كنت ألتفت خفية خلف ظهر والدتي المنشغلة بكامل ذهنها ببطاقة الدعوة، وفتحت الرسالة لأقرأها.
إلى الآنسة تينا فالنتاين، أصغر بنات عائلة فالنتاين البارونية.
الطقس يزداد برودة شيئًا فشيئًا، فهل صحتك بخير؟ أعتقد أن الآنسة تينا مشغولة، مثلي، بالتحضيرات لمهرجان تأسيس الإمبراطورية، لذا أبعث إليك بدعوة إلى الصالون، لعلها تكون عونًا لك.
بما أن السيد أساد قد تلقى معروفًا من الآنسة تينا، فاعتبري هذه الدعوة مجرد رد للجميل ولا تلقي لها بالا.
إذن، سأراكِ في يوم المهرجان.
***
ملاحظة: يبدو أن السيد أساد ما زال يجهل آداب النبلاء، لذا أرجو منكِ أن توجهيه كصديقة، خاصة في يوم المهرجان. وسأرسل لك عربة لتُقِيلَك، فتعالي براحة بال.
شعرت أن ما أرادت الإمبراطورة قوله حقًا هو ما كُتب في الملاحظة.
تذكرت أنني حين استُدعيت آخر مرة، قالت بثقة وهي توكل أمر أساد إليّ: “سأرد لكِ الجميل حتمًا!” ويبدو أن هذا هو ردها الموعود.
لكن، أن أكون أنا من يوجّه أساد؟ حتى الإمبراطورة نفسها ترسل لي رسالة كهذه… لا بد أنها هي الأخرى تعبت من تربيته.
فأساد، قبل أن يتم تبنيه، كان يُلقّب بالمشاغب، شخصًا يصعب ضبطه.
وبعد أن تم تبنيه لم يستمع إلا لمن اعترف بهم، أي إيفلين وحدها. أما عن كونه نبيلاً؟
فهو أبعد ما يكون عن ذلك.
حتى في المبارزة، كان يختلف عن ليوبولد الذي يمثل السيف المنضبط.
أساد كان أقرب إلى الوحشية، عصيًا على الترويض. لولا أنه وقع في حب إيفلين، لظل طليقًا طيلة حياته.
ومع ذلك… أن تسلمني الإمبراطورة كامل السلطة عليه؟ ماذا عساها تفكر؟ لا شك أن أساد قد قال شيئًا عني بعد رحيلي.
قالت أمي بابتسامة غامرة:
“ما أكرم جلالة الإمبراطورة وهي تغمرنا بهذه النعمة.”
أما هي فلم يكن يهمها علاقتي بالإمبراطورة بقدر ما كانت فرحتها بدعوة الصالون.
كنت أخشى أن تفتش في التفاصيل، لكن لحسن الحظ أن بساطتها أنقذتني.
“كان والدك يرغب بالذهاب أيضًا، لكن للأسف لديه عمل اليوم، لذا علينا أن نذهب بمفردنا.”
أبي وأمي كلاهما من النبلاء الذين يعشقون الترف.
أمي بدت وكأنها تتحسر لغياب أبي، لكن ملامحها لم تعكس أي أسف حقيقي، بل كان شغفها بالصالون أكبر بكثير.
رغم أن الدعوة موجهة إليّ، إلا أن فرحتها فاقت فرحتي. من الكبير فينا إذن؟
أما أنا، فلم أنوِ قبول كرم الإمبراطورة بهذه البساطة. فقد يتضاعف الثمن لاحقًا. كنت عازمة على الرفض.
“أمي.”
“نعم؟ ماذا هناك؟”
التفتت إليّ بوجه يفيض ترقبًا كطفلة في الثالثة عشرة. ثم قالت متوجسة:
“لا تقولي أنكِ سترفضين؟ تينا؟”
بدا أنها على وشك إلقاء اللوم عليّ في أي لحظة. ترددتُ في الكلام، وبينما أحرك شفتي بلا صوت، دوى خلفنا صوتان ممتلئان بالغيرة:
“أنا أيضًا أريد الذهاب!”
“هذا ليس عدلاً!”
كان أخي الذي يكبرني بعام واحد وأختي الكبرى يتلصصان من عند الزاوية.
الحسد بادٍ في عيونهما لكوني الوحيدة المدعوة إلى صالون الإمبراطورة.
هما أيضًا كانا شغوفين بالأحجار الكريمة. في هذا البيت، أنا الوحيدة التي لم يكن لها اهتمام بالمجوهرات. يا للمفارقة أن تصلني أنا الدعوة!
“هاه…”
هكذا بدا لي أن رفض الدعوة سيكون أصعب مما توقعت.
***
صالون دو فرانسيا.
ذلك المكان الذي حمل اسم الإمبراطورة، برعاية عائلة وينترشستر الدوقية، وكان أعظم صالون في الإمبراطورية.
يقع في مكان هادئ بالعاصمة، بديع الجمال، أشبه بنسخة مصغرة من القصر الإمبراطوري نفسه.
وعندما توقفت العربة أمام بوابته، خرج رجل لاستقبالنا من بعيد.
“أهلًا بكم، ضيوف جلالة الإمبراطورة. لقد كنا بانتظاركم.”
بادرت أمي بالإجابة بابتسامة مشرقة:
“نعم بالطبع!”
وسرتُ خلفها إلى الداخل. لم يكن الصالون مغلقًا كما ظننت، بل كان يزخر بوجوه بارزة من المجتمع، ربما بسبب قرب يوم المهرجان.
وبعد قليل، اقترب منا رجل في أواخر الثلاثينات، له ملامح رصينة وشعر أسود أنيق، وخلفه صف من الموظفين.
“الآنسة تينا فالنتاين؟”
رفعت بصري نحوه، فقال وهو ينحني قليلًا:
“أنا مارسيل، المدير العام لصالون دو فرانسيا. لقد أخبرتني جلالة الإمبراطورة عنك. سعيد بلقائك، آنسة تينا.”
لكن أمي لم تترك الفرصة تمر دون أن تبادر:
“أوه، تينا ليست أنا، بل ابنتي.”
لمعت لحظة من الارتباك في عينيه، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه المهني وأكمل حديثه.
“أعتذر. يبدو أن هذه أول مرة نستقبل فيها ضيفة صغيرة السن من ضيوف جلالة الإمبراطورة. لكن، هل لي أن أسأل عن علاقتكِ بها؟”
“لقد التقيتُ جلالتها بضع مرات في القصر الإمبراطوري، لا أكثر.”
أدركت حينها أن منصب المدير العام لصالون الإمبراطورة لم يُعطَ لمجرد لقب فارغ.
فقد كان مارسيل يفكر سريعًا بكيفية التعامل معي، وبما قد يعود عليه بالنفع بحسب درجة علاقتي بالإمبراطورة.
“هكذا إذن، عذرًا على تطفلي. حسنًا… آنسة تينا، وسيدة فالنتاين، تفضلا باختيار مصمم من بين طاقمنا.”
مصمّم؟ آه، إذن الموظفون الذين يقفون وراءه جميعهم مصمّمون.
التفتُّ من حولي، فرأيت أن لكل ضيف مصممًا يرافقه.
بدا أن الصالون يعمل بأسلوب التوجيه الفردي، كل ضيف مع مصمم خاص.
“وبالطبع، يمكن أن تختاروني أنا شخصيًا. بل سيكون شرفًا عظيمًا لي إن فعلتم. فقد كنت أتولى أمر جميع ضيوف جلالة الإمبراطورة بنفسي.”
“ها، هاها…”
امتلأت رؤيتي بوجهه المبالغ في التودد، حتى لم أعد أعرف إن كان يطلب مني اختياره أم ينهاني.
على الأغلب كان يحاول التقرب مني بصفتي ضيفة الإمبراطورة.
لكن، لم تكن علاقتي بالإمبراطورة بذلك القرب.
استدرت بوجهي متحرجة، وفجأة توقفت عيناي عند شخص بدا مألوفًا لي.
هناك، في زاوية الصالون، كان شاب في مطلع العشرينات ينظف زجاج النوافذ.
تبادلنا النظرات، فقلت بصوت خافت:
“أريده هو.”
كنت قد التقيت به مرة واحدة منذ زمن، لكنه بقي عالقًا في ذاكرتي.
ارتبك مارسيل قائلًا:
“ذاك الشاب مجرد عامل نظافة! لا يعرف شيئًا أبدًا، مبتدئ. اختاري غيره، أفضل…”
“لا بأس. أريده هو.”
قاطعته بابتسامة صغيرة، متجاهلة اضطرابه.
“لكن…”
“أنت يا سيد مارسيل بارع في عملك، فلتتولَّ أنت أمر والدتي بدلًا مني.”
“… حسنًا، مفهوم.”
ابتسمتُ برضا، فيما بدت الكراهة واضحة على ملامحه، لكنه لم يستطع الاعتراض أكثر.
بعد أن غابت أمي برفقته، جاء الشاب الذي انتظرته نحوي وقال مترددًا:
“سمعت أنني… من تم اختياره من طرفك، آنستي .”
“نعم.”
كان حدسي في محله.
لم أنسَ أبدًا شعره البنفسجي الفاتح وعينيه البنفسجيتين الداكنتين.
أمامي الآن يقف إيان، الذي سيصبح لاحقًا أعظم مصمّم في الإمبراطورية.
صحيح أنه مجرد عامل نظافة الآن، لكنه سيكشف قريبًا عن موهبة استثنائية، وخلال خمس سنوات فقط سيصعب حتى الحصول على موعد معه.
يا لها من مصادفة عظيمة أن ألتقيه هنا.
اقترب مترددًا وهو يتمتم:
“لنبدأ… بتسريحة الشعر أولًا.”
لكنني لاحظت حيرته، فقلت:
“ما الأمر؟”
فأجاب بخجل:
“إنها المرة الأولى لي مع فتاة صغيرة.”
… هل أخطأت باختياره؟
بعد وقت قصير…
“ذوقكِ رائع حقًا يا آنسة تينا.”
هكذا قال مارسيل مدير الصالون بحركات مبالغ فيها، وكأنه منبهر.
لكنني لم أفعل شيئًا لأستحق هذا المديح.
فالفضل كله يعود لإيان.
بيد أنهم لم يتصوروا أن عامل نظافة قد يمتلك مثل هذه الموهبة.
لقد كان مذهلًا بحق.
كل موضع لمسته يداه تحول إلى لوحة مزهرة.
شعري الطويل المرسل صار مرتبًا، مضفورًا ومرفوعًا إلى أعلى بعناية، وزُيّن بعُقدة تتخللها زهرة بيضاء طبيعية.
الفستان الأبيض الذي يصل طوله إلى الركبتين أضفى رُقيّ النبلاء مع الحفاظ على حيوية عمري.
الإكسسوارات واللمسات الصغيرة كلها بدت مثالية.
انبهر موظفو الصالون حتى احتشدوا حولي، يرمقونني كما لو كنتُ حلمًا متجسدًا.
“إنها جميلة للغاية.”
“كنا نود لو نضم المصمم الذي أنجز هذا إلى صالوننا.”
لكن للأسف، صاحب الموهبة كان قد خرج إلى الحديقة ليكمل تنظيفها.
أجل، لم يزهر بعد، لكنه في المستقبل سيكون كنز الإمبراطورية.
يا للأسف… كنت أتمنى أن أضمه إلى بيتنا فورًا.
لم يسبق لي أن ارتديت شيئًا بهذه الجودة رغم أنني نشأت بين النبلاء.
كنت أحب الفساتين والحُلي، لكني لم أكن مهووسة بها مثل باقي أفراد عائلتي.
لذلك غالبًا ما اكتفيت بمجوهرات مقلدة. ومع ذلك… حتى أنا أدركت الفرق الآن.
مجرد تغيير في الملابس والتصفيف، جعلني شخصًا آخر تمامًا. حقًا، المظهر يصنع المعجزات.
إيان رائع بحق. موهبة كهذه تضيع في التنظيف وحده!
فليكن… قررت أن أجرب حظي.
فالتفتُّ إلى المدير وقلت بجرأة:
“هل يمكنني أن أدعو الشخص الذي أشرف عليّ اليوم إلى قصرنا؟”
ارتبك قائلًا:
“الأمر… صعب قليلًا.”
بدا أنه منزعج من الاهتمام الذي يناله إيان.
“لا تقل لي أن جدول مواعيده محجوز بالكامل أيضًا؟”
“لا، ليس الأمر كذلك… لكن اصطحابه معك لن يكون ذا جدوى.”
“لا بأس. كل ما أريده هو أن أشكره فحسب.”
ابتسمت ببراءة تخفي نيتي الحقيقية، متظاهرة ببراءة طفلة صغيرة.
♤♧♤♧♤♧♤
التعليقات لهذا الفصل " 22"