الفصل الثالث عشر
آه، لقد ارتكبت خطأ. لم يكن هناك فائدة ترجى من استفزازه إلى هذا الحد.
كنت أعرف ذلك جيداً، وبشكل دقيق من خلال تجاربي السابقة.
مظهره تغيّر قليلاً فأرخيتُ حذري، لكن داخله ما زال كما هو، شابٌ في الثامنة عشرة.
لقد أصبحت منفعلة بعض الشيء بسبب شارلوت، ولهذا انفلت لساني.
“……”
كان ليوبولد يحدّق بي ببرود بعينيه الذهبيتين.
عيناه الذهبيتان تلك، التي لا يمكن مقارنتها حتى بأثمن الأحجار الكريمة، كانت تُعتبر عند أبناء الإمبراطورية رمزاً مقدساً ونبيلاً يسبّحون بجماله.
لكن بالنسبة لي لم تكن سوى لون مزعج.
*لأنك عديمة ذوق*
“……”
وفجأة، بينما كان يحدّق بي بوجهه البارد وكأنه غارق في التفكير، نهض ليوبولد من مكانه بغتة.
“!”
تفاجأت من حركته المفاجئة فنهضت بدوري بسرعة.
دَرج!
من قوة الحركة، انقلب الكرسي الذي كنت جالسة عليه وسقط أرضاً.
تبا. يا للحرج. هو لم يفعل شيئاً سوى الوقوف، لكنني كشفت من تلقاء نفسي أنني أخاف منه.
لم أرغب أبداً أن أظهر بمظهر الضعيف أمام ليوبولد، الذي كانت علاقتي به سيئة أصلاً.
“…… اعذرني.”
“……”
أسرعت بإعادة الكرسي لوضعه الطبيعي وتظاهرت وكأن شيئاً لم يحدث.
أما ليوبولد، فلم يُبدِ أي اهتمام بما فعلت، وظل وجهه باردا وهو يخطو نحوي ببطء.
خطوة… خطوة…
راقبته وهو يقترب مني، وملامحي متوترة.
شعرت بقطرة عرق باردة تنساب على ظهري.
وبينما أنا في توتري، وجدته قد أصبح قريباً جداً، قريباً لدرجة لا يمكن اعتبارها مسافة بين مجرد أصدقاء.
اقترب مني، ثم بصوته البارد الخالي من أي انفعال قال:
“سألتني، لماذا دعوتك إلى هنا.”
آه، صحيح. لم أسمع بعد جواب ذلك السؤال المهم.
كانت هذه العودة مرتبطة بليوبولد.
لماذا أنا بالذات؟ لماذا، بحق السماء؟
“…… نعم.”
وبصوت خافت أجبته وأنا أومئ برأسي، فما زلت أريد معرفة السبب.
ذلك كان السبب الذي جعلني أقبل دعوته اليوم دون تردد.
كان لغزاً أعجز عن حله رغم تفكيري فيه كل ليلة منذ أن عدت بالزمن.
حدّق بي ليوبولد بعينيه الذهبيتين كأنه يقرأ جميع أفكاري.
“هل تتذكرين ما حدث قبل أن تأتي إلى هنا مباشرة؟”
“…… أجل، نوعاً ما.”
تجنبت النظر في عينيه بوجه قاتم.
في حياتي الأخيرة، قبل أن أصل إلى هنا مباشرة، شعرت بالندم.
لم يكن هناك أحد بجانبي. غرقت في اليأس.
وكان ذلك اليوم يصادف عيد ميلادي.
لكن لم يكن أحد يعرف ذلك. فكنت أملأ وحدتي بالشرب.
عندها ظهر ليوبولد الصغير. مدّ يده نحوي كما لو أنه معجزة.
وعندما فتحت عيني من جديد، وجدت نفسي في الثالثة عشرة، في ذلك الزمن الذي كانت فيه سعادتي في أوجها.
وحتى الآن لم أفهم السبب.
رفعت بصري إلى ليوبولد بقلق واضح في عينيّ.
“…… إذا لم يكن هناك من يحتاج إليّ على أي حال.”
بدأ ليوبولد يتقدم نحوي خطوة تلو الأخرى، لتضيق المسافة أكثر فأكثر حتى صارت قريبة جداً.
وجهه الجميل، الذي سيصفه الناس في المستقبل بأنه كنز الإمبراطورية، بدا الآن أكثر شباباً وهو أمامي مباشرة.
عيناه الذهبيتان المشعتان بخطورة ما، بشرته البيضاء الخالية من أي عيب…
لم أجد مكاناً أثبت فيه بصري. حاولت أن أركز على شيء سخيف مثل فتحتي أنفه أو خط شفته العليا، لكن حتى ذلك بدا مثالياً.
ابتلعت ريقي بصعوبة، من شدة التوتر.
توقف ليوبولد أمامي مباشرة.
“……”
“……”
كانت مسافة قريبة جداً. وجهه كان أمامي لدرجة أن أي شخص يرانا سيظن أننا في موقف غامض.
“…… تبا.”
رفعت يدي لا إرادياً وضغطت على صدري بقوة.
لا يجب أن أنجرف وراءه. كل هذا مجرد حيلة منه ليعذبني.
حدّق بي ليوبولد طويلاً، ثم مدّ أصابعه النحيفة وضغط بخفة على ظاهر يدي التي كنت أقبض بها على صدري بقوة حتى شحبت.
وقال:
“…… هذه المرة، استعمليها من أجلي.”
قالها ليوبولد بصوت منخفض جداً، يكاد يكون همساً لا يسمعه غيري.
ما الذي يقوله بحق السماء؟
رفعت بصري إليه بعيون مليئة بالريبة.
كان هذا الفتى في الأصل قليل الكلام، لذلك لم يكن من السهل أن تُعقد معه محادثة طبيعية.
لكن أن يتفوّه بكلام غامض إلى هذا الحد… فهذه كانت المرة الأولى.
وكأن ليوبولد قد قرأ أفكاري، فأضاف قائلًا:
“…أعطني حياتك.”
“ماذا؟”
أي هراء هذا؟
ألم يكن يسألني قبل قليل عن سبب قدومي إلى هنا؟ والآن فجأة يطلب مني أن أمنحه حياتي؟
نظرتُ إليه بريبة، وارتسمت على وجهي ملامح الانقباض.
أي طلب هذا؟! يأخذ مني صديقتي إيفلين، والآن يريد حياتي أيضًا؟ أي وقاحةٍ هذه!
“لا…”
كنتُ على وشك أن أقول بوضوح: “لا أريد”، لكن ليوبولد قاطعني بسرعة وكأن الأمر شديد الأهمية:
“إذا لم يكن هناك أحد بحاجة إليك… فما المانع أن تمنحيني نفسك؟”
“…….”
كان صوته يحمل شيئًا من العناد الطفولي.
كأنّه يتدلّل أو يلحّ بلا مبرّر.
لكن… هذا ليس من طبيعته.
لقد كنتُ أمزح مع إيفلين من قبل قائلة إن هذا الرجل لو وُلد لقال وهو يخرج من بطن أمّه:
“مرحبا يا أمّي، لقد تعبتِ كثيرًا.”
تطلعتُ إليه بذهول، بينما ظلّ ينظر إليّ بتلك الملامح الغامضة التي لا أستطيع قراءة ما خلفها.
“فكّري في الأمر جيدًا.”
ترك هذه الجملة المليئة بالمعاني المجهولة، ثم مضى متجاوزًا إيّاي.
طَق.
ارتدّ صدى إغلاق الباب خلفه، وتلاشى صوت خطواته مبتعدًا.
بقيت أحدّق طويلًا في الباب الذي خرج منه، شاردة الذهن.
“……؟”
لقد تكلم أكثر من المعتاد، ومع ذلك لم أفهم شيئًا مما قاله.
“ما هذا بحق السماء…”
شعرت بحرارة غريبة في الموضع الذي لامسته يده قبل قليل، فأمسكت بكفّي الأخرى يدي وكأنني أريد تثبيت ذلك الشعور الغامض.
كنتُ أظن أن تلك الدعوة ستكون الأخيرة…
لكن في الأسبوع التالي وصلني مجددًا خطاب دعوة من القصر الإمبراطوري.
ثم في الأسبوع الذي يليه، ثم في الذي يليه أيضًا.
ليوبولد لم يملّ.
كان يستدعيني مرة واحدة كل أسبوع على الأقل ، وأحيانًا مرتين.
…هل هذه طريقة انتقامه مني لأنني كنتُ أتجاهله في حياتي السابقة؟
بلغت بي الحيرة هذا الحد.
لكن ما بدا أكثر غرابة أنّه لم يكن هناك أي شيء يُشبه الانتقام.
نجلس لاحتساء الشاي، أو نتابع إحدى الدروس سويًا.
تمامًا كما يفعل الأصدقاء.
…أصدقاء؟
هل الصداقة هكذا؟
لكن، كان في الأمر بعض غرابة.
فليوبولد بطبعه قليل الكلام، وأنا لم أكن أفتح معه حديثًا إلا نادرًا.
أما ذلك الكلام عن “امنحيني حياتك”، فقد بدا و كأنه هو نفسه قد نسيه تمامًا.
بصراحة، ظللت أفكّر فيه لبعض الوقت.
كان تصرفًا غريبًا لا يُشبهه.
حتى بدأت أشك أنه ربما كان يمازحني بمزحة ثقيلة.
وهكذا، وبعد أن زرت القصر ست مرات تقريبًا، لم أعد أتحمّل الغموض، فقررت أن أسأله بوضوح:
“ليو، لماذا تستدعيني دومًا إلى القصر؟ هل وراء الأمر نوايا سياسية ما؟”
“…نوايا؟”
ردّد الكلمة ببرود، وكأنه يسمعها لأول مرة، وحدّق في وجهي.
أنا كنت قد أرهقت نفسي بالتحليل أيّامًا وليالي حتى وصلت لهذه النتيجة.
كلامه السابق عن “حياتي” لم يكن بعيدًا عن ذهني.
دعواته المتكرّرة الآن… لا بدّ أنه وجد فيّ منفعة ما، وأنه ينوي استغلالي ثم التخلّي عني.
لم أستطع التفكير بغير ذلك، فالعلاقة التي جمعتنا في حياتنا السابقة كانت سيئة جدًا.
وضعتُ يدي على فنجان الكاكاو الفاخر الذي أحبّه، وقلت متنهّدة:
“بصراحة… هذا الأمر يربكني.”
“ماذا؟”
توقّف ليوبولد وهو يرفع فنجانه نحو شفتيه، وقطّب حاجبيه قليلًا وكأنه لم يفهم قصدي.
“أعني… أنني لا أفهم أصلًا لماذا نفعل كل هذه الأشياء غير الضرورية…”
“…….”
توقّفتُ عند هذا الحد. فهو ذكي، ولا بدّ أنه استوعب قصدي.
رفعت نظري إليه مترقبة جوابه.
لكن ليوبولد نظر إليّ بوجهٍ لا يظهر عليه أي إدراك، ثم قال ببساطة:
“اعتبري المكان بيتك، وتعالي متى شئتِ.”
“…….”
لم أستطع إخفاء ملامح الاستهزاء من وجهي.
هل هذا معقول؟ بيتنا لا يملك هذه الفخامة أصلًا.
ثم إنه وإن كان لا بأس أن يزور هو قصرنا، فكيف لي أن أتنقّل في القصر الإمبراطوري وكأنه بيتي؟!
“…أنا، على عكس بعض الناس، لا أستطيع أن أكون بهذه الوقاحة.”
لا بدّ أنه يظن أنّ الجميع يملك وقاحته ذاتها.
منذ اليوم الأول الذي رافق فيه إيفلين إلى بيتنا، تصرف ليوبولد وكأنه صاحب الدار.
والآن يريد مني أن أتصرف بالمثل؟
لكن ليوبولد أجاب ببرود، وكأنه لا يرى أي مشكلة:
“ولِمَ لا؟ فلتعتبرينها حياة زوجين جديدين، وتعالي دون تردّد.”
᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽᯽
التعليقات لهذا الفصل " 13"