المسألة ببساطة أن جسد ليوبولد بصفته من العائلة الإمبراطورية أغلى بكثير.
كلمتي جعلت المربية تهز رأسها بسرعة، ثم ضمّت يديها في هيئة الدعاء متمنية النصر لليوبولد.
وقفنا، أنا وهي، على مسافة بعيدة قليلًا نتابع الرجلين وهما يواجهان بعضهما وسط ساحة التدريب.
حينها، التقط ليوبولد سيفًا خشبيًا من زاوية الساحة بحركة مألوفة، ثم رمى بآخر إلى آساد.
قال بصوت منخفض كأنه تهديد:
“إن فزتُ، فلن تضع قدمك هنا مجددًا.”
“…….”
نظر آساد إليه لبرهة، ثم التقط السيف عن الأرض.
“وإن فزتُ، فسأظل آتي إلى هنا.”
“…….”
رمقه ليوبولد بعينيه الذهبيتين الباردتين، بينما أعاد التأكيد بكلماته.
رفع آساد رأسه من فوق السيف، ثم قال بابتسامة ساخرة:
“حتى لو طُردتُ، ستسارع الإمبراطورة لتزرع إلى جوارك شخصًا آخر، أليس كذلك؟”
“لا يهمني.”
أجابه ليوبولد بلا مبالاة.
عندها ارتسمت على وجه آساد ملامح غريبة.
“إذن تكره وجودي إلى هذه الدرجة؟”
“…….”
ليوبولد لم يرد.
صمته كان اعترافًا ضمنيًا.
صحيح أن الإمبراطورة لم تكتفِ بآساد وحده، بل زرعت حوله عشرات الجواسيس، سبعة وأربعين رجلًا على الأقل.
وليوبولد يعرفهم جميعًا.
لكن الوحيد الذي أراد طرده فورًا هو آساد.
“لكن لماذا أنا بالذات؟ هل ارتكبتُ ما يزعجك إلى هذا الحد، أيها الأمير؟”
“…….”
بابتسامة لاذعة تابع آساد، بينما تجمد وجه ليوبولد أكثر فأكثر.
من يراه لأول مرة قد يظنه جثة بلا روح.
“…… ألست أنت من يخفي شيئًا؟”
“ماذا؟”
تكلم ليوبولد فجأة بعد صمت طويل.
جملة يصعب تجاهلها.
“أنا أعرفك أكثر مما تظن.”
“لا أفهم قصدك.”
رد آساد ببرود، وبدوت أنا أيضًا في حيرة.
“أنتِ… وأنت أيضًا، تخفيان شيئًا عني، أليس كذلك؟”
تملكني الذهول.
عيناه حادتان كعادته… لكنه لن يصل أبدًا إلى لحقيقة.
كيف له أن يصدق لو أخبرناه أننا عدنا من المستقبل؟ سيظننا نسخر منه.
ولو ذكرت له حكاية ذكريات ماضٍ قبل العودة، فلن يرمقني إلا بنظرات ازدراء.
كنت أراقب المشهد من خارج الساحة، أحد عشر خطوة بعيدًا، أفكر: لماذا يحدث هذا فجأة؟ وكأنها لحظة يجب أن أصرخ فيها: لا، لا تقاتلا بسببي!
شعرت أنني رأيت هذا من قبل.
أجل، هذا بالضبط ما حدث في القصة الأصلية، لكن كان من المفترض أن يجري في بطولة السيف الشتوية بالقصر الإمبراطوري، لا هنا في ساحة متداعية تعج بالغبار خلف قصر البارون.
بعد تفكير قصير، نطق آساد:
“إن فزتُ، ستتوقف عن تظاهرك.”
“تظاهر؟”
تساءل ليوبولد باستغراب، وقد تغيرت ملامحه للحظة، لكن سرعان ما أخفاها.
“لا أفهم قصدك.”
“تبا لك…”
زمجر آساد وهو يحدّق فيه بغضب.
“سأمزق قناعك أيها المنافق ذو الوجهين!”
صرخ، ثم اندفع فجأة.
ارتفعت السيوف في الهواء وارتطم الخشب بالخشب فأحدث دوياً قويًا.
المبارزة كانت سريعة لدرجة أني لم أستطع سوى ملاحقتها بعينيّ.
في البداية كانا متكافئين،لا يتفوق أحد على الآخر.
“مذهل…”
تمتمت بإعجاب حقيقي.
أن يتمكن آساد من مجاراة ليوبولد… يا له من أمر خارق.
لا يزال مبتدئًا لم يكمل ثلاث سنوات في السيف، ومع ذلك أظهر موهبة فذة.
لكن سرعان ما استعاد ليوبولد هدوءه، وانقلب الميزان لصالحه.
“آه…!”
ترنح آساد، فاستغل ليوبولد اللحظة، وتوغل بسيفه حتى طرحه أرضًا.
وفي لحظة واحدة، كان سيفه مسلطًا على عنق آساد.
المعركة انتهت بلا جدال.
حتى العبقري لا يمكنه تجاوز فجوة الخبرة.
لقد كانت ضربة قاضية جميلة، رقصة سيف رائعة كدت أصفق لها.
لولا أن المكان لم يكن ساحة البطولة الفخمة، بل مجرد ساحة مهجورة.
“…….”
ظل آساد على الأرض مذهولًا، غير مصدق لما حدث. لم يتوقع الهزيمة، خصوصًا بعد أن هزم ليوبولد قبل شهرين فقط.
لكن الفارق كان واضحًا الآن.
ثم، قطرة… قطرة…
انهمرت بضع قطرات من السماء.
سقطت على الأرض وعلى وجه آساد.
“تذكر وعدك.”
قال ليوبولد بصوت هادئ وهو يرفع سيفه عن عنقه.
عندها فقط، تحول وجه آساد إلى الأحمر، غضبًا وخزيًا.
“أي حيلة استخدمتَها؟”
قال وهو ينهض متعرقًا، وعيناه الزرقاوان تتقدان.
“قبل شهرين فقط كنتَ تنهار أمام سيفي!”
لكن ليوبولد لم يرد.
سخط آساد أكثر وهو يصرخ:
“أيها الوغد! لن أبقى صامتًا! أجبني!”
لكن ليوبولد لم يزد عن إلقاء نظرة باردة قبل أن يغمد سيفه.
“المرة القادمة لن تكون سهلة! كن مستعدًا!”
زمجر آساد ثم استدار بعنف، مرّ بجانبي وهو يضغط على أسنانه.
سمعت بوضوح صوته يتمتم: “تبا…”
ثم ابتعد مسرعًا تحت المطر حتى غاب عن الأنظار.
بقيتُ أتبعه بنظري حتى اختفى عند المنعطف.
عندها التفتت إليّ المربية قائلة بخوف:
“آنسة تينا، ولي العهد…”
“آه.”
أفقت أخيرًا، لأجد ليوبولد ما يزال واقفًا تحت المطر.
قطرات الماء تتساقط فوق شعره وكتفيه دون أن يحرّك ساكنًا.
المربية بجانبي ترفع المظلة بارتباك، تضرب الأرض بقدميها قلقًا.
التعليقات لهذا الفصل " 31"