لم تخرج لوسيا من هذه الغرفة تحت الأرض طيلة حياتها. بخطواتها الصغيرة كطفلة، كان عرض الغرفة يُقطع بثلاث وعشرين خطوة، وطولها بخمس وثلاثين خطوة. تلك كانت مساحة الغرفة.
لم يكن للمكان الذي قضت فيه عمرها نافذة واحدة. نافذة صغيرة في السقف كانت بمثابة منفذ للضوء والتنفس، مثل فتحة تهوية، وكانت النافذة الوحيدة التي يدخل منها النور والهواء. أما الممر الآخر، فكان بابًا حديديًا سميكًا مغلقًا بإحكام، وتحت ذلك الباب فتحة يُدخل من خلالها الطعام، حيث كانت تُقدم لها وجبتان يوميًا عبر تلك الفتحة.
كان المعلم المنزلي يزور ثلاث مرات أسبوعيًا، لكنه كان يضربها لأتفه الأسباب، لذا لم يكن وقت التعليم ممتعًا أبدًا. أما زيارة أمها، التي كانت بمثابة المتنفس الوحيد، فكانت تحدث مرة في الأسبوع، فلم يكن أمامها سوى أن تنتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر.
كانت الطفلة دائمًا تتوق إلى الحنان. أحيانًا، كانت تشتاق بشدة إلى لمسة بشرية فتُمسك فجأة باليد الممتدة من خلال فتحة الطعام، لكن ما كان يعود إليها هو فقط صدٌّ قاسٍ ورفض لا رحمة فيه.
ذلك كان عالم لوسيا. كان كل ما لديها. مجرد انتظارٍ لأم تزداد هزالًا يومًا بعد يوم، في سجن محاط بالحجارة من كل الجهات، هو الأمل الوحيد الذي كانت تملكه.
ولكن حدثت مفاجأة. بالمعنى الحرفي، تحطم عالم لوسيا الضيق. بدأ الأمر بصوت ارتجاج في الجدار، ثم ظهرت شقوق صغيرة، وبعدها سقط الحائط بأكمله بصوت مدوٍ.
انقشع الغبار، وظهرت من خلال الظلام هيئة شخص. ولأول مرة منذ ولادتها، رأت لوسيا رجلًا بالغًا.
“من… أنت؟”
“لوسيا.”
كان الرجل الذي خرج من خلف الجدار يعرف اسمها. شعرت بالخوف فجأة، لكن الفضول تغلب على الخوف. فهذا الحدث القوي كان أول مرة يحدث شيء مميز في حياتها الرتيبة. لذا نهضت من السرير واقتربت من الرجل.
انخفض الرجل ببطء إلى مستواها، جاثيًا على ركبتيه. لم تكن لوسيا قادرة على التمييز بين الجمال والقبح لعدم نشأتها بين الناس، لكنها شعرت بغريزتها أن الرجل جميل للغاية. ربما يشبه الملاك الذي رأته في أحد الكتب.
لكن لون عينيه الأحمر كان يشبه شعلة متقدة، مما جعلها تشعر ببعض الخوف. كانت قد سمعت خلال دروس التعليم الديني أن الشياطين يملكون جمالًا يسحر الناس ويضللهم.
وفوق ذلك، كانت إحدى يديه تختلف عن أي يد بشرية رأتها من قبل. مغطاة بحراشف داكنة، ومخالبها حادة كالسكاكين، تبدو كأنها قد تسبب جرحًا عميقًا إذا ما خدشت.
ومع ذلك، كان الأمر غريبًا بحق. فلم تشعر بالخوف. لم تكن تعتقد أنه سيؤذيها. بل، حين نظرت إليه، شعرت براحة داخلية لا يمكن تفسيرها.
مدّ الرجل يده ببطء، وأمسكت لوسيا بها من دون تردد.
“آه…”
فاضت الدموع من عينيها. أدركت أن هذا الرجل الغامض هو أول من مدّ لها يدًا دون أن يرفضها.
يدٌ لم تدفعها بعيدًا. دفءٌ بشري ينبعث من لمسة متبادلة. كان دافئًا جدًا حتى انهمرت دموعها دون توقف. وعندما بدأت دموعها بالتساقط، احتضنها الرجل بشدة.
في تلك اللحظة، شعرت بحرارة تنبعث من صدرها. ما هذا الشعور؟ كانت الحرارة مثل الماء المغلي، لكنها لم تكن مخيفة أو مشوشة.
فهمت بغريزتها أنها بحاجة إلى تقبل هذا الشعور. وعندما أغمضت عينيها ببطء، شعرت كأن الأشواك التي كانت مغروسة في جسدها منذ زمن قد بدأت تذوب وتختفي.
غمرهما نور ساطع.
“هل نذهب الآن؟”
“…ماذا؟”
بمجرد أن أجابت لوسيا، بدأ الأرض تهتز والأشياء تتحطم. أغلقت عينيها بشدة من الخوف.
ثم، مع صوت مدوٍ، انبعثت ريح منعشة من مكان ما. دغدغت الرياح غرتها، وعندما فتحت عينيها، فوجئت بمشهد مذهل.
قام الرجل بتمزيق الحائط الحجري البارد والصلب كما لو كان يمزق ورقة. الحائط، الذي بدا وكأنه لن يختفي أبدًا، انهار تمامًا.
وشعرت لوسيا بسعادة غامرة لذلك. كما لو أن ثقلاً انزاح فجأة من على صدرها.
رغم أنها قرأت عن العالم الخارجي في الكتب، فإن رؤيته بعينيها كان شيئًا مدهشًا. هواء العالم الخارجي كان نقيًا، وازدحام الناس كان مفاجئًا.
الأغرب من ذلك كان رجلين يرتديان ملابس رمادية، يركضان نحوها والدموع تنهمر من أعينهما. أحدهما، وكان شيخًا أصلع الرأس، ركع عند قدمي لوسيا ووضع جبهته عليها صارخًا:
“يا قديسة!”
لم تفهم لوسيا ما المقصود بتلك الكلمات التي تُعبّر عن خضوعٍ تام، فاكتفت بإمالة رأسها بتعجب، تنظر حولها بذهول.
كانت وجوه الجميع مصدومة وهم ينظرون إليها، فرأت أمها. همّت برفع يدها لتُشير إليها، لكن الأم هزت رأسها على عجل.
كانت لوسيا فتاة ذكية، لذا أغلقت فمها ونظرت مجددًا إلى الكاهنين المنكفئين عند قدميها.
“أ، أرجوكما، انهضا.”
قالت ذلك بخوف لأنها لم ترَ وجوههم من قبل. فرفع الشيخ رأسه بصعوبة، والدموع في عينيه.
“أنا أمبروسيوس… أقف أمام القديسة.”
قال كلماته تلك وهو يكاد يبتلع دموعه. وكان الشاب بجانبه في حالٍ مشابهة.
“إنه معجزة. عرفنا الآن سبب قدومنا إلى هنا. الحاكم أنزل علينا رسالته بلقائنا بهذه القديسة!”
وبعدها، التصق الكاهنان جبينهما ببعض وبدآ في الصلاة. شعر كلاهما بفرح صادق أمام هذه المعجزة الحقيقية.
“ما الذي يحدث بحق السماء؟!”
لم تصدق الإمبراطورة كورنيليا ما تراه أمامها، وحدقت بوجوه متجمدة تعبيرًا عن التوتر والصدمة.
لم تستطع فهم لماذا ظهرت لوسيا في هذا المكان، ولماذا خرجت وهي تمسك بيد الأمير الأول.
حين يُفاجأ الإنسان بشدة، يُصاب بفقدان النطق. وهذا بالضبط ما حدث لكورنيليا. تدفقت آلاف الأسئلة إلى ذهنها، لكنها لم تستطع التفوه بكلمة. كيف علموا بوجود لوسيا؟ وكيف أزالوا الحاجز الذي يمنع القوة المقدسة؟
الأنظار كانت كثيرة. كانت تعلم أنها يجب أن تحافظ على هدوئها، لكن وجهها احمرّ كالجمر، ونظراتها كانت كأنها تطلق شرارات.
وكان من الواضح كوضوح الشمس أن من دبّر كل هذا هي تلك المرأة الماكرة الظاهرة هناك، زوجة الأمير، إيرينيا. وكلما فكرت في الأمر، شعرت بوخز شديد في مؤخرة رأسها، وامتلأت غضبًا.
“ماذا فعلتِ بابنتي بالتبني؟!”
تدخلت الإمبراطورة أخيرًا، لكن الكاهنين وقفا أمام لوسيا يمنعانها.
“ابنة بالتبني؟ إنها صاحبة قوة روحية عظيمة لا يمكن قياسها بمقاييس البشر. لا يصح أن تُسمّى مجرد ابنة بالتبني.”
“هي شخص لا يمكن أن تحكمه قوانين البشر. يمكننا الاعتقاد بأنها تجسدٌ جديد للقديسة.”
حاصر الكاهنان لوسيا بعزمٍ لا يتزعزع. فمنذ أن شاهدا القوة الروحية التي تفوق الوصف، لم يكن لديهما نية للتراجع مهما كان موقف الإمبراطورة.
“إنه معجزة أظهرتها القديسة.”
“القديسة؟”
“لقد جاءت لخلاصنا!”
وفي النهاية، تحت صيحات الجماهير المدوية، وتصفيقهم الحار، وتهليلهم، رُفعت لوسيا إلى مكانة القديسة تحت حماية الكهنة.
لم تتمكن الإمبراطورة من الاعتراف بأنها كانت من سجنت لوسيا، ولم يكن أمامها خيار سوى أن تشاهد بعينيها كيف تُنتزع الطفلة منها.
أرسل وفد التحقيق بالمعجزات رسالة عاجلة إلى الفاتيكان لطلب فرقة من الفرسان المقدسين لحماية هذه القديسة العجيبة المسماة لوسيا. ولم تعد مضطرة بعد اليوم للعيش في ذلك السرداب المظلم.
*********
لم تستطع الكونتيسة إلفيرا تصديق كل ما حدث.
“لوسيا… تحررت.”
ما زالت أصابعها ترتجف كلما تذكرت ما جرى في النهار. في البداية، بدا وكأن الإمبراطورة تشك بها، لكن سرعان ما اتضح أن الخطة كانت من تدبير زوجة الأمير، فلم يكن هناك مبرر للشك في الكونتيسة إلفيرا بعد ذلك.
جلست في غرفتها شاردة الذهن، تسترجع كل ما حدث وكأنها تحت تأثير مسٍّ.
“كيف علمت؟ كيف فعلت ذلك؟”
كانت زوجة الأمير مشبوهة للغاية. فقد عرفت من قبل بإصابة ظهرها، رغم أنها خبأتها جيدًا. كيف عرفت بالأمر؟
عيناها وقعتا على مرهم وُضع على منضدة الزينة، ذلك الذي قدمته لها زوجة الأمير بطريقة غريبة بعض الشيء. شعر قلب الكونتيسة بالاضطراب.
كانت تشك، لكن الحقيقة أنها تلقت المساعدة من زوجة الأمير. وهي التي أنقذت الطفلة التي ظنت الكونتيسة أن لا أمل في نجاتها.
“زوجة الأمير…”
إيرينيا من فلوريس. ربما كانت تعرف كل ما يحدث بالفعل. صحيح أن إلفيرا جاءت في الأصل بأوامر الإمبراطورة لتراقبها، لكنها كانت تعرف من البداية أن تلك المرأة ذكية للغاية. والآن، تبيّن أن ذكاءها الفذ لا يقل عن طيبة قلبها.
كانت تظن أن دموعها قد جفّت منذ لحظة ولادة الطفلة وسجنها، لكن الجرح العميق الذي ظل حبيس صدرها انفجر فجأة وحرر مشاعرها المكبوتة.
كان ذلك المرهم مجرد إناء صغير، لكنه اخترق قلب الكونتيسة بعمق. لم يكن بوسعها إلا أن تكون ممتنة لتلك المرأة التي واجهت كل هذا الألم من أجلها ومن أجل ابنتها.
ومع ذلك، كانت تدرك جيدًا أن وقت تحركها لم يحن بعد.
كان عليها أولًا أن ترفع عنها شكوك الإمبراطورة. أمسكت بالمرهم بقبضة حازمة، وعلى وجهها تعبير عازم.
التعليقات لهذا الفصل " 99"