ردد راسل مستفهماً، وكأن الكلمة بدت غريبة على مسامعه. بدا رد فعله كما لو أنه سمع لفظاً لم يعهده من قبل.
وبما أنّه ليس من عادته الإكثار من الكلام، فقد دلّ ذلك على مدى استغرابه.
لكن في حياتي السابقة، كان راسل هو من حماني. لذا، في هذه الحياة، حان دوري لأن أكون الحامية له.
ذلك الفتى، وإن بدا من الخارج بارداً غير مبالٍ، إلا أنّه في الحقيقة كان مستعداً لأن يضحي بحياته من أجلي. في حياتي السابقة لم أدرك ذلك إلا بعد موته، أما الآن فالأمر مختلف.
قطّب راسل حاجبيه ناظراً إليّ بنظرة متشككة.
“أنتِ؟”
“نعم. ابتداءً من اليوم… سأصبح شخصاً مختلفاً!”
“…….”
“ولهذا… أريد من راسل أن يساعدني قليلاً.”
قلت ذلك بابتسامة مشرقة، وأنا أمدّ يدي لأمسك بيده التي بقيت معلّقة ببرود. داخل كفّي أحسست ببرودة الماء.
“……بِمَ؟”
سأل وهو يحدّق أولاً بيده التي أمسكتُها، ثم رفع عينيه لينظر مباشرة إلى وجهي. عندها مسحت دموعي بصعوبة وقلت:
“أمم… لا أدري بالضبط. لكن، كبداية… الرياضة مثلاً.”
“رياضة؟”
“نعم! أريدك أن تدرّبني وتقوم بتمرين جسدي.”
“…….”
لقد كان جسدي ضعيفاً للغاية. مجرد الجري في الحديقة لبرهة كان يجعل أنفاسي تتقطع وكأن روحي ستفارقني. لا شك أنني كنت أضعف بكثير من ذاتي في حياتي السابقة. وهذا الجسد الممتلء يقيّد كل ما أريد القيام به.
وفوق ذلك، راسل بصفته روحاً كان يمتلك قوى عديدة. ربما… ربما أتمكّن من الاستفادة من تلك القوى لأجد طريقة أسهل، كأن أضعف وزني من دون مشقة أو تمرين مثلاً…
وكأنّه قرأ ما يجول في خاطري، نطق بصوته البارد المعتاد:
“سأكون بلا رحمة.”
“ممتاز!”
“أيّ نزوة أصابتك فجأة هذه المرة؟”
كان راسل يظنّ أنّ الأمر لا يعدو كونه واحدة من تقلباتي ومزاجي المتغير. ومع ذلك، أطلق تنهيدة وهو ينزل من نافورة المياه إلى الأرضية الترابية.
وما إن اختفى الماء الذي كان يغمر جسده، حتى تغيّر كيانه الروحي ليأخذ هيئة فتى بشعر مائيّ اللون، وعينين صافيتين، ورموش طويلة.
مع أنّ مظهر راسل كروح لم يكن محدداً، إلا أنّه عند تجسّده كان يختار المظهر الذي يريده.
“واو… راسل! إنك حقاً رائع الجمال!”
صفّقت منبهرة بجمال صورته البشرية، فيما كان هو يبتسم ابتسامة خفيفة بالكاد تُرى. بدا المشهد كله لوحة فاتنة.
لكنني في ذلك الوقت لم أكن أعلم… أن هذا الوجه نفسه سيغدو يوماً ما مخيفاً كوجه شيطان.
وهكذا مرّت الأيام، حتى وصلتُ اليوم إلى اليوم الثامن منذ أن بدأت التدريب.
“اقتلني… أرجوك…”
كل حركة كانت تجعلني أشعر وكأن عظامي تُفكك ثم تُعاد تركيبها من جديد. لا أنكر أن راسل امتلك قدرات تجعل التدريب أكثر فاعلية بكثير.
فمثلاً، كان يجعلني أتمرن داخل الماء من دون أن أشعر بالاختناق، مما يسمح لي بالاستمرار بلا توقف… لكن النتيجة الجانبية لذلك كانت نفوري من الماء نفسه وكراهيتي له.
على كل حال، بفضله تمكنت من إنهاء برنامج تدريبي يستغرق عادة شهراً كاملاً خلال أسبوع واحد فقط. ومع ذلك، ما زال أمامي طريق طويل لأعود إلى ما كنت عليه.
تأوهت وأنا أنهض بجسد متيبس، ثم وقفت أمام المرآة أمعن النظر في انعكاسي.
هل نحفت؟ ربما نعم… وربما لا…
فتيـنا فالنتاين لم تكن من النوع الذي يفقد وزنه بسهولة. يا لسوء حظي.
“همم… ومع ذلك، أظن أن ملامحي القديمة بدأت تعود شيئاً فشيئاً.”
“قديمة؟ هل تقصدين يوم ولدتِ؟”
بينما كنت أهمس أمام المرآة، إذا بصوت يأتيني من الخلف فجأة. كدت أقفز رعباً! ظننت للحظة أنه “ليوبولد الصغير” مجدداً.
ذاك المشهد من حياتي السابقة، حين جاءني ليوبولد، لم أعلم أبداً هل كان حلماً أم وهماً… لكنه على أي حال، ترك أثراً عميقاً لا يُمحى في ذاكرتي.
على أي حال… في الآونة الأخيرة صار راسل يتكلم أكثر من ذي قبل. بل أحياناً يسبقني بالكلام. لعلها علامة جيدة.
“وقتها كنتِ حقاً مجعّدة الملامح… وشكلك غريب.”
… لا، أستدرك كلامي. كونه كثير الكلام لا يعني أنه دائماً أمر جيد.
نظرت إليه مذهولة من كلماته اللاذعة التي ألقاها ببرود خالٍ من النية السيئة.
أي مولود حديث يمكن أن يكون جميلاً؟ حسنًا، صحيح أن هناك أطفالاً يولدون وهم في غاية الجمال، لكن… لم أكن أنا واحدة منهم.
مع ذلك، في حياتي السابقة، وحين بلغت الثامنة عشرة تقريباً، صرتُ آية في الحسن لا تقلّ عن جمال “إيفيلين”.
لكن وراء ذلك الجمال كانت سنوات طويلة من الجهد والتعب الذي بذلته أنا، الغريبة عن هذا الجسد.
وفجأة تساءلتُ: تُرى… كيف يراني راسل الآن؟
“وهل تراني الآن… كيف؟”
سألت بخفة وابتسامة ماكرة. عندها التفت راسل بعينيه المائيّتين ناحيتي، وبدا وكأنه يبحث عن كلمات مناسبة على غير عادته. فالروح، كما يقال، لا يمكنها الكذب.
“……أعتقد أنكِ… فريدة.”
… فريدة؟!
ما الذي يقصده بذلك؟
وأخيراً مرّت عشرة أيام منذ أن عدت بالزمن. عشرة أيام من الصبر والتحمّل. واليوم، هو اليوم الذي سأدخل فيه القصر الإمبراطوري.
كان البيت منذ الصباح الباكر يعجّ بالحركة استعداداً لدخولي. وأنا بدوري اضطررت للاستيقاظ مع الفجر للشروع في تجهيز نفسي.
“يا للغرابة، آنستي… فستانك يبدو أوسع قليلاً. سأستدعي الخياط على الفور.”
“حقاً؟”
ما إن قالت الوصيفة ذلك، حتى هللت في داخلي فرحاً.
صحيح أن عشرة أيام من الجري والتمرين لم تكن كافية لتُحدث تغييراً مذهلاً، لكن على الأقل بدا أن المقاسات قد تغيّرت فعلاً.
بعد أن أسرعت الوصيفة لاستدعاء الخياط، جلست وحدي أمام المرآة أتأمل نفسي.
كنت أرتدي فستاناً أخضر اللون يليق بعينيّ، بينما شعري البني الطويل منسدل على كتفيّ.
أما المجوهرات، فقد كنت قد صمّمتها خصيصاً بنفسي، إذ كانت صيحات الموضة القديمة قبل خمس سنوات غاية في البذاءة. لوهلة شعرت بالفخر… هل يمكن أن أصبح قائدة الموضة بين سيدات المجتمع الأرستقراطي؟ هيه، ولمَ لا؟
لكن سرعان ما زفرت. لا، لا جدوى. فمع قامتي وهذه الهيئة… لا يمكن أن يليق بي أي شيء تماماً كما ينبغي. يا للخسارة.
على كل حال… هذا اليوم هو اليوم الذي سألتقي فيه أخيراً بليوبولد. وبمجرد لقائه، سأعرف حقيقة هذا الوضع الغامض الذي وجدت نفسي فيه.
“؟”
فجأة، انفتح الباب ودخل منه شخص ما.
كان راسل، متجسداً في هيئة بشرية، مرتدياً بزة رسمية أنيقة. مظهره حينها كان أشبه بابن عائلة نبيلة من الطبقة العليا.
“أأنت ذاهب أيضاً؟”
سألته بدهشة، فأومأ برأسه بخفة.
“ظننتك لا تصدقني.”
كنت قد رويت له في السابق شيئاً من ذكرياتي عن حياتي الماضية، لكنه آنذاك بدا كمن يصغي من أذن ويخرج من الأخرى، وكأن الأمر مجرد أحلام بعيدة. ولأنني اعتقدت أنه لا يصدقني، لم أُكثر من الحديث عن ذلك. فما كنت أحكيه لا يُصدَّق حقاً.
لكنه، رغم كل ما أبداه من لامبالاة، تبيّن أنه كان يُصغي إليّ طوال الوقت.
“ستعرفين عندما نراه.”
أجابني راسل، فهززت رأسي موافقة. أجل… حين ألتقي بليوبولد، ستُكشف كل الحقائق.
***
صحيح أنني جئت إلى الحفل الذي يقيمه القصر الإمبراطوري، لكن في العادة لم يكن هناك أي فرصة للقاء ولي العهد وجهاً لوجه.
هو لا يظهر سوى للحظات في القاعة، يكتفي بكلمات تشجيع، ثم يرحل.
لكنني كنت أعرف طريقاً سرياً يمكنني من خلاله أن ألتقي بـ “ليوبولد” على انفراد.
بدّلت اتجاه خطواتي، تاركةً قاعة الحفل خلفي، وسلكت أحد الممرات الخفية داخل القصر. هنا بالتحديد… كان المكان الذي التقيت فيه بليوبولد لأول مرة في حياتي السابقة.
يومها، حين تعثّرت وسقطت بعدما وطئ بطرف حذائه ذيل فستاني، تجاهلني تماماً.
لكن هذه المرة… قررت أن أسبقه إلى هناك وأنتظره.
تلفّتُ حول الممر، ثم فتحت باب غرفة صغيرة كانت تستخدم كمخزن.
“لندخل هنا.”
أمسكت بيد راسل وسحبته معي إلى الداخل. المكان شبه مهجور، ولا أحد يلتفت إليه. وكان يطل على الممر من خلال نافذة صغيرة، مما يجعله مثالياً لمراقبة ما يجري دون أن نُكتشف.
حتى خدم القصر أنفسهم لم يكونوا يعلمون بوجود هذه الغرفة. أما أنا… فقد كنت أعرفها جيداً منذ صغري، لأنني اعتدت التردّد على القصر وكأنه بيتي الثاني.
والسبب في ذلك أنّني كنت صديقة “إيفيلين”.
إيفيلين كانت أميرة صغيرة من مملكة ضعيفة، لكنها امتلكت قدرة خاصة جعلت الإمبراطورية تستقدمها في الثالثة عشرة من عمرها وتلقّبها بجوهرة الإمبراطورية.
ولأنها كانت غريبة بلا عائلة ولا قريب، احتاجت إلى صديقة من عمرها تؤنسها وتساعدها على التكيّف… وهكذا وقع الاختيار عليّ.
آه… ذكريات بعيدة حلوة ومرة في آن واحد.
على كل حال، الأفضل أن أراقب الوضع أولاً قبل أن أتقدم. لذلك جلست تحت النافذة أخفي جسدي، أنتظر قدوم ليوبولد.
“…….”
“…….”
طال الانتظار وأنا وراسل واقفان على أطراف أصابعنا نتلصص عبر النافذة. ومع ذلك، لم يظهر أحد في الممر… لا ليوبولد ولا أي شخص آخر.
كان راسل قد ملّ، فعاد إلى صورته كروح، وبدأ رأسه يثقل من النعاس. لا بد أن الحفاظ على التجسّد البشري لفترة طويلة مرهق للغاية بالنسبة له، خاصة في مكان خالٍ من الماء.
“ذلك الغبي ليوبولد… ألم يحن الوقت ليظهر؟! حقاً، لم يكن يملك أي ذرة من الحس يوماً.”
بدأت أتمتم بكلام لا معنى له من شدة الضجر. ومع ذلك، حتى بعد طول الانتظار، لم يظهر ليوبولد.
“……لن يأتي؟”
غريب… التوقيت هو نفسه، واليوم هو ذاته. هل أخطأت في تذكري؟ مستحيل.
لا يمكن أن أخطئ بشأن ذلك اليوم.
ذلك اليوم تحديداً كان أول مرة دخلت فيها إلى القصر بعد أن وجدت نفسي في هذا الجسد الجديد. انفصلت عن عائلتي بالصدفة، وضللت الطريق في هذا المكان الواسع. وحينها ساقتني قدماي إلى هذا الممر السري.
وعلى بُعد خطوات، لمحته: صبي بعمري تقريباً، ذو شعر فضي. شعرت بالارتياح ورحت أقترب منه فقط لأسأله عن الطريق.
… كان يجب عليّ أن أهرب حينها بكل قوتي دون أن ألتفت للخلف.
“قاتل مأجور؟ لا أصدق أنهم أرسلوك حتى إلى هنا… من الذي بعث بك؟ أهي الإمبراطورة؟”
هكذا تمتم ليوبولد ببرود، وما إن وقعت عيناه عليّ حتى دفعني بعنف نحو الجدار.
كانت تلك أول مرة في حياتي أرى فتى بعمره يملك هذا القدر من القسوة والصلابة في نظراته.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 3"