ليوبولد بدا متفاجئًا، يتأمل ملامحي بعد نصف عام من الغياب.
لقد زُوّجت إلى أساد كما لو كنت سلعة تُباع بالمال، ولا شك أن صحتي لم تعد كما كانت في منزل عائلتي.
زوج لا يبالي، وخدم ينظرون إلي باحتقار… وسط هذا كله كنت أذبل وأذوب ببطء في هذا البيت الذي لم يكن لي فيه أحد.
لم أنظر في المرآة منذ زمن، لكني لم أحتج إليها لأعرف كيف صرت.
… لكن هل حقًا كان عليه أن يحدّق بي بكل ذلك الذهول؟ يا للعجب.
فتحت فمي لأغير مجرى الحديث بلا مبالاة:
“أرسلت لك دعوة الزفاف، لكنك لم تأتِ.”
“……تينا.”
“حتى لو كنت لا تطيق رؤيتي، فأنت وأسعد صديقان منذ الطفولة، أليس كذلك؟ ولو أن صداقتكم أشبه بالعداوة… أعلم أنك مشغول، لكن حضور زفاف صديقك أمر لا بد منه. لقد حضرتُ أنا أيضًا حفل زفافك بصعوبة. وإن كان السبب هذه المرة أيضًا إيفيلين، فلا بأس…”
“تينا!”
صرخته القاسية قطعت أفكاري، فارتجفت كما لو كنت قد انتُزعت من حلم إلى واقع بارد.
وعندها شعرت بقشعريرة تسري في جسدي… كأن الشتاء قد حل، ومع ذلك لم أستعدّ لمواجهة برده بعد.
وبينما كانت تلك الفكرة تمر في خاطري، أحسست بشيء دافئ يلامس يدي.
“لماذا… لماذا لم تأتِ إلى مهرجان التأسيس؟ هل حدث شيء ما؟”
“…….”
ليوبولد كان يمسك بيدي، و ينحني قليلًا ليراقب وجهي بقلق وهو يطرح سؤاله.
مهرجان التأسيس… ذلك كان أكبر احتفال في الإمبراطورية، تُفتح فيه أبواب العاصمة ويُقام لمدة ثلاثة أيام، ويشارك فيه حتى صغار النبلاء من الأقاليم. كان من أهم المناسبات التي لا يجوز لأي نبيل أن يتخلف عنها.
لكنني لم أذهب.
بل بالأحرى… لم أستطع الذهاب.
“أي مشاكل؟ لا شيء… أنا بخير. مذ تزوجت في بيت الدوق، لم أعد أفكر في أي شيء من الماضي. وأتساءل لماذا عشتُ بتلك الطريقة البائسة من قبل.”
في الواقع، السبب كان تلك الشائعات السيئة التي تلاحقني، فلم أستطع الظهور أمام الناس. لكنني تكلمت بتفاخرٍ زائف… لم أرغب في أن أبدو ضعيفة أمامه.
منذ نهاية القصة الأصلية، أعاني خمولًا شديدًا ونقصًا وفراغًا وكآبة، لكنني لم أرد أن يلاحظ ذلك.
“أكاذيب.”
“…….”
قالها وهو يقطب حاجبيه، ينظر إليّ بعينين صارمتين. بالطبع لم تنطلِ عليه.
ليوبولد كان دومًا بارعًا في كشف الأكاذيب، لا أعرف إن كان ذلك طبعًا فيه أم شيئًا تعلمه، لكن أمامه لم يكن للكذب مكان.
“…….”
آثرت الصمت، ثم رفعت نظري إليه بتبرم، كما لو كنت أراه عبئًا.
عيناه الذهبيتان الكبيرتان ارتجفتا قليلًا، و بدا وكأنه غارق في تفكير عميق.
“…….”
في تلك اللحظة، أغمض ليوبولد عينيه بإحكام فجأة. ثم عضّ على شفتَيه وكأنه اتخذ قرارًا مصيريًا، قبل أن يفتحهما من جديد.
حين التقت عيناي بمرّة أخرى بذلك البريق الذهبي، لم يكن فيه أي ارتجاف. بل كان يحدّق بي بثبات، وكأنه يقرأ أعماقي.
فتح ليوبولد شفتيه بصوتٍ يحمل رجفة خفيفة:
“……تينا، قولي لي فقط إنكِ تريدين مساعدتي. يمكننا أن نبدأ من جديد.”
“…….”
كان صوته عذبًا، رقيقًا، كما عهدته دائمًا. ذلك الصوت الذي بدا وكأن فيه سحرًا يلتف حول الأذن فيأسرها، وإن كان عيبه الدائم أنه قليل الكلام.
لكن، على الرغم من جمال صوته، كان محتوى كلماته عصيًّا على الفهم.
نبدأ من جديد؟
ذلك كلام يليق بأشخاصٍ كإيفيلين أو ليوبولد، أولئك الذين يلمعون أينما وُجدوا. أما أنا؟ لم يكن لي مكان بين مثل تلك الكلمات.
… البدء من جديد؟ أنت لا تعرف أن هذا العالم ليس سوى رواية، وأن نهايته قد كُتبت بالفعل.
لو أخبرته بذلك، أي وجه كان سيُبدي؟ لا، بل ربما أُتهم بالجنون وأُزَجُّ في مصحة عقلية قبل ذلك.
لذلك، كان عليَّ أن أتمالك نفسي وأُخفي ارتباكي قدر المستطاع.
“ما الذي تهذي به؟ أنت… أنت الرجل الذي تزوج من إيفيلين قبل فترة قصيرة فقط.”
“…….”
ما إن نطقتُ باسم إيفيلين، حتى ومض في عيني ليوبولد بريقٌ أشبه بالغضب، شديدٌ إلى حد يمكن وصفه بالعدوانية. لكنه اختفى سريعًا.
أيقنت حينها أنني توهّمت. فليوبولد الذي أعرفه دائم الهدوء، صارم التفكير، لا مكان للغضب في قاموسه.
“……ها.”
زفر ببطء، وكأنه يُخضِع مشاعره لسلطانه، ثم قال وهو ينظر إليّ مباشرة:
“تينا، نحن… لا، أنا وإيفيلين، لم يكن بيننا شيء قط. منذ البداية… لم يكن هناك أي حب. لا، بل على العكس… إن وُجد شيء بيننا، فكان الكراهية حتى الموت.”
“…….”
كان ليوبولد دومًا رجل أفعال، يحلّ مشكلاته بالسيف لا بالكلمات. لم يكن خطيبًا بارعًا. لكن حديثه اليوم كان أكثر تشتتًا من المعتاد، وكأنه لا يجد سبيلًا للتعبير.
كان يتكلم، لكن أذني لم تلتقط شيئًا واضحًا. ربما كان يقصد أن علاقته بإيفيلين متوترة؟ شجار بين زوجين، ربما.
عضّ شفتيه بغيظٍ مكبوت. بدا وكأنه ابتلع ما كان ينوي قوله.
وبعد لحظات، انسحب الدفء الذي كان يمسك بيدي.
استدار عني بوجهٍ يقطر حنقًا، وقبل أن يخرج من الغرفة ويغلق الباب خلفه، ألقى كلماته كمن يعلن تحديًا:
“……لا تظني أنني سأستسلم بهذه السهولة.”
“…….”
ما الذي كان يقصده؟
وغادر ليوبولد، تاركًا وراءه غموضًا أثقل صدري.
نعم… لقد كان ذلك.
كنت في تلك الفترة منهكة إلى درجة أن ذكرياتي عنها مشوشة. لكن على الأرجح، كان ذلك آخر يوم جاء فيه ليوبولد إليّ.
وعندما التقيته مجددًا… كان هو نفسه ذاك ليوبولد الصغير الذي رأيته قبل عودتي بالزمن.
“آسفة…”
تدفقت الذكريات إلى ذهني، فشعرت بالحرج يتصاعد إلى وجنتَيّ.
أطرقت رأسي، متجنبة عينيه الذهبيتين المترقبتين.
يا للمفارقة… بعد كل ذلك، ها نحن نجلس معًا بهدوء نحتسي الشاي. أمر ما كان ليحدث أبدًا، لولا أن ليوبولد أعادني إلى الثانية عشر من عمري.
“لا بأس.”
“…….”
“…فلم يعد هناك من يعيقنا الآن.”
كان في كلماته المنخفضة ثقلٌ ما، نبرة تشي بأن وراءها معنى أعمق.
إعاقة؟ أي عائق كان يقصد؟
هل يتحدث عن الوصيفات اللواتي حاولن منعه ذات مرة من لقائي؟ لكن تلك لم تكن تُعدّ عائقًا أمام شخص مثله.
“إعاقة؟ ماذا تقصد؟”
لم أستطع أن أتجاهل كلمته، فسألته بفضول.
“……كليها قبل أن تذوب.”
كان جوابه استعجالًا واضحًا للهروب من السؤال.
قبل أن تذوب؟
نظرتُ إلى ما أمامنا: شراب مثلّج بالفراولة.
لا شك أن ملامحه الهادئة لم تُخفِ اضطرابه تلك اللحظة.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 17"