ليس الأمر كما لو أنني سأموت لمجرد أننا لا نلتقي كل أسبوع. ثم إن ليوبولد، في الماضي على الأقل، كات قد تزوّج من صديقتي. لذا، بدا الأمر غريبًا بعض الشيء.
قال ليوبولد وكأن الأمر بديهي:
“لأننا أصدقاء.”
يا له من وقح، حدّ الوقاحة نفسها.
صديق.
وكأن هذه الكلمة كانت كلمة سحرية، يظن أنه بمجرد أن يتفوّه بها، تُمحى كل الأخطاء ويُغفر له كل شيء.
لكن بدا أن مفهوم الصداقة في عقل ليوبولد مشوَّه تمامًا…
“تبدو كشخص بلا أصدقاء.”
كنت أنوي الاكتفاء بالتفكير في ذلك داخلي، لكن لساني أفصح به من غير قصد.
“…….”
ظل ليوبولد يحدّق بي صامتًا، بلا إقرار ولا إنكار.
لكنني قرأت في وجهه ارتباكًا خفيًّا. لم يكن ذلك التغيّر الطفيف في ملامحه شيئًا يمكن أن يلحظه أي شخص عادي، لكنني أنا، استطعت أن أفهم.
في الحقيقة، ربما كان الخلل في مفهومه للصداقة سببه أنا وإيفيلين أيضًا.
فأنا، دائمًا ما كنت أحمي إيفيلين أمام ليوبولد.
وحول ليوبولد، بصفته أميرًا، لم يكن هنالك سوى الكبار وأصحاب النفوذ، فلم يعرف معنى علاقة الصداقة بين الأقران إلا من خلالي ومن خلال إيفيلين.
وحين أفكّر في الأمر هكذا، قد يبدو منطقيًا أن يتمسّك ليوبولد بفكرة “نحن أصدقاء” ويلازمني بهذا الشكل المزعج… لكن، لا، لا يمكن أن يكون منطقيًا. لماذا أنا بالذات؟
كان هذا هو السؤال الذي حيّرني مئات المرات بعد عودتي بالزمن. ومع ذلك، كنت عازمة أن أجعل اليوم هو نقطة النهاية.
وضعت فنجان الشاي أمامي بحزم، ورفعت بصري لأقابل عينيه مباشرة، ثم نطقت بالكلمات التي ظللت أرددها مرارًا في داخلي:
تلعثم قليلًا، بدا متوتّرًا، وصمت طويلًا قبل أن يسأل بوجه يشي بالجدية.
لم أرَ ملامحه بهذا القدر من التوتّر منذ زمن بعيد، وكأنني أمامه وهو يستعد لنهائي بطولة المبارزة في القصر الإمبراطوري.
كنت أظن أنه سيقول فورًا: “أفهم.” فهو من النوع الذي يكره الإطالة والجدل. لكن لا، سأل “لماذا؟”.
تنهدت وأخيرًا قررت أن أكون صريحة:
“سأقولها بوضوح يا ليو… الأمر هكذا، عائلتي قد تفلس في النهاية.”
“ماذا تقولين؟”
بدا وكأنه يسمع شيئًا لم يخطر له ببال أبدًا.
“قلت ما سمعتَ تمامًا.”
غرق ليوبولد في صمت، وكأنه يفكّر جديًا فيما قلت. ثم، فجأة، تجمّدت ملامحه حتى بدت باردة كالجليد وقال بصوت متماسك:
“إن كنتِ تكرهينني فقط، فلا حاجة إلى الأعذار.”
“ماذا؟ هذا بالطبع… لا، ليس كذلك.”
كنت على وشك أن أقول: “هذا صحيح طبعًا”، لكن نظراته القاسية جعلتني أبتلع كلماتي.
صحيح أن ليو تظاهر وكأنه يمنحني “مخرجًا كريمًا” بقوله: “لا داعي للتبريرات”، لكن عينيه كانتا تخبرانني بوضوح: إن قلتِ حقًا أنك تكرهينني، فلن أدعكِ بسلام.
… لم يكن هذا شبيهاً به. بدا وكأنه هو نفسه لا يصدّق ما يقوله.
بصراحة، لطالما كان ليوبولد شخصًا مقلقًا بالنسبة لي. لا أقول أنه الأكثر إزعاجًا في حياتي، لكنه بلا شك سيحتل مرتبة متقدمة في قائمة “أكثر الأشخاص المزعجين” — ربما في المركز الخامس. أما المركز الأول فهو بلا منازع لـ “آساد”.
لكن ما جعل علاقتي بليوبولد ثقيلة فعلًا، لم يكن مجرد شخصه، بل شيئًا آخر.
“لا… ليس الأمر كما تظن.”
شعرت للحظة وكأن قسوته قد لانت قليلًا. لكن فضوله ظل حاضرًا في نظراته، ينتظر إيضاحًا.
ترددت طويلًا، ثم تنفست بعمق وقلت:
“كم من التحضيرات يجب أن تُبذل في كل زيارة إلى القصر… لا، لا بأس. المهم أن عائلتنا فقيرة يا ليو، فقيرة حقًا.”
كان النطق بهذا أمامه أمرًا بالغ الصعوبة.
فمنذ زمن بعيد، نحن أعداء أكثر من كوننا أصدقاء، وها أنا أعترف أمامه مباشرة أن عائلتي تعاني من ضائقة مالية. جرحٌ للكبرياء ما بعده جرح.
ولهذا تظاهرت دائمًا باللامبالاة، وأجبت دعواته وكأن الأمر لا يثقل كاهلي. لكن الحقيقة، أنني وصلت حدي.
أما بالنسبة له، كأمير، فمثل هذه النفقات لا تكاد تُذكر، لكنها بالنسبة لعائلتي، عائلة الكونت الفقيرة، عبء ثقيل ودائم.
حتى وأنا أقول ذلك، كنت مقتنعة أنه لن يفهم.
رفعت عيني لألقي نظرة خاطفة عليه، أراقب ردّة فعله.
“…….”
وكما توقعت، بدا وجهه وكأنه لا يستطيع أن يستوعب. لم تتغير ملامحه كثيرًا، لكنني عرفت. تمامًا كما كنت أعرف حين كنت ألقي عليه دعابة في حياتي السابقة، فيقابلها بذلك الوجه الذي يوحي بالجهل.
… يا له من شخص بغيض.
بدأت أشك أنه يتعمّد كل ذلك. هل كان يدعوني باستمرار فقط ليجعلني أبوح بما يثقلني؟
أم… هل من الممكن أنه يحاول تسريع الأمر، كي يضمن بيعي لعائلة الدوق قريبًا؟
لمعت هذه الفكرة في رأسي فجأة، ووجدت أنها ليست مستبعدة كما بدت أول وهلة.
فانفلت مني صوتي يحمل شيئًا من الضيق، وأنا أواجهه بالسؤال:
“إن انتهى بي الأمر مباعًا لعائلة الدوق قبل أواني، هل ستتحمل أنت المسؤولية؟”
“هاه؟”
توسّعت عيناه الذهبيتان ببراءة مذهولة. بدا عليه ذهول صادق، وكأن ما قلته لم يخطر على باله قط.
ارتجفت حدقتاه الواسعتان حتى اتسعتا لأقصى مداهما.
كان ذاك الصبي يحدّق بي بذهول، وكأن روحه قد فارقت جسده. ولأول مرة بدا لي ليوبولد بوجه طفل في الثالثة عشرة من عمره. طبعًا، لم يكن داخله كذلك.
من ردّة فعله المبالغ فيها تأكدت من شكوكي: كل ما يفعله ليوبولد ليس إلا حيلة ليعجّل بما يريده.
في حياتي السابقة، حين ارتبطتُ سياسيًا بآساد، استطاع ليوبولد أن يتخلّص من ذلك الذئب المتربّص بالبطلة إيفلين دون أن يحرّك ساكنًا.
أما إن بعتُ نفسي للزواج من أسرة الدوق وأنا لم أتجاوز الثالثة عشرة، فلن يضطر ليوبولد إلى مواجهة “آساد” ولا حتى لوجود سبب يدفعه لذلك.
هاه… إذن هذا ما كان يخطّط له منذ البداية؟
يا له من عديم حياء! فحتى لو لم يفعل شيئًا، فإن مستقبله محسوم بالزواج من إيفلين.
…لا عجب أنني أمقته. أيحق لبطل الرواية أن يتعامل معي كقطعة إضافية، يستخدمها ثم يلقي بها؟
أخفيت ارتجافة الغضب في داخلي، ونظرت إلى ليوبولد.
كان ذاك الذي لم يفقد رباطة جأشه يومًا، يحرّك عينيه الذهبيتين بتوتر، وشفتيه تتلمسان الكلمات وكأنهما تبحثان عمّا تقوله.
“…أنا…”
فتح فمه أخيرًا بعد أن ظلّ يحدّق بي بنظرات مضطربة، لكنني قطعت حديثه قائلة:
“على أي حال!”
“…”
رمقني بدهشة وقد علت ملامحه خيبة خفيفة، أما أنا فواجهته بجدّية:
“لا داعي لأن تضيّع وقتك في لقائي. تبدو مشغولًا، وأنا كذلك. فلننهي هذا الآن…”
“هذا غير ممكن.”
لم ينتظر حتى أنهي كلامي، بل قاطعني بجواب قاطع لا يقبل الجدل.
يا للوقاحة! لقد تجرّعتُ مرارة الإذلال وطلبتُ منه رجاءً، ومع ذلك يرفض بهذه الصلابة.
كنت أعلم تمامًا أن هذا الفتى، خلف مظهره الجميل، يخلو قلبه من الرحمة واللين. لقد لدغني مرارًا في حياتي السابقة بتلك الملامح الخادعة، وها أنا أكتشف الحقيقة من جديد.
“…”
“…”
حدّقتُ به بدهشة غاضبة، لكنه لم يتراجع قيد أنملة.
كنت أعلم أن عناده لا يُكسر، وأنه لم يستطع أحد أن يغلبه في شدّة إصراره يوما.
“…”
فما كان مني إلا أن تنفّست بعمق، وأخفيت استغرابي ثم تراجعت قليلًا.
إن كان مضطرًا لأن يستمر في لقائي لسبب ما، فليكن… لكن لا بد أن يتغيّر المكان.
همست وأنا أثبّت نظري في عينيه العنيدتين:
“إذن… إن كان كل هذا لمجرد جلسة شاي، فلا داعي أن يكون في القصر. هناك قصر أسرتي، أو…”
كنت أرغب فقط في إبعاده عن القصر الإمبراطوري. لا أريد مصادفة لقاء بآساد، ولا أن أجد نفسي في موقف يلتقي فيه هو وليوبولد.
فليوبولد كان يمقت آساد… أكثر مما يمقتني مئة مرّة. وكان ذلك طبيعيًا، فهما عدوان يتنازعان على قلب امرأة واحدة.
إن اجتمعا مصادفة، فلن ينجو أحد من العاصفة التي ستشتعل. وأنا لا أريد أن أكون موجودة حينها.
لكن فجأة، قاطعني:
“لحظة… قصر أسرتك؟”
“نعم.”
تظاهرت بعدم الاكتراث، فأومأت برأسي. غير أن قسماته تغيّرت فجأة، وتقطّب جبينه باضطراب، كأنني لفظت شيئًا غريبًا.
أثار ذلك حيرتي. لمَ يتجهم عند ذكر قصرنا تحديدًا؟
أيمكن أن ما قصده هو أن المكان حقير لا يليق بمثله؟ هذا محتمل، فهو يظل أميرًا في النهاية.
تراجعت قليلًا، وقلت:
“صحيح أنّه ليس مثل القصر الإمبراطوري، لكنه يظل بيتًا لأحد النبلاء، وليس مكانًا لا يليق بك. فما خطبك؟”
“…”
كنت أشرح ببرود، لكنه ازداد تجهّمًا، وكأن كلماتي لا تزيده إلا اضطرابًا.
سألته في ارتباك:
“ما الأمر؟ ما الغريب؟”
“إذن… ستفتحينه هذه المرّة؟”
“ماذا؟”
أجبت بدهشة، فرأيت في عينيه الذهبيتين بريق خيبة.
“على ما يبدو… فأنت لا تتذكرين شيئًا.”
رفع فنجان الشاي إلى شفتيه بوجه شاحب، وعيناه تلمعان بمرارة كمن يغوص في ذكرى قديمة.
وفي تلك اللحظة… ضربتني ومضة من الماضي، ذكريات من حياتي السابقة كنت قد دفنتها في أعماقي.
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 16"