت عشرة أيام كاملة فقط لأتمكن من لقاء ولي العهد ليوبولد، بل وتسللت عبر ممر سري محفوف بالمخاطر. ومن يدري متى سأتمكن من مقابلته مرة أخرى؟ فنحن لسنا على قرب يكفي لتحديد مواعيد أخرى كما يشاء.
قلت بإصرار، وصوتي يزداد حدة:
“هل حقًا لا توجد طريقة للعودة؟ هل سأضطر للعيش هنا إلى الأبد؟”
حينها ارتجف بريق عينيه قليلًا، لكن سرعان ما استعادت ملامحه صلابتها الخالية من الانفعال.
حدث ذلك بسرعة جعلتني أظن أنني توهمت الأمر.
وبعد لحظة صمت، أجابني وهو يحدّق بي بصرامة:
“… وهل لديك شيء مهم تعودين لأجله هناك؟”
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 4"