خرجتُ إلى الخارج، فإذا بعربة ليوبولد تقف عند البوابة الرئيسة.
كانت عربة سوداء تحمل شعار الإمبراطورية المذهب، تحيط بها حراسة كثيرة.
على عكس شخصٍ ما الذي جاء قبل قليل إلى قصر الدوق بلا رفيقٍ ولا حارس.
“إنه لشرفٌ لنا أن يزورنا سمو وليّ العهد.”
“مرحبًا بقدومكم.”
انحنى الخدم جميعًا احترامًا للعائلة المالكة نحو من يجلس داخل العربة.
لقد أثمر التدريب اليومي الطويل على طقوس التحية لأجل هذه اللحظة بالذات.
سرعان ما فُتح باب العربة، وخرج منه فتى جميل ذو شعرٍ فضّي وعينين ذهبيتين.
كان وجه ليوبولد الذي لم أره منذ مدّة لا يزال متلألئًا بجمالٍ يخطف الأبصار.
شعره الفضي يلمع تحت أشعة الشمس، يرفرف مع نسمات الريح في مشهدٍ يكاد يكون أسطوريًا.
الخدم والوصيفات الذين لم يحظوا من قبل بفرصة رؤيته عن قرب أطلقوا آهات الدهشة والانبهار ما أن ظهر.
لولا أنني حذّرتهم صباحًا مسبقًا، لكان تصفيقٌ صاخب قد دوّى في أرجاء القصر.
لكن ليوبولد لم يلتفت إلى أيٍّ منهم، بل تجاهلهم ببرودٍ وكأن الأمر مألوفٌ لديه.
“… تينا.”
ابتسم ليوبولد ابتسامة رقيقة وناداني باسمي، ثمّ خطا بخفةٍ نحوي.
ذاك الذي اعتاد على البرود والصرامة، أطلّ الآن بابتسامةٍ ناعمة جعلت الورود الحمراء التي اعتنت بها الخدم أيّامًا طويلة تبدو وكأنها ذابلة أمام بريقه.
في القصر الإمبراطوري كنت لا أراه إلا في أبهى حلله الرسمية، أمّا الآن بملابس مريحة في مكان خاص، بدا وكأنه شخصٌ آخر…
أمر يبعث في النفس شعورًا بالغرابة وكأنني أواجه حلمًا، لا واقعًا.
آه، صحيح… إنه ليس واقعًا بل قصة.
إذن فلا غرابة، فليوبولد لا يمكن أن يوجد إلا في عالم الروايات.
لشدّة سطوعه مضاعفًا عن العادة، وجدت نفسي أحدّق به ذاهلة، قبل أن أفيق بسرعة وأربّت على خديّ برفق لأستعيد تركيزي.
“مرحبًا بك.”
“أشكركِ على دعوتي.”
قال ذلك وهو يتقدم نحوي مباشرة، دون أن يلقي بالًا لأيّ أحدٍ آخر.
… لم أكن قد دعوته أساسًا.
لكنني ابتلعت الكلام الذي بلغ حافة لساني.
مع أنّ تعابيره من بعيد قد تبدو باردة كالعادة، إلا أنني شعرت بصفاءٍ ولطفٍ غريبين ينبعثان منه، وكأن مزاجه في أفضل حال.
لم أكن الوحيدة التي شعرت بذلك، فكلّ من حولي بدا مدركًا له.
ربما صادف أمرًا سارًّا قبل قدومه إلى هنا. لعلّه فاز في اليانصيب مثلًا؟
“… لقد مضى وقت طويل منذ زرتُ هذا المكان.”
قالها وهو يتأمل أرجاء القصر بعينين يغشاهما الحنين.
ولو أنّ صبيًا في الثالثة عشرة قال مثل هذا الكلام بعينين مبللتين بالذكريات، لكان مدعاةً للضحك.
لكن بفضل وسامته الساحرة، بدت ملائمة له.
في الخط الزمني السابق، لم يكن الأمر متكرّرًا، لكننا اجتمعنا أحيانًا في قصر آل البارون.
فقد كنتُ الصديقة الوحيدة لإيفلين، لذا اعتادت المجيء إلى بيتنا.
وبالطبع كان الأبطال الذكور يرافقونها.
ويبدو أنّ ليوبولد الآن يتذكّر تلك الأيام.
“صحيح.”
بلا شك، منظر القصر أيقظ في قلبه ذكرى إيفلين.
فكيف لا يشغل قلبه بامرأةٍ تركها خلفه في حياةٍ سابقة؟
“ستلتقيان مجددًا على أيّ حال، فلا تحزن.”
“…….”
أمام كثرة الآذان المحيطة، تعمّدت أن لا أذكر اسم إيفلين صراحة.
لكن ليوبولد نظر إليّ بعينيه الذهبيتين نظرةً غريبة، كأنّ بين السطور ما فهمه هو وحده.
كان على وشك أن يقول شيئًا آخر، حين قاطعنا صوتٌ ممتعض من خلفي:
“هل أنا مجرد زينة هنا؟ أنا أيضًا ضيف، ألا يستحق الأمر ترحيبًا؟”
التفتُ غريزيًا، فإذا بأساد يحدّق في ليوبولد بعينيه الزرقاوين، مشتعلة فيهما نار المنافسة.
“…….”
أوه… نسيت أمره تمامًا.
بل محوته من بالي لحظة دخول ليوبولد.
لكن نعم، هناك ضيفٌ آخر سبق حضوره.
كان أساد قد خرج من الغرفة باندفاع، ولأنّه لا يعرف طرق القصر جيّدًا، تبعني بخطوات متردّدة خلفي بخمس خطوات تقريبًا.
“معذرة، نسيتك.”
“هاه.”
قلت ذلك بصدق، إذ إنني حقًا لم أنتبه لوجوده ورائي.
زفر أساد بغير تصديق وهو يحدّق بي، وعيناه تقولان بوضوح: “لا يعقل أنّكِ نسيتي حقًا.”
“… وما الذي تفعله أنت هنا أصلًا؟”
قالها ليوبولد بنبرةٍ تنمّ عن اكتشافه المتأخر لوجود أساد.
حتى هو لم يكن قد لاحظ حضوره من قبل.
… حسنًا، ليوبولد لم يكن يومًا مهتمًا بالآخرين، لكن أساد الحالي لا يعرف تلك الحقيقة.
“تصرّفكما يثير الغيظ فعلًا…”
زمجر أساد بنبرة غاضبة، فيما بادلته عينا ليوبولد الذهبية ببرودٍ قاطع كالصقيع.
أما أنا، فاكتفيت بمراقبتهما بعينين متعجبتين.
… ما أغرب الأمر، كأنّ الأدوار بينهما عُكست تمامًا عن حياتي السابقة.
أذكر جيّدًا أنّه في مثل هذا التوقيت، كان ليوبولد قد هُزم في مسابقة السيوف بالقصر الإمبراطوري، ومنذ ذلك الحين اجتهد بجهدٍ بالغ ليلحق بأساد.
آنذاك كان يخفي قلقه ومنافسته تحت ستار بروده المعتاد، لكن علامات التوتر بدت رغمًا عنه، بحكم سنه الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة.
لكن في داخله، كان ليوبولد الآن ذا عقلية شاب في الثامنة عشرة، لا ذاك الفتى المتعثر بعد هزيمة مُذلّة.
صحيح أن الخاسر في بطولة المبارزة كان لا يزال هو، لكن هذه المرة كان في ملامحه شيء من سكينة الأقوياء.
أما آساد هذا…
فهو الوحيد الذي يمكنه، أمام كل هذه العيون، أن يتجرأ علنًا على تحدّي ولي عهد هذه البلاد.
كنت على وشك أن أتحرك لاعتراض طريق آساد ومحاولة تهدئة الوضع، لكن—
“…تينا.”
“نعم؟”
في تلك اللحظة، التفتت عينا ليوبولد الذهبية إليّ فجأة.
التفتُّ نحوه بلا تفكير، لأجد نظراته الغريبة تُربكني.
كانت نظرة مشوبة بالضيق… بل وفي أعماقها شيء من العتاب، كأنه يلومني.
…لماذا ينظر إليّ هكذا؟
آه.
لابد أنه يظن أنني أحضرت آساد إلى مكان لقائنا من دون أن أخبره.
وبالطبع، كان وجود آساد يثير ضيقه.
فهو أيضًا واحد من الرجال الثلاثة الذين تنافسوا على قلب إيفلين في الخط الزمني السابق .
أن يكونا على وفاق كان أمرًا غير وارد.
“لا ترتكبي الخطأ نفسه مرتين.”
لكن… لماذا الآن بالتحديد يخطر ببالي ذلك التحذير الذي قاله ليوبولد في ذلك الخط الزمني؟
“…….”
لا، لا يُعقل. بدا وكأنه غاضب لمجرّد وجود آساد هنا، لا أكثر.
شعرت فجأة أنني ارتكبت خطأً في حقه من دون أن أدري.
لكن لماذا؟ لم يكن بيني وبينه عهد أو ميثاق يستوجب ولاءً.
“آنستي، أليس من الأفضل أن تدخلي إلى الداخل مع أصدقائك؟ الجو بارد في الخارج.”
“آه… نعم. فلندخل إذن.”
بينما كنت شاردة، همس الخادم باقتراح مهذب.
لم يكن يليق إبقاء ولي العهد واقفًا طويلًا هكذا أمام البوابة.
أما آساد، فيمكن تركه ثلاثة أيام واقفًا ولن يتأثر شيئًا.
“من هذا الطريق، تفضلوا.”
“نعم.”
قادنا الخادم إلى الداخل، فاتّبعته. وليوبولد وآساد مضيا بدورهما على مضض.
لكنني، طوال الطريق، لم أستطع طرد ذلك الشعور الكريه من صدري.
“…….”
أحسست بحرارة غريبة تلسع مؤخرة رأسي.
توقفت والتفت فجأة، لأجد أعين الرجلين كلها مسلّطة عليّ.
“تينا؟”
“ما الأمر؟”
ثبتُّ نظري عليهما لحظة، ثم اقتربت صامتة وأمسكت بذراع ليوبولد.
اتسعت عيناه الذهبية بدهشة خفيفة، كأنه لم يتوقع ذلك.
أما أنا فاستدرت بحدة نحو آساد.
“…هل تمانع أن تسبقنا قليلًا؟”
“…….”
أطلق ليوبولد نظرة متفحصة غامضة نحوي، كأنه يحاول قراءة ما يجول في داخلي.
كان شعوري بحرارة نظرته يحرق وجنتَي.
“ماذا؟”
قال آساد باستياء صريح، والاعتراض يشتعل في عينيه الزرقاوين.
لكنني لم أمهله وقتًا، إذ شددت على يد ليوبولد وانطلقت به جريًا.
خلافًا لتوقعي، لم يقاوم، بل ترك نفسه ينقاد بخطواتي.
“هيه! مجددًا تتركانني وحدي!”
صوت آساد ارتفع من خلفنا، ممتلئًا غيظًا كالنار.
كان واضحًا أن إبعاده هكذا أشعل غضبه.
“سألحق بك حالًا! آسفة!”
“…….”
التفتُّ وأنا أركض لأهتف له بذلك.
لمحته يتوقف لحظة، وقد كان على وشك أن يلحق بنا، لكنه جمد في مكانه.
عندها، استدرت إلى الأمام من جديد، وغادرت المكان بخطى حاسمة من غير أن أعود إلى الخلف.
* * *
لم تكن لي وجهة محددة، لكنني اخترت الطرقات الأقل ازدحامًا حتى وصلت في النهاية إلى ضفاف البحيرة حيث أمارس الجري كل صباح.
مكان لا يكاد أحد يقصده.
“هاه…”
أطلقت نفسًا طويلًا أثقلني.
شعرت بحرارة تتصاعد من جسدي بعد الجري.
نظرت خلفي، فوجدت أنني ابتعدت مسافة كبيرة في لحظة واحدة.
لا أثر لآساد، ولا حتى لحرّاس ليوبولد.
لحسن الحظ أنني لم أتوقف عن الركض في صباحاتي.
“…….”
التفتُّ، فإذا بليوبولد يقف هناك، على غير عادته، ملامحه شاردة قليلًا.
كان واضحًا أنه لم يفهم سبب ما حدث للتو.
بينما كنت ألهث من الجري، واقفة بعرقٍ خفيف، كان هو ثابتًا لا يتنفس بصعوبة، ولا حتى قطرة عرق تلمع على جبينه. وجهه لا يزال جامدًا.
“…….”
لكن الغريب أنّ وجهه بدا محمّرًا قليلًا.
هل أرهقه الركض؟ لا، هو ليس من النوع الذي ينهك هكذا.
نظرت إليه باستفهام، وعندها، صرف بصره عني وقال بصوت منخفض بالكاد يُسمع:
“…يدك.”
رغم همسه، وصل صوته واضحًا إلى أذني.
♤♧♤♧♤♧♤
التعليقات لهذا الفصل " 27"