اقترب الرجل ببطءٍ من المرأة وجلس على الكرسي المقابل لها.
“لكن مشاهدة شخصٍ يحتضر أثناء الاستماع إلى الموسيقى ليس بالأمر السيئ. لا، في الواقع، أنا راضٍ تمامًا.”
أمسكت المرأة رقبتها، وتعابير الألم تملؤ وجهها. أصبحت أنفاسها المتقطّعة ضعيفةً بشكلٍ خطير.
“تستحقين مكافأةً إذًا.”
“لـ لا أستطيع … التنفّس …!”
أمسكت برقبتها، وهي تلهث من الألم وتكافح لالتقاط أنفاسها.
“لقد حذّرتُكِ، راقبي فمكِ.”
“ماء … أعطِني بعض ا- الماء، مـ من فضلك …!”
مدّت يدها نحو كوب الماء على الطاولة. حدّق الرجل في أصابعها المرأة المرتعشة للحظة، ثم رماه بعيدًا.
حدّقت به المرأة بعينين محتقنتين بالاستياء.
“إذا كانت حياتكِ في القاع، فقومي بالزحف هناك. فقط قومي بالعمل المُوكَل إليكِ. ما كان ليحدث هذا لولا ذلك.”
تشوّه وجهها المتعرّق من الألم. بالكاد استطاعت يداها المرتعشتان انتزاع شظيّةٍ من الزجاج المكسور.
انغرست شظايا الزجاج المحطّم في يدها بلا رحمة. ألقت يدٌ محتقنةٌ بالدم شظيّة زجاجٍ على الرجل الذي كان متّكئًا على كرسيٍّ خشبيٍّ بلا مبالاة. انفتحت ندبةٌ على خده.
اسودّ وجه الرجل وهو يمسح الخط اللزج من خده.
“أنا رحيمٌ بمن يعرف مكانته.”
“أ- أنقِذني … أ- أرجوك …”
“عند التحدّث مع شخصٍ ذي مكانةٍ أعلى، يجب عليكِ استخدام ألفاظ الاحترام. أم أن هذا كثيرٌ على شخصٍ من الأحياء الفقيرة؟ يبدو أن تربيتكِ كانت كانت معيبةً حقًّا. هل عليّ معاقبة والديكِ؟”
تسك. نقر الرجل على لسانه.
“لكن اطمئنّي. لديّ ذوقٌ رفيع. لا ألمس ما لا يرضيني.”
خدشت المرأة الطاولة بشدّةٍ حتى كادت أن تكسرها. امتزج صوت الخدش الحادّ مع الموسيقى.
ابتسم الرجل بارتياح.
“بدلاً من إفساد ذاتكِ الجميلة، سأكتفي بإخراج غضبي على والديك العجوزين المتجعّدين.”
“لـ .. لماذا …!”
سار الرجل نحوها ببطءٍ وهي تصرخ من الألم.
حدق في عينيها المحمرّتين، وربّت على رأسها برفق. انحنى إلى الأمام وهمس بهدوء.
“لقد كنتِ سيئة الحظ. فقيرةٌ وسيئة الحظ.”
أصدرت المرأة، التي كانت على حافة الانهيار، صوت اختناقٍ وانهارت على الأرض.
“كوني ممتنّةً لأن عائلتكِ رأوكِ لآخر مرّةٍ وأنتِ على قيد الحياة. مع ذلك، إذا استغرق الأمور وقتًا طويلاً للعثور عليكِ، فلن يكون الأمر جيدًا.”
استمرّ جسد المرأة في التشنّج. برزت عروقٌ حمراءٌ في جميع أنحاء جسدها، ثم توقّفت فجأةً عن الحركة.
“كان ذلك أسرع ممّا توقّعت.”
نظر إلى الساعة في معصمه، ثم نظر إلى جسدها الجامد بعينين باردتين.
“كوني ممتنّةً لأنكِ قابلتِ فنانًا مثلي.”
ثم خلع الرجل قلنسوته، كاشفًا عن وجهه بالكامل. تألّق شعرٌ أشقرٌ فاتحٌ في الغرفة المعتمة.
عبس الرجل وهو ينظر إلى المرأة، لكن سرعان ما عاد إلى استقامته المعتادة.
ركع بجانبها. بعد أن حدّق في العلامات الملطّخة المنتشرة على بشرتها لبرهة، فتح أخيرًا شفتيه المطبقتين بإحكام.
“نعم، هذا يجب أن يكون سبب موتكِ. عقابٌ على جرأتكِ على الطمع في شيءٍ مخصّصٍ للطبقة العُليا فقط، وعلى استخدام اختراعٍ محظور.”
كانت، بطريقتها الخاصة، مقطوعةً موسيقيةً مُرضِية.
***
وصلتُ إلى محطة بولن بعد رحلة قطارٍ استغرقت ثلاث ساعاتٍ مع آهين ومرافقيّ الخفيّين.
“سيدتي، هل هذه بولن؟”
لمعت عينا آهين وهي تلتقط كُتيّبًا من زاوية المحطة.
بولن، مدينةٌ صناعيّةٌ شهدت نموًّا هائلًا بفضل أعمال السكك الحديدية في عهد ماركيز راسل.
وكما يُوحي اسمها، كانت المباني الشاهقة والكثيفة تصطفّ في كلّ شارع. لم أكن متأكدةً من مدى ازدحام العاصمة فالن، ولكن مع تركيزها على التقاليد، من المرجّح أن عدد المباني الحديثة فيها أقلّ من هذا المكان.
مع أنها كانت زيارتي الأولى، إلّا أنني لم أكن قلقةً للغاية. كان هدفي واضحًا، ولم أكن وحدي.
مع ذلك …
‘كيف أصل إلى فندق كارييرت؟’
أخبرتُ يوهانس أنني ذاهبةٌ إلى سوق الأعشاب. ربما صدّق المُرافِقون ذلك أيضًا.
ولكن إذا انحرفتُ فجأةً عن المسار، سيشعرون بالرّيبة.
كان إبلاغ يوهانس هو التصرّف الصحيح، بالطبع.
بينما كنتُ واقفةً بلا حراكٍ عند محطّة العربات، غارقةً في أفكاري، سألتني آهين بنبرة قلق.
“سيدتي، هل هناك خطبٌ ما؟”
“همم؟ لا… تذكّرتُ أنني سمعتُ أن صديقًا يقيم في فندق كارييرت، وقد أمرُّ عليه.”
التعليقات لهذا الفصل " 39"