شعرتُ بقشعريرة تسري في عروقي، كما لو أن دمي قد تجمد.
لأول مرة، فهمتُ معنى أن يشعر المرء بعقله فارغًا تمامًا.
انقبضت كل عضلة في جسدي، وشعرتُ وكأن أفكاري قد توقفت تمامًا.
لم أستطع حتى إغلاق شفتيّ المفتوحتين قليلًا، وقفت متجمدة في مكاني وأنا أحدق في إيان بنظرة فارغة.
“…ماذا…”
لم يُجب إيان.
في الوقت نفسه، رأيتُ اليقين في أعماق عينيه الهادئتين الزرقاوين.
مع أنه اتخذ شكل سؤال، إلا أنه لم يكن كذلك على الإطلاق.
“إيان، الآن…”
“إذا كنتِ تفكرين في التظاهر بالجهل، فأقترح عليكِ إعادة النظر. أنا أعرف ما الذي تريدينه بالفعل.”
قبل أن أنهي كلامي، قطع صوته البارد الهواء.
دوي.
قلبي الذي ظننتُ أنه لا يمكن أن يغرق أكثر غرقًا.
إنه يعلم بأمر السحر.
لم يكن يُخمن أو يُحاول اختباري.
نظرة واحدة في عينيه أخبرتني أنه يعلم.
في هذه الأثناء، إيان، الذي كان يُحدّق في عينيّ باهتمام، حوّل نظره سريعًا إلى معصمي.
“…نبضكِ سريع.”
ضغط بإبهامه بقوة على معصمي المُتورّد من الداخل.
أدركتُ ذلك على الفور.
انتهى أمري. هو لا ينوي أن يتجاهل هذا الأمر.
لاحظتُ مؤخرًا أن إيان كلاود كان لطيفًا معي على غير العادة – بل مُفرطًا في اللطف.
وهذا جعل الوضع الحالي يبدو أكثر خطورة.
لم يبدُ أنه شخص سيتركني أذهب دون أن يسمع إجابة.
ماذا أفعل؟
لكن في هذه اللحظة، لم يكن ما شعرتُ به قلقًا أو إحباطًا – بل كان خوفًا.
ليس لأنني لم أعرف ماذا أقول، بل لأنني لم أستطع توقع رد فعله عندما أخبره الحقيقة.
في أسوأ الأحوال، قد أضطر لتركه فورًا.
كم عليّ أن أخبره؟ هل أعترف بأنني تبادلت جسدي مع إلويز الحقيقية؟ ماذا لو شكك في هويتي؟ كيف يُفترض بي أن أشرح هذا؟ هل سيصدق حتى أن شيئًا كهذا قد حدث؟
لو أخبرني أحدهم أن حياتي ليست سوى خيال، وأن الطريق الذي سلكته كان من نسج خيال شخص آخر…
سيكون من المستحيل تقبّل ذلك.
فهل الكذب أفضل؟…
بينما رمقتني نظراته، استسلمت في النهاية. وضغطت شفتاي بشدة.
…لا، لا أستطيع. كيف لي أن أكذب، حتى الآن؟
قد لا يعرف إيان حقيقتي، لكنني… أحب الرجل الذي يقف أمامي.
بالنسبة لي، لم يعد مجرد شخصية رئيسية في رواية.
في هذه اللحظة، على الأقل، أقف وجهًا لوجه مع من أحب.
لو لم يكتشف الأمر، لربما كنتُ سأستمر في الكذب. لكن ليس الآن – ليس وهو يعلم كل شيء ويواجهني به.
“….”
بما أنني لم أقل شيئًا، ظل إيان صامتًا أيضًا، يحدق بي لوقت بدا وكأنه دهر.
كما لو كان ينتظر الحقيقة من شفتي.
لم أستطع رفع رأسي، بل حدقت بقلق في أطراف حذائه.
كم من الوقت وأنا على هذه الحال؟
“…سأخبرك بكل شيء.”
همستُ بهدوء شديد، لو كان بعيدًا، لما سمعني.
بصراحة، كنتُ مرعوبة.
لم يكن لديّ أي ضمان بأن إيان سيظل ينظر إليّ بعاطفة بعد اعترافي.
ولكن مع ذلك…
هذا أمرٌ عليّ تحمّله.
حتى لو غادرتُ هذا العالم يومًا ما، لم أُرِدْ خداعه بعد الآن.
فتحتُ فمي وأغلقتُه عدة مرات، ابتلعت ريقي بجفاف، قبل أن أُجبر نفسي أخيرًا على الكلام.
“…معك حق. لستُ إلويز كلاود كما تعلم… لستُ الابنة الثانية للماركيز ألفيوس.”
ما هذا التعبير الذي كان على وجه إيان وهو ينظر إليّ الآن؟
مع أنني شعرتُ بنظراته تتساقط عليّ بثقل، لم أستطع رفع رأسي.
“لقد جئتُ من عالم آخر.”
“….”
“عالم مختلف تمامًا عن هذا العالم. عالم لا توجد فيه لا إمبراطورية ليفانت، و لا إمبراطور، و لا دوق أعظم… عالم يُعتبر فيه السحر والشعوذة مجرد أساطير.”
تشوّشت رؤيتي وأنا أغمض عينيّ بإحكام.
أردتُ أن يغمى عليّ، لكن حواسي كانت صافية بشكل مؤلم.
“يبدو الأمر سخيفًا، أليس كذلك؟ خاصةً وأنني عرفتك منذ لحظة وصولي. لكن لا يمكنني ألا أعرفك. لأنه في ذلك العالم…”
ارتجفت يداي أولًا، ثم جسدي، وأخيرًا حتى صوتي بدأ يرتجف.
عضضت على شفتي بقوة دون أن أشعر.
“…لقد كنتَ في رواية.”
شعرت بإيان ينتفض، وتوقفت قبضته على معصمي للحظة.
لم أستطع النظر في عينيه، فتلعثمت في كلماتي وأنا أواصل حديثي.
“كنتَ أنت البطل الرئيسي في هذه الرواية، وديانا لورانس البطلة. كنت من أشد المعجبين بديانا لورانس. وإلويز، زوجتك…”
“….”
“…كانت شخصية ثانوية جمعتكما معًا.”
لم يُجب إيان.
بالطبع، لا بد أن الأمر صعب التصديق.
لا بد أنه يعتقد أنني جننت فجأةً بينما كنت أتفوه بكلام فارغ.
الطفولة التعيسة التي سببتها المحظية، ومحاولات الاغتيال التي لا تعد ولا تحصى، والضغط من النبلاء..
انا أقول له ان كل المصائب التي عاناها ليست سوى اجزاء من احداث في رواية.
“لا أعرف كيف استطاعت إلويز الحقيقية أن تُبدّل أجسادنا. لكنني جُلبتُ إلى هنا دون أن أعرف السبب.”
حاولتُ جاهدةً أن أتحدث بوضوح، لكن رغم محاولاتي، تسارعت أنفاسي شيئًا فشيئًا.
“…في البداية، أردتُ أن تقعا في الحب أنت وديانا. ظننتُ أن هذا دوري، وكنتُ واثقة من قدرتي على القيام به بشكل جيد. لكن…”
لم أستطع استجماع شجاعتي لأفتح عينيّ.
“وقعتُ في حبك في النهاية. والآن، أشعر بالرعب من احتمال أن أضطر إلى تركك. أريد أن أجد إجابات بطريقة ما، لكنني لا أعرف ماذا أفعل.”
“….”
“أنا….لا أريد أن أخسرك.”
انقطع صوتي، غير قادرة على إكمال الجملة.
شعرتُ بثقلٍ في جسدي، كما لو كنتُ مغمورةً بالماء، وحلقي يضيق، كما لو أن أحدهم سكب عليه الماء.
مع ذلك، قلتُ كل ما كان عليّ قوله.
حتى لو نظر إليّ إيان بنظرة خيانة أو اشمئزاز، لن أخدعه.
“…أنا آسفة. أعلم أن هذا مُربكٌ بالتأكيد. ستحتاج وقتًا للتفكير.”
سَحبتُ يدي بهدوء من قبضته.
انفرجت قبضته بسهولة، كما لو أنه لم يكن يُبالي إن غادرتُ أم بقيتُ.
كنتُ أتوقع هذا، لكن رؤيتي ضبابية من الحزن.
‘لا تبكي، لا يمكنكِ البكاء.’
“…سأترككَ وشأنكَ الآن. عندما تُرتب أفكاركَ، يُمكننا الحديث مُجددًا.”
ربما تكون هذه آخر مرة نتحدث فيها أنا وإيان.
لقد جهزتُ نفسي لذلك بالفعل.
استدرتُ، مُستعدةً للمغادرة.
“…انتظري إلويز.”
ناداني إيان بشكل متأخر قليلًا، وأمسك بذراعي على عجل.
رفعتُ نظري فجأةً، فرأيتُ وجهه المضطرب من خلال رؤيتي الضبابية.
في تلك اللحظة، انهمرت الدموع من عينيّ، وانزلقت على خدي.
“…إيان؟”
جذبني بين ذراعيه.
“لا تذهبي.”
خرجت الكلمات التالية بمزيج من الارتباك والإلحاح.
“انا أصدقكِ. مهما كان ما تقولينه، طالما الكلمات تخرج منكِ أنتِ فأنا سأصدقها.”
“أنتَ… تصدّقني؟”
لم أستطع إلا أن أسأله في ذهول.
كيف يُصدق قصة سخيفة كهذه؟
بينما ما زال إيان ممسكًا بي، هزّ رأسه برفق، وأومأ ببطء.
“نعم.”
كنتُ مذهولةً لدرجة أنني لم أستطع اغلاق شفتيّ المفتوحتين قليلاً، وبقيتُ في حضنه قبل أن أسأله أخيرًا:
“…لماذا؟”
ارتجف صوتي.
“ألا يبدو هذا جنونًا لكِ؟”
“إذن لا بد أنني أكثر جنونًا.”
“لا تمزح.”
“هل أبدو لكِ وكأنني أمزح؟”
“لكن…”
لم أستطع إكمال جملتي.
قاطعني إيان، وجذبني إليه أكثر وهمس بهدوء.
“بالطبع، لا أفهم تمامًا ما قلتِه عن الرواية أو أبطالها. إنه أمرٌ يتجاوز فهمي، ولا يتماشى مع فهمي للعالم. لكن…”
توقف ليلتقط أنفاسه.
“لقد علّمتِني بالفعل أن فهمي ومعاييري قد تكون خاطئة.”
“….”
“لذا أصدقكِ. حتى لو كان ذلك يعني إنكار ذاتي.”
ابتعد إيان برفق وضمّ وجهي بين يديه.
من خلال رؤيتي الملطخة بالدموع، اتضحت ملامحه.
كان ينظر إليّ بصدقٍ لا يتزعزع.
“أرجوكِ، لا تبكي بعد الآن. أتوسل إليكِ.”
شعرتُ بأن كلماتِه تلك وكأنها تعويذة، جعلت صدري يؤلمني.
تحطّم ما كنت أكتمه بشدة، وانفجرت شهقاتي التي كنت أبتلعها دون سيطرة.
“آه…”
“…إلويز؟”
انكمشتُ كطفلة، و دفنتُ نفسي بين ذراعيه.
“آه… يا لك من أحمق. كان عليك أن تقول انك لا تثق بي. لماذا…”
أيها الأحمق.
لقد أنكرتَ حياتكَ بأكملها.
كان عليكَ أن تغضب. لماذا تنظر إليّ و تحدثني بهذه الطريقة؟ لماذا تخبرني أنكَ تصدقني؟
كل الحزن الذي كنت أكتمه انسكب دفعة واحدة، مُبللةً كتفه.
“أنتَ حقًا… يا لكَ من أحمق. آهه.”
بيدي الشاحبتين المرتعشتين، مددت يدي لأحيط ظهره بذراعي.
رد إيان بشدّة وهو يعانقني.
“سيكون ذلك صعبًا جدًا عليّ. منذ البداية، لم يكن عدم الثقة بك خيارًا مطروحًا بالنسبة إليّ.”
شعرت بيده الثابتة تربت على ظهري، ففكرت في نفسي
ماذا عليّ أن أفعل؟ أنا أحبّ هذا الرّجل كثيرًا.
لا أريد أن أفارقه.
التعليقات