لم يبقَ سوى فراغ الأمل المُحطَّم في أن يكون والدي لا يزال على قيد الحياة.
بينما كنتُ أتحدّثُ شاردة الذهن، فتح يوهانس فمه ببطء.
“يقولون إن شابًّا انتحل شخصية الرقيب بريم. ويُقال إنه دفع للفندق مبلغًا كبيرًا من المال.”
واصل يوهانس شرح ما اكتشفه.
لحسن الحظ، لم يكن هناك أيّ شيءٍ خطيرٍ داخل الغرفة – فقط الرسالة.
تكهّن أنه شخصٌ كان إمّا يريد تأكيد أمرٍ ما بلقائي أو ببساطةٍ يكرهني.
كنتُ قد فكّرتُ في احتمال أن أحدهم كان ينتحل شخصية والدي. ومع ذلك، ربما لأنني كنتُ آمل عكس ذلك، لم تُخفِّف هذه الحادثة حزني.
نظرتُ في أرجاء الغرفة الفارغة وأجبتُ.
“أنا آسفةٌ لخداعكَ وقطع كلّ هذه المسافة. لكن مهما فكّرتُ في الأمر … شعرتُ حقًا أن والدي على قيد الحياة …”
“لقد أخبرتُكِ بالفعل. كانت جثّة الرقيب بريم —”
“أعلم. أعرف ذلك أيضًا … لكن … كانت الجثّة مُتحلّلةً للغاية، ولم أكن متأكّدةً حتى من أن الرسالة منه حقًا.”
ما زلتُ غير قادرةٍ على التخلّص من الرسالة، وظلّت صورة جثّة والدي تومض في ذهني.
كان الوجه مشوّهًا لدرجة أنني بالكاد استطعتُ التعرّف عليه. لم أستطع حتى تمييز الأصابع المعوجّة بوضوح. فكيف لي أن أتأكّد من أنه والدي؟
“لهذا السبب … لا يمكنني التخلّص من هذا الشك حتى أعرف مَن أرسل هذه الرسالة حقًا.”
“إذا أردتِ، يمكنني مساعدتكِ في العثور على مَن أرسلها. لكن—”
“هل يمكنكَ أن تثق بي قليلًا؟”
رفع يوهانس حاجبه.
ربما كان يقصد أن يقول لي ألّا أُعلِّق آمالي على شيء. لكنني لم أُرِد أن أبدأ بهذه السلبية.
عندما هززتُ رأسي بهدوء، أومأ يوهانس برأسه مستسلمًا. ثم وضع يده برفقٍ على كتفي.
“في الوقت الحالي، يجب أن نخرج من هنا. انتهى البحث، ولم نعثر على أيّ شيءٍ آخر مريب، لكن لا ضير في الحذر. لنأخذ بعض الوقت للتفكير في الأمر.”
وهكذا، وبعد أن لم أجنِ شيئًا، صعدتُ إلى القطار عائدةً إلى موسن مع يوهانس.
***
كان يومًا ضبابيًا على غير العادة.
ليس يومًا مناسبًا للمعركة، ولا للإبحار.
في أيامٍ كهذه، كانت هناك قاعدةٌ غير منصوصٍ عليها وهي عدم الشروع في الهجمات، لأن الخسائر من الأصدقاء كانت أيضًا أكثر احتمالًا.
كان يوهانس على سطح سفينةٍ تطفو في عرض المحيط، يدخّن سيجارة. كانت لحظة راحةٍ نادرة.
على الأقل حتى قاطعه بحّارٌ غافل.
“هل تدخّن هذا النوع من السجائر أيضًا، أيّها القائد؟”
اقترب ضابطٌ بحريٌّ في منتصف العمر، متحدّثًا إلى يوهانس وهو يدخّن وعيناه نصف مغمضتين.
كان وجهه قد شحب بفعل التقدّم في السن، لكن عينيه اللطيفتين وأنفه المرتفع أوحى بأنه كان وسيمًا للغاية في يومٍ من الأيام.
كان هذا كلّ الانطباع الذي تكوّن لدى يوهانس، لا شيء مميز.
“هل تمانع أن أدخّن هنا أيضًا؟”
لم يُجِب يوهانس.
كان أسلوب الرجل الهادئ في بدء محادثةٍ والتدخين مع القائد على سطح السفينة مُسلّيًا، ولكن هذا كلّ شيء.
بدا أن الرجل اعتبر صمت يوهانس موافقةً، وبدأ يدخّن بجانبه من حينٍ لآخر، مُشارِكًا قصصًا لم يكن يوهانس يُبالي بمعرفتها.
“أنتَ لا تدري كم هي جميلةٌ ابنتي. لقد تلقّت عشرات عروض الزواج مؤخّرًا. لكن ها أنا ذا عالقٌ في الحرب هنا وهي وحيدةٌ هناك …”
كان يتفاخر بابنته تارّةً، وتارّةً أخرى كان يندب حظه. أصبحت تنهّداته صوتًا مألوفًا.
بعد بضع مواقف مماثلة، تحقّق يوهانس أخيرًا من اسم الرجل المكتوب على زيّه العسكري، وأصدر تحذيرًا.
“إيزيك … أيّها الرقيب بريم. لستُ هنا لأستمع إلى شكواك.”
“آه، أعتذر. لقد كنتُ أفكّر في ابنتي كثيرًا مؤخرًا. لو مِتُّ هنا في المعركة، تسائلتُ ما قد يحدث لها وقد أصبحت وحيدةً تمامًا …”
على الرغم من كلمات يوهانس اللاذعة، ظلّ الرقيب بريم مبتسمًا وتصرّف كعادته.
في النهاية، اضطرّ يوهانس للتنازل. وقدّم للرجل بعض العزاء.
“لا داعي للقلق. سنعود جميعًا أحياءً.”
“هل تظنّ ذلك؟”
لم يكن هناك أثرٌ للأمل في صوت الرقيب بريم عندما سأل.
تساءل يوهانس إن كان الرقيب بريم قد استسلم، منذ اللحظة التي اقترب فيها الرجل منه، لفكرة عدم النجاة من الحرب.
مع ذلك، أجاب دون أن يكشف عن تلك الفكرة.
“… بالتأكيد.”
كان الجميع يعلم أن رياح الحرب تنقلب ضد دوسيليا. كانوا جميعًا يظنّون أن الهزيمة حتمية.
لكن التصريح بذلك بصوتٍ عالٍ لن يؤدي إلّا إلى إحباط معنويات الجنود.
“أنتَ مُحقّ. عليّ أن أبذل قصارى جهدي للنجاة، من أجل ابنتي.”
بمجرّد أن اعتاد يوهانس على إنهاء أيامه وهو يستمع إلى قصص الرقيب بريم المُملّة، حلّت المأساة.
في اللحظة التي بدأت فيها عيناه الخضراوان تفقدان حيويّتهما، انهار إيزيك بريم من المرض.
***
ساد الصمت في القطار المتّجه إلى موسن.
جلستُ أحدّق في وجه يوهانس. كان يحدّق من النافذة، وتعابير وجهه غامضة.
فجأة، لاحظتُ خدشًا على خده الأيمن.
“هل أنتَ مصاب؟”
سألتُ دون تفكير. التفت يوهانس لينظر إليّ، وعقد حاجبيه في حيرة.
“خدّك … هناك خدش. هنا.”
أشرتُ قرب خدّه.
“… آه. لا شيء. مجرّد خدشٍ بسيط.”
انتهت المحادثة عندهذا الحد.
انطلق القطار لفترةٍ أطول. وما إن اقتربنا من موسن، حتى اهتزّت العربة فجأةً بعنف.
سُمع صريرٌ عالٍ من الفرامل، وتوقّف القطار في منتصف السكّة.
تعثّرتُ في مقعدي، عاجزةً عن الحفاظ على توازني، لكن يوهانس، الجالس قبالتي، أمسك بذراعي. بفضله، تجنّبتُ أن أبدو أضحوكة.
“شكرًا …”
لم أملك حتى القوّة لأشكره كما ينبغي قبل أن تندلع الفوضى في الخارج.
توقّف القطار عن الحركة، فبدأ الناس يتوافدون من مقصوراتهم.
نهض يوهانس من مقعده. مسح المشهد في الخارج بعينين حادّتين قبل أن يفتح باب المقصورة.
“يجب أن أذهب لأتفقّد ما يحدث. هل ستكونين بخير؟”
“بالتأكيد. يمكنكَ الذهاب.”
هل هو مجرّد عطلٍ ميكانيكي؟
راقبتُه وهو يغادر بهدوء، لكن سرعان ما تفاقمت الأمور.
دوّت الصرخات من كلّ حدبٍ وصوب.
عندما ألقيتُ نظرةً خاطفةً على الممرّ، كان الدخان يتسلّل إلى القطار، ويزداد كثافةً كلّ ثانية. بدأ الناس يسعلون ويتدافعون للإخلاء.
أين يوهانس؟ أين آهين؟
صعدت آهين إلى مقصورةٍ مختلفةٍ عنا. لكن ربما لا تكون على درايةٍ بما يحدث.
غطّيتُ فمي وأنفي بكُمّي، وتوجّهتُ بسرعةٍ نحو المقصورة التي كانت آهين فيها.
لحسن الحظ، بدا أنها قد نجت بالفعل، لم تكن في مقعدها. كان الناس لا يزالون يتدافعون ويدفعون للخروج.
كان عليّ الخروج بسرعةٍ أيضًا. إذا كان القطار يحترق حقًا، فلن يكون من الغريب أن ينفجر في أيّ لحظة.
ما إن تمكّنتُ أخيرًا من الحصول على رؤيةٍ واضحةٍ وسط الزحام.
“هنا.”
أمسك رجلٌ لم أكن أعرفه بمعصمي. سحبني معه، وبالكاد تمكّنتُ من النزول من القطار.
“شكرًا -“
التفتُّ لأشكره، لكنني صمتُّ عندما رأيتُ وجهه.
كان الرجل، الذي يرتدي قلنسوةً مريبة، يحدّق بي باهتمام.
“الدوقة شولتز؟”
ابتسمت شفتا الرجل من تحت القلنسوة بابتسامةٍ عريضة. شعرتُ أن هناك خطبًا ما، وحاولتُ الهرب.
بانغ. في تلك اللحظة، تسلّل ألمٌ حادٌّ في مؤخرة رأسي بينما رنّ صوتٌ خافتٌ في أذني.
كان هذا آخر ما أتذكّره قبل أن أفقد وعيي.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات لهذا الفصل " 41"