كانت المثلجات التي صنعها كبير طهاة القصر الإمبراطوري بطعم أسطوري، حتى إن الضغائن تجاه الإمبراطورة أو تجاه أساد كانت تذوب في لحظة كما يذوب الثلج.
“ها—”
لمجرد التفكير في وقت التحلية الذي سيحل بعد ثلاثة أيام، شعرت بأن لعابي يكاد يسيل رغماً عني.
فالمثلجات كانت من أحبّ الأشياء إلى قلبي قبل عودتي بالزمن.
وإيفلين كذلك كانت تحبها.
ولذلك، كان ليوبولد كلما زار قصرنا بين الحين والآخر، يجلب معه المثلجات دوماً.
لا شك أنه كان يجلبها من أجل إيفلين، لكنني على أي حال كنت أعتبر مجرد تذوقه غنيمة.
وكان ليوبولد حين يحضر المثلجات لإيفلين يضيف معه حصتي أيضاً، وكنتُ في كل مرة أستقبله حافية القدمين على عتبة القصر.
بطبيعة الحال، لم يكن الترحيب موجهاً إليه بل إلى المثلجات نفسها.
ولم يكن يمانع إذا أكلت ما جلبه من أجل إيفلين.
*بعد كل ذا بتقولي أنه جابه عشان ايفلين؟ و الله للغباء حدود*
فبالرغم مما يحمله من غطرسة وضيق صدر، لم يكن يتصرف ببخل في ما يتعلق بالطعام.
لكنني منذ أن عدت إلى الماضي لم أتذوق المثلجات قط.
وحين فكرت في ذلك، راودتني فكرة أن قدوم ليوبولد إلى قصرنا ليس بالأمر السيّئ بالكامل.
… لا، أستدرك قولي.
ثم إن إيفلين ليست موجودة الآن في قصر البارون، وربما يتجاهل طلبي ويأتي خالي الوفاض.
لذلك أضفت في ذيل رسالتي ملاحظة بأنني سأعيده كما جاء إن لم يحمل معه المثلجات.
وبهذا لن يجرؤ ليوبولد على نسيانه.
بعد أن فرغت من كتابة الرسالة القصيرة، هممت بالوقوف.
“يا مربية! خذي هذا الجواب إلى القصر—”
كنت قد نهضت من مقعدي أنوي مناداة المربية، حينما تبادر إلى ذهني خاطر جعلني أتوقف في مكاني.
“… آه، صحيح.”
تمتمت بذلك وأنا عالقة بين الطاولة والكرسي في وضعية غريبة.
لقد أوصتني الإمبراطورة حينها، أو بالأحرى أصدرت ما يشبه الأمر المقنّع بطلب، بأن لا ألتقي ليوبولد إلا بحضور أساد معه.
فبفضل المراقبين الذين ألصقتهم به الإمبراطورة، كانت كل حركة يقوم بها ولي العهد ليوبولد تصل إليها بالتفصيل.
ولو علمت أنني دعوت ليوبولد ولم أوجّه الدعوة لأساد، لتعقّدت علاقتي بها أكثر.
ولذلك، رغم أن نفسي لا تميل إليه، لم أجد بدّاً من أن أوجّه الدعوة لأساد أيضاً بعد ثلاثة أيام في قصر البارون.
“إيهه…”
تنهدت بعمق وجلست مجدداً.
ثم تناولت قلمي وبدأت أكتب رسالة جديدة أرسلها إلى دوقية وينترشيستر.
***
بعد ثلاثة أيام، في قصر فالنتاين الباروني.
كنت قد تعمدت أن أكتب كلمة ثلاثة في الرسالة الموجهة إلى أساد بخط متعرج يكاد لا يُقرأ، علّه يخطئ في الموعد.
… أعلم أن محاولتي هذه لا طائل منها، لكنها أشبه بتشبث عقيم بالأمل.
طرقات خفيفة.
في تلك اللحظة، طرق أحدهم باب غرفتي.
“آنستي، هل ناديتِني؟”
التفتّ فإذا المربية قد دخلت إلى الغرفة.
“نعم، انتظري لحظة.”
“حسناً.”
عجّلت بإدخال الرسالة الأخرى في المغلف، ثم ختمته بخاتم البارونية.
وبينما كنت أفعل ذلك، وضعت المربية على مكتبي فنجان شاي أسود تفوح منه سخونة طازجة.
“آه، شكراً لك.”
“لا شكر على واجب. وهذه الرسالة أيضاً سترسلينها إلى القصر الإمبراطوري؟”
قالت ذلك متعجبة وهي تنظر إلى المغلفين على مكتبي.
فهي التي اعتادت أن تنقل رسائلي إلى القصر، لكن يبدو أن وجود رسالة إضافية هذا اليوم أثار دهشتها.
هززت رأسي نافية وأجبتها:
“لا. هذه سأرسلها إلى الابن الثالث لدوقية وينترشيستر.”
“دوقية وينترشيستر؟”
سرت في صوتها نبرة اندهاش، وكأنها تتساءل متى اربطتُ أنا بتلك العائلة الغامضة.
فدوقية وينترشيستر كانت من أكثر بيوت الإمبراطورية غموضاً، تكلّف بمهام سرية وتدير خيوطاً خفية خلف الكواليس لحساب العرش.
ولم يخطر ببال المربية قط أنني قد أكون على صلة وثيقة بهم إلى درجة تبادل الرسائل مع أحد أبناء تلك الدار.
“نعم. سأرسلها إلى ابنهم الثالث.”
أجبتها وأنا أكتب اسم المرسَل إليه على المغلف.
وقفت المربية لحظة تفكر، ثم قالت وكأنها تذكرت شيئاً:
“إن كان الابن الثالث لدوقية وينترشيستر، فلا بد أنه ذاك الذي فاز مؤخراً ببطولة المبارزة في القصر الإمبراطوري. ذو الشعر الأحمر والعيون الزرقاء… أكان اسمه أساد، أليس كذلك؟”
“صحيح.”
لقد ذاع صيت أساد حينها بعدما تغلّب على ليوبولد في البطولة، وأصبح حديث الناس في أنحاء الإمبراطورية.
ثم سرعان ما تبنّته دوقية وينترشيستر، فصار مثار إعجاب العامة ومحل أنظارهم.
بدا واضحاً من ملامح المربية، وهي من عامة الشعب، أنها كانت تشاطِرهم ذلك الإعجاب.
بل إن هذا التبنّي لابن من عامة الناس قد أضفى مسحة من الانفتاح والإنسانية على سمعة الدوقية، بعد أن كانت توصف دوماً بالثقل والسرية.
وبذلك ارتفعت مكانتها في قلوب الناس.
ولا يخفى أن وراء كل ذلك كانت يد الإمبراطورة تمتد بقوة، إذ يصعب التكهن بما خُطط له وبما كان وليد الصدفة.
بالفعل، كانت الإمبراطورة شخصية مرعبة، ولا أرغب البتة في أن أتورط معها في أي أمر سياسي.
“هُو… انتهيت. هذه الرسالة موجَّهة إلى الدوقية.”
“… آه، نعم، فهمت.”
أحكمت إغلاق الرسالتين بعناية، ثم مددت بهما إلى المربية.
بدت وكأنها كانت شاردة الذهن قليلاً، إذ لم تتناول الرسالة إلا متأخرة بعض الشيء.
فاستغربت ردة فعلها وسألتها وأنا أميل برأسي:
“ما بكِ؟”
“لا… لا شيء…”
قالت وهي تبتسم ابتسامة متكلفة وتُسقط كلامها دون إتمام.
ما الأمر؟
في أثناء اختيارها كلماتها، ارتشفتُ جرعة من الشاي الأسود.
كان طعمه يتماوج على لساني بحلاوة خفيفة، تعقبها مرارة رقيقة قد لا تلائم الأطفال، غير أنني اعتدت عليه منذ زمن طويل، فكان لذوقي في غاية الملاءمة.
وبينما أنا كذلك، ترددت المربية قليلاً، ثم فتحت فمها أخيراً لتقول بنبرة حماس طفيفة:
“كنتُ أفكر أنه لا شك سيغدو أكثر وسامة حين يكبر، وسيكون خيرَ رفيق لآنسة مثلك. من يدري؟ لعل هذه المراسلات بينكما تؤول في النهاية إلى زواج!”
“كُخ!”
مع عبارتها الأخيرة، لم أتمالك نفسي حتى قذفت رشفة الشاي التي في فمي دفعة واحدة، مسرِّبة إياها كما في مشهد من دراما صباحية.
“يا إلهي! آنستي!”
فزعت المربية، وأسرعت لتضع منديلاً على فمي تمسحه.
كان طعم الشاي المر قد تسلل إلى مجرى التنفس، فأخذت أسعل وأشهق بقسوة، ثم قبضت على كتف المربية المرتبكة وسألتها بجدية:
“مربيتي… هل تمتلكين قوى بصيرة أو تنبؤية؟”
“نبوءة؟!”
لماذا تكون مربيتي هنا إذن؟! شخص يملك هذه الحاسة الثاقبة كان جديراً بأن يُستدعى إلى المعبد حالاً!
كيف لها أن تتنبأ بزواج محتمل بيني وبين أساد، وأنا وهو لا صلة بيننا الآن؟ بدا لي الأمر وكأن قوة قديمة ألهمتها، أو كأنها قد مُسّت بوحي غامض.
أخذتُ منها المنديل ومسحت به فمي بخشونة وأنا أتمتم:
“ولأُذكركِ… أنا لا أنوي الزواج أبداً! قلتها لكِ من قبل!”
“نعم نعم—”
منذ أن عدت بالزمن، اتخذت من عبارة: “لن أتزوج أبداً” لازمة لا تفارق لساني.
وكانت المربية كل مرة تضحك بخفة، تمسح رأسي بيدها، وكأنها تقول: “حسناً، جميع الفتيات في مثل سنك يقلن ذلك.”
“إنني جادة! أنا مؤمنة بعدم الزواج، أفهمتِ؟!”
“نعم نعم، آنستي تعرف كلمات معقدة، وهي ذكية أيضاً.”
آه… لم يكن هناك سبيل لإقناعها. ربما تعلقت ذهنياً بذلك المصطلح الذي التقطته من هنا أو هناك، وأخذت تردده بلا فهم عميق.
وحقاً، لو كنتُ أنا في مكانها، لوجدته مضحكاً أن تقول فتاة في الثالثة عشرة أنها “مؤمنة بعدم الزواج”. لكنه بالنسبة لي كان إعلاناً صادقاً.
*أيوا كمل كلنا صدقناك*
“… تِس.”
اكتفيت بأن أطلق صوت امتعاض، ولسان حالي يقول: سيأتي اليوم الذي يرون فيه صدقي.
وبينما ترددت هذه الأفكار في عقلي، ألقيت ما تبقى من الشاي في جوفي دفعة واحدة.
***
ومضى الوقت سريعاً، حتى جاء اليوم الموعود بعد ثلاثة أيام.
يوم زيارة كل من ليوبولد وأساد إلى قصر البارون.
لم يحدث في تاريخ بيت البارون أن وطئت أقدام ضيفين بهذه المكانة عتبته في آن واحد.
صحيح أن المستقبل سيجعل القصر مفتوح الأبواب لهؤلاء النبلاء على الدوام، غير أن هذه هي المرة الأولى في هذا المسار الزمني.
وبما أن الضيفين كانا اثنين، فقد وجب الاستعداد لهما بكل ما يلزم.
فنُظّف القصر من أساسه إلى سقفه، ورُتِّبَت الحدائق التي أهملت حتى كادت نباتاتها تموت.
أما أنا، فكنت أتهيأ بدوري لاستقبال الضيوف بالتزيّن والتجمل.
“… لعل عليّ أن أُقرّ للإمبراطورة بالفضل في ذلك.”
هكذا خطرت لي الفكرة وأنا أتأمل صورتي في المرآة.
ما كنت لأتوقع أن تقودني الإمبراطورة، التي لم يكن بيني وبينها أدنى صلة في حياتي السابقة، إلى تغييرات كهذه.
لقد استعادت ملامحي من حياتي الماضية بما يقارب الستين في المئة.
رأيت في المرآة فتاة ترتدي ثوباً بدا فضفاضاً للغاية، بينما كانت الخادمات خلفي يجتهدن في ضبطه وإصلاحه.
كان هذا الثوب نفسه قبل أشهر معدودة من ألبسة حياتي اليومية، أما الآن فقد صار كأنه لباس مستعار لا يلائمني.
فذراعاي وساقاي نحُلت، وخط الفك ازداد حدة، والأهم أن عينَيّ بدتا أكبر بمرات مما كانتا عليه.
لم أصل بعد إلى الكمال، غير أن عينَيّ الخضراوين كانتا تلمعان بصفاء غير واقعي، أشبه بعيون البطلة.
♤♧♤♧♤♧♤
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 24"