كان ليوبولد يحدّق في السماء الغائمة بشرود، وعلى وجهه تعبير يصعب قراءة ما يخفيه.
حتى في الأيام العادية لم يكن من السهل معرفة ما يفكر فيه، لكنه بدا هذه المرة أكثر غموضًا من المعتاد.
“ليو!”
“…….”
ناديت اسمه وأنا أقترب، فالتفت إليّ بعد لحظة متأخرة قليلًا.
وعندما رآني أركض نحوه من بعيد، استعادت عيناه الذهبيتان الفارغتان بريقهما المعتاد.
مددت المظلة فوق رأسه المبتل وقلت له:
“أحسنت.”
“…….”
ظلّ ليوبولد صامتًا بملامح باردة، ثم تجعّد جبينه قليلًا، وكأنه انزعج من كلماتي.
بدا واضحًا أنه لم تعجبه.
هل قلت الشيء الخطأ؟
ترددت قليلًا ثم حاولت مجددًا:
“لا بد أنك تشعر بالبرد. هيا لندخل.”
“…….”
لم يكن يبدو عليه البرد حقًا، لكنني أظهرت قلقي وحثثته على الدخول.
ومع ذلك، ظلّ وجهه متجمدًا بلا تغيير.
هذا أيضًا ليس ما يريد سماعه؟
بقي جامدًا لا يتحرك، حتى بدأت ذراعي التي تحمل المظلة تؤلمني.
بدا لي أن هناك كلمات محددة كان يتمنى سماعها مني.
ترددت، ثم قلت بصوت خافت متردّد:
“أم… شكرًا…؟”
ما أن قلتها وأنا أميل رأسي، حتى استرخى وجه ليوبولد أخيرًا.
لم يبدُ ودودًا حقًا، فما زال صقيع ملامحه كما هو، لكنه بدا أفضل قليلًا.
“أجل.”
أجاب بكلمة قصيرة، ثم مد يده وأخذ المظلة من يدي بخفة، في حركة طبيعية لدرجة أنني لم أستوعب ما حصل في البداية.
“لنعد.”
“…….”
قالها بثقة، وبدأ يمشي بخطوات واثقة كأنه صاحب المكان.
لم تكن هناك سوى مظلة واحدة، لذا لم يكن أمامي سوى السير بجانبه تحتها.
عاد كلانا إلى الغرفة قبل أن يشتد المطر.
أخذ ليوبولد منشفة جافة مني، وبدأ يمسح بلطف قطرات الماء العالقة في شعره.
وخارج النافذة كانت حبات المطر تزداد قوة شيئًا فشيئًا، تضرب الزجاج بإيقاع متسارع.
“…… يجب أن أعود قبل أن يشتد المطر.”
قال وهو يراقب الخارج.
بدا متعبًا من مبارزته مع أساد ومن البلل الذي أصابه.
رغم أنه بعقل شاب في الثامنة عشرة، إلا أن جسده ما زال جسد طفل، لا يحتمل التعب كثيرًا.
ومن نبرته أحسست بشيء من الأسف يتخلل صوته.
“إذن، سنلتقي في يوم التأسيس القادم.”
“…….”
تمتمت وأنا أراجع في ذهني جدول الأيام المقبلة.
لم يتبقَّ سوى أسبوعان على يوم التأسيس، أكبر احتفالات الإمبراطورية، حيث يجتمع جميع النبلاء من العاصمة والأقاليم.
وبالطبع، سيكون ولي العهد ليوبولد غارقًا في التحضيرات، ولن يجد وقتًا للقدوم إلى قصرنا الصغير كما فعل اليوم.
كان ذلك مريحًا لي، على الأقل لن يتكرر ما حدث اليوم قبل ذلك الموعد.
وبينما أفكر في ذلك، خطرت ببالي فكرة مفاجئة جعلتني أتنهد:
“آه، إيفيلين ستأتي أيضًا، أليس كذلك؟”
ذلك اليوم سيكون أول قدوم لإيفيلين إلى الإمبراطورية.
إيفيلين، الأميرة الصغيرة من دولة ضعيفة، كانت قد زارت الإمبراطورية في طفولتها، وأُعجبت حينها ببذخها وجمالها، وظلت منذ ذلك الحين تحمل شغفًا بها.
وسيكون يوم التأسيس أول لقاء يجمعها بأبطال القصة الثلاثة.
حتى أنا سيكون لي لقاء قصير بها.
“…….”
لكن ما أن ذكرت اسم إيفيلين، حتى توقفت يد ليوبولد فجأة عن مسح شعره.
قلت بحماس طفولي، محاوِلة إذابة جمود الجو:
“عليك أن تستعد جيدًا! ستأكل أطعمة لذيذة، وترقص كثيرًا! ثم إن أسرّة القصر الإمبراطوري أكثر راحة من هنا، ستنام نومًا عميقًا.”
“…….”
التفت إليّ ليوبولد بصمت، بعينيه الذهبيتين وقد خيّم عليهما ظلّ غامض.
أما أنا، فلم أعر ذلك اهتمامًا، وواصلت الحديث بحماس عن أجواء المهرجان المنتظر.
يوم التأسيس لم يكن مجرد احتفال ليوم أو يومين، بل مهرجان طويل الأمد.
وكان القصر الإمبراطوري يفتح أبوابه للضيوف بسخاء، يقدم لهم الطعام والشراب والغرف المريحة بلا حدود.
وبما أن ليوبولد يعرف مسبقًا أن إيفيلين ستأتي، فقد يُقام هذا اليوم بشكل أبهى من ذي قبل، ربما أكثر روعة حتى مما كان في السابق.
لا بد أن آخذ رَاسِل أيضًا معي…
لكن، رَاسِل لا يحب الأماكن المزدحمة، قد يتذمّر ويرفض القدوم.
مع ذلك، سأحاول إقناعه على أي حال.
كنتُ غارقة في أحلامٍ سعيدة وأنا أضع خططًا لقدوم يوم التأسيس، حين قطع ليوبولد ذلك الصمت الغريب بصوتٍ منخفض:
“…… تينا.”
“هم؟”
أجبته باستغراب وأنا ألتفت نحوه.
كان على وجهه تعبير معقّد، بدا وكأنه يخفي شيئًا يصعب البوح به.
“…… لماذا؟”
سألته بقلق وأنا أراقب ملامحه المترددة.
حرّك شفتيه الحمراء وكأنه يريد أن يتكلم، لكنه وجد صعوبة في إخراج الكلمات.
“في يوم التأسيس……”
وأخيرًا تكلّم ببطء.
وسقطت من شعره قطرة ماء لم تُمسح بعد، لترتطم بالأرض مع صمتٍ ثقيل.
“لا تأتِ.”
“ماذا؟”
… هل سمعتُه خطأ؟
نظرتُ إليه بدهشة وسألته من جديد.
“لا تأتِ أبدًا. حتى لو جاءتك دعوة من القصر الإمبراطوري، تجاهليها.”
“…….”
حدّقت في عينيه الذهبيتين اللامعتين، الصارمتين، وقد أذهلني حزم كلماته.
تجاهليها؟
لكن القصر يرسل دعواته لأكبر احتفال في الإمبراطورية إلى كل النبلاء.
ولا شك أن عائلتنا، آل فالنتاين، ستتلقّى دعوة أيضًا.
بل حتى أنا، أصغر أفرادها، سأُدعى.
“…… هذا ليس أمرًا أستطيع أن أقرره بنفسي.”
أجبته بحذر.
فيوم التأسيس ليس مجرد احتفال عادي، بل واجب حضوره على جميع النبلاء.
كيف لي أن أتجاهل دعوة القصر من دون أن أعرّض نفسي وعائلتي لعواقب وخيمة؟
ليوبولد يعرف ذلك جيدًا.
حتى لو كنتُ أكبر سنًّا لما تمكنت من رفض الأمر، فكيف وأنا مجرد فتاة في الثالثة عشرة، سيجرّني والداي إلى القصر رغماً عني.
إنهما والدان لم يترددا في أخذي إلى حفلات النبلاء حتى عندما كنت مريضة بالحمّى في السابق.
فكيف في حدث ضخم كيوم التأسيس الذي يستمر ثلاثة أيام على الأقل؟
ليوبولد يعرف ذلك… ومع ذلك يطلب مني عدم المجيء.
هل يريد أن أغيّر مسار القصة؟
هل هذا مقصده؟ وإلى أي حد يعرف حقائق هذا العالم؟
“…….”
عقد حاجبيه بتعب، وكأنه لا يستطيع أن يشرح لي السبب.
فأدركت فجأة، وابتسمت ابتسامة واثقة:
“فهمت!”
“؟”
نظر إليّ بذهول، متسائلًا عمّا فهمت.
لكنني كنت واثقة تمامًا.
لقد عشت بجانبه أكثر من خمس سنوات، حتى صار من السهل عليّ قراءة ما يفكر به من دون أن يتكلم.
فقلت بنبرة خبيرة:
“أنت تريد أن تحتكر إيفيلين هذه المرة، صحيح؟ فهمت قصدك.”
“هاه؟”
عندما جئت إلى هنا أول مرة، حاولت أن أستغل ذكرياتي من السابق لصالح الأحداث.
لكن في النهاية فشلت وانتهى الأمر كما في الأصل.
لذلك كنت قادرة على فهم مشاعره الآن.
فليوبولد، بما أنه يتذكر الماضي، يستطيع بسهولة أن يحتكر اهتمام إيفيلين في يوم التأسيس.
شريطة أن لا أكون موجودة لأتدخل.
إذن، طلبه لي بعدم الحضور لم يكن سوى خوفًا من أن أفسد خططه.
لكن بينما كنت مقتنعة بهذا التفسير، بدا هو غاضبًا بشدّة من كلامي.
في البداية، حدّق فيّ مذهولًا، ثم ما لبث أن تجمّدت ملامحه مع تصاعد غضبٍ صامت.
“كلامك مزعج.”
“أخطأت؟! كنت فقط أريد مساعدتك.”
كنت صادقة؛ لو كان فعلاً يريد احتكار إيفيلين، فلن أمانع في أن أبتعد وأترك له المجال.
فهو في السابق كان يراني دائمًا كعائق أمامه.
ظننت أنه سيفرح لو ابتعدت هذه المرة.
لكن على عكسي، هو أطلق تنهيدة عميقة، ثم قال بنبرة استسلام:
“…… اعتبريه كذلك فحسب.”
كان واضحًا أنه لا يريد التعمّق أكثر في الموضوع.
فأغلقت فمي وقررت ألا أضغط عليه.
“إذن، سأحرص على أن أبقى بعيدة قدر الإمكان. لن أقترب من إيفيلين هذه المرة. هذا يرضيك، أليس كذلك؟”
“…….”
نظر إليّ بوجه متحفظ، كأنه غير راضٍ تمامًا، لكنه في النهاية أومأ برأسه.
رفعت يدي كمن يقطع عهدًا، مؤكدة له وعدي.
لكنه ظل يرمقني بنظرة مريبة، وكأنه لا يثق بما قلته تمامًا.
♤♧♤♧♤♧♤
التعليقات لهذا الفصل " 32"