شعرتُ بألمٍ في رأسي. وبينما كنتُ أتمسّك بصدغيّ، سقط شيءٌ لزجٌ على يديّ.
نظرتُ حولي بسرعة، لكنني لم أرَ شيئًا. حينها أدركتُ أخيرًا الوضع الذي كنتُ فيه.
اختطفني أحدهم وسجنني في هذا المكان. والسبب بسيطٌ للغاية.
«الدوقة شولتز؟»
سألني ذلك الرجل عن هويّتي في النهاية، وكأنه يؤكّد معرفته. لذا ربما …
‘هل لأنني تزوّجتُ الرجل الخطأ؟’
كان الأمرُ مُضحكًا، لا يستحق حتى السخرية.
هل يُعقل أنه هو مَن أرسل تلك الرسائل إلى قلعة إيفانشتاين، متظاهرًا بأنه إحدى الشابات النبيلات المُعجبات بيوهانس، أو مُنتحلًا صفة السيدة بينسلر، فقط لإرباكي قبل اختطافي هكذا؟
‘لكن لماذا كل هذا العناء؟’
هل كان يحمل ضغينةً عميقةً تجاه يوهانس؟ ربما كان يُخطّط لاستخدامي لتهديده.
خرجت مني تنهيدةٌ خافتة.
مهما كان سبب احتجازي هنا، لكن بالنظر إلى تركهم لي وحدي، فمن المرجّح أنه لا يقصد إيذائي أكثر.
ما إن انتهيتُ من تقييم الموقف، حتى سمعتُ صوتًا عاليًا من الأعلى. صرّ الخشب، وسرعان ما تسلّل ضوءٌ ساطع.
رفعتُ يدي غريزيًّا لأحمي عينيّ، ثم نزل رجلٌ من الدرج، إذ رأى أنني استيقظت.
“الحياة سهلةٌ عليكِ، أليس كذلك؟”
‘سهلة؟’
في الوقت الذي كنتُ أفكّر فيه في بؤس حياتي، يُلقي عليّ بتلك الترهات.
لو كانت الحياة سهلة، لعاد والدي سالمًا إلى المنزل، ولما تعرّضتُ لمضايقات مُحصّلي ديون بانوكس.
ولما كنتُ بالتأكيد مستلقيةً هنا، مقيّدًً في مكانٍ مظلمٍ وبارد.
إذن، عن أيّ سهولةٍ تتحدّث؟
حدّقتُ به، فابتسم الرجل بسخرية.
“هذا ما تحصلين عليه لزواجكِ من رجلٍ كهذا.”
“…..”
“ذلك الوغد اختلس أموال الدولة. ومع ذلك، لا يفكّر حتى في أخطائه، عليه أن يدفع ثمن وضعنا في هذه الحالة.”
صرّ على أسنانه وداس بقدمه.
على الرغم من أن سمعة عائلة شولتز كانت تتعافى، إلّا أن الاعتقاد بأنهم اختلسوا أموالًا مَلَكية لا يزال قائمًا.
بطبيعة الحال، ما لم يظهر دليلٌ قاطعٌ على براءته، فلن تزول هذه الشكوك تمامًا.
كان هذا الرجل أيضًا يؤمن إيمانًا راسخًا بأن عائلة شولتز قد اختلست مئات المليارات من الأموال.
“ماذا فعلتُ أنا …؟”
عند سماع هذا، يبدو أنه لم يكن هو مَن أرسل لي الرسالة. لكن من الواضح أنه كان يحمل ضغينةً تجاه يوهانس.
“ماذا فعلتُ لأستحق هذا؟”
عندما رددتُ باندفاع، ارتسم على وجهه المتجهّم مشاعر مختلفة، شيءٌ يتجاوز الغضب.
“لم تفعلي شيئًا. هذه هي المشكلة.”
“… ماذا؟”
“أنتنّ المشكلة، الفتيات الجميلات اللواتي يجلسن في مناصب عليا، يحصلن على ما يُرِدن أن يحرّكن ساكنًا.”
كنتُ عاجزةً عن الكلام.
سمعتُ عن أشخاص مثل هؤلاء. أشخاصٌ يُلقون باللوم في فشلهم على نجاح الآخرين، مقتنعين بأن تدمير الآخرين سيؤدي إلى نجاحم.
“كيف يُعقل أن أُعاقَب لمجرّد اختلاسي القليل من أموال الجيش؟”
صُدِمتُ.
لقد اعترف بجريمته للتوّ، أمامي، ومع ذلك بدا غافلاً تماماً عن خطئه.
“لأن ذلك الوغد العقيد شولتز أبلغ عني، خُفِّضت رتبتي، وقلّ راتبي، والآن سيلاحقني هذا السجلّ التأديبي للأبد، مما يجعل من المستحيل عليّ الترقّي!”
انفجر الرجل غضبًا.
صُعقتُ. ما شأني بكلّ هذا بحق خالق الجحيم؟
قبل لحظة، كنتُ خائفة. لكن ربما بسبب الضربة على رأسي، الآن كلّ ما شعرتُ به هو الانزعاج.
فتحتُ شفتيّ.
“لقد نلتَ العقاب الذي تستحقه. لماذا تُنفِّس غضبكَ عليّ؟”
“أتظنّين أن الزواج من طبقة النبلاء يجعلكِ نبيلةً حقيقية؟ لقد رأيتُ الكثير من الفتيات مثلكِ. من السهل التخلّص منكِ. أنتِ لا شيء!”
رفض الاعتراف بخطأه، واستمر في مهاجمتي بدلاً من ذلك.
“لقد رأيتُ كلّ شيء. كيف يأخذ النبلاء ذوو المكانة الرفيعة النساء الجميلات، ويدمّرونهن، ثم يتخلّصون منهن.”
لم أكن أعرف لماذا بدأ فجأةً يتحدّث عن فائدتي المزعومة. لكنه كان كلامًا فارغًا.
“أعلم أن العائلات النبيلة تكره الطلاق. تحتاج إلى موافقةٍ مَلَكية، وهي إجراءاتٌ مُرهِقةٌ للغاية. لكن هناك طريقةٌ واحدةٌ للزواج مرّةً أخرى. هل تعلمين ماذا يحدث للنساء اللواتي تنتهي فائدتهن ويُهجرن؟”
عندما لم أتفاعل، ازداد وجهه شراسةً، مُحاوِلاً إخافتي قدر استطاعته.
“بمجرّد أن يملّ يوهانس شولتز من جمالكِ، سيبحث عن غيركِ. سيختار على الأرجح امرأةً ذات ذكاءٍ جيدٍ وخلفيةٍ عائليةٍ محترمةٍ لزواجه الثاني. لكن ماذا لو كنتِ لا تزالين على قيد الحياة حينها؟”
ضيّق عينيه، يراقب ردّ فعلي.
وماذا في ذلك؟
لم يتزوّجني يوهانس لمظهري. كان يريدني أن أتلاعب بالرأي العام، ووافقتُ على مجاراته.
لكن هذا لا يعني أنني أستطيع الجلوس مكتوفة الأيدي والاستماع إلى تلك التعليقات الوقحة.
نظرتُ إليه مباشرةً في عينيه.
“مع ذلك، ليس من حقكِ قول ذلك لي.”
احمرّ وجهه بشدّة.
لم يكن هذا ردّ الفعل الذي أراده، بوضوح. ربما توقّع مني أن أبكي.
صرّ على أسنانه مجددًا.
“لديك مستقبلان فقط. إما أن تموتي أو تُقتَلي.”
أردتُ أن ألكمه في وجهه.
جبانٌ جدًا لمواجهة يوهانس مباشرةً، لذا صببتَ غضبكَ على امرأةٍ أضعف منك. فقط لأنني زوجة يوهانس؟
تحدّثتُ بانزعاج.
“هل تعتقد أن قول هذا سيُغيّر شيئًا؟ لماذا تُصرّ على صبّ عضبكَ عليّ؟”
“… ماذا؟”
“ألا تحتاج فقط إلى شخصٍ لتُلقِي عليه اللوم؟ أنتَ تعلم أنكَ كنتَ مخطئًا، لكنكَ لا تريد الاعتراف بذلك. لقد عوقبتَ لما تستحقه، لذا فأنتَ تبحث الآن عن مكانٍ لتُنفِّس فيه عن غضبك.”
“كيف تجرؤين أيّتها الحقيرة!”
سحب مسدسًا من حزامه. بيديه المُرتعشتين، صوّبه نحوي، ثم اقترب بخطواتٍ سريعةٍ، وضغط فوّهة المسدس على جبهتي.
شعرتُ ببرودة الفولاذ. عاد الألم ليشتعل في مؤخرة رأسي. أغمضتُ عينيّ بقوّةٍ ثم أجبرتُ نفسي على فتحهما، بالكاد رفعتُ يدي الضعيفة.
عندما أمسكتُ بالفوّهة، تراجع إلى الوراء مندهشًا.
لكنني كنتُ غاضبةً للغاية الآن. لم يكن لديّ ما أخسره.
“هيّا أطلِق النار. ماذا تعتقد سيحدث إن قتلتَني؟”
“… ماذا؟”
إذا لم أستطع الهرب، كان عليّ استغلال سوء فهمه إلى أقصى حد.
“كما قلت، بفضل وجهي الجميل، أنا زوجته الحبيبة الآن.”
“هل تهدّدينني؟!”
ارتفعت يد الرجل في الهواء. تبع ذلك صوت ارتطامٍ خافت، وارتجف رأسي بشدّةٍ إلى الخلف.
للحظة، لم أستطع حتى رفع رأسي.
كانت صدمة العنف الذي عانيتُه على يد الجندي مُخدِّرة. انتشر الألم ببطءٍ شديد.
شعرتُ بلسعةٍ حادّةٍ من خدي، واختفت رؤيتي تمامًا للحظة. رنّت أذناي بشدّةٍ لدرجة أنني لم أستطع حتى سماع صراخه. عندما استعدتُ وعيي أخيرًا، رمقته بنظرةٍ حادّة، وبصوتٍ مرتجفٍ غلبه الغضب، صرختُ عليه بقوّة.
“كل هذا لمجرّد أنكَ لم تحصل على ترقية؟!”
كليك. شدّ إبهام الرجل مطرقة المسدّس. ارتجفت سبّابته كما لو كان مستعدًّا لسحب الزناد.
“مجرّد ترقية؟ هل تعلمين مدى أهميّة الترقية للجندي؟ إنها مسألة شرفٌ يقوف بكثيرٍ حياة عامّة الناس أمثالُكِ!”
كان على وشك إطلاق النار بجديّة. أغمضت عينيّ بشدة.
هزّ شيءٌ ما سقف القبو. تساقط الغبار من السقف، مما جعلني أسعل لا إراديًا.
ثم جاء ضجيجٌ فوضويٌّ من الطابق العلوي.
“ماذا يحدث؟!”
عبس الرجل ونظر إلى أعلى الدرج. ولأن الضجة لم تهدأ، زمجر وصعد بقدمه.
“مـ ما هذا بحق الجحيم؟”
تجمّد الرجل في مكانه، وجسده لا يزال متيبّسًا. وبينما كان على وشك تصويب مسدّسه، سُمِع دويٌّ مرعب. ثم سقط الرجل من على الدرج.
رفعتُ نظري إلى السقف. تسلّل ضوءٌ من الباب المفتوح في الأعلى.
“استخدام السلاح الناري خارج أوقات العمل غير قانوني.”
ظهرت شخصيةٌ طويلةٌ ومهيبة. كان يوهانس شولتز.
“خطف، ومحاولة قتل، وتهديدات، ارتُكِب كلّ ذلك أثناء ارتداء الزيّ الرسمي.”
أمسك نواه ويبر، الذي سقط فجأةً، بكتفه وانحنى وهو يتأوّه. سال الدم من الجرح، ليبلّل الأرض.
نزل يوهانس الدرج ببطء. أصبح الجوّ، مثل شفرةٍ حادة، قارس البرودة نظر إليّ نظرةً خاطفة، ثم اقترب من الرجل. خيّم ظلٌّ ثقيلٌ على ظهره العريض.
“الرقيب نواه ويبر. اعتبارًا من هذه اللحظة، تم فصلكَ من بحرية دوسيليا.”
“… مـ ماذا؟”
“ستُحال هذه القضية إلى محكمةٍ عسكرية، إلى جانب اختلاسكَ السابق للأموال العسكرية.”
“ما الخطأ الذي ارتكبتُه؟! لقد اختلستَ مليارات البيركس ولم تُعاقَب، ولكنني آخذ القليل وأُعامَل هكذا؟!”
تسك. انطلقت ضحكةٌ خفيفةٌ من يوهانس.
“هناك بعض المعلومات المُضلِّلة.”
انحنى، وضغط فوّهة المسدس على خدّ ويبر، وتحدّث بصوتٍ بارد.
“لم أكن أنا مَن اختلس، بل كان الدوق شولتز السابق.”
التعليقات لهذا الفصل " 42"