شعرتُ بدفء حضن.
كان حنونًا ودافئًا إلى حد أن جسدي المتصلب بسبب التوتر بدأ يتراخى، وشعرتُ بتحرر من كل ما هو قاسٍ وجاف في هذا العالم.
يا لَروعة أن أبقى في هذا الحضن إلى الأبد.
— صغيرتي.
سمعتُ صوتًا ناعمًا يهمس في أذني. لمسة يده التي تمر ببطء على خدي كانت مليئة بالحنان فقط.
انتشر لحن همهمة هادئة.
كانت أغنية مألوفة، تهويدة قديمة جدًا.
لسببٍ ما، شعرتُ أنني على وشك البكاء. كان قلبي يخفق في توتر ممزوج بشعور بالفرح، لكن بعد لحظة شعرتُ بألم حاد كأنني لُدغتُ بنار.
كان السبب أن هناك من نظر إليّ وهو يبكي.
— أمي.
خرجت تلك الكلمة من فمي. وفي تلك اللحظة، أدركتُ.
آه، هذا حلم.
أنا الآن أنظر في حلم أحدهم من خلال بصيرة القضاء والقدر.
لأنني لم أُنادي “آنّاريزا” بتلك الكلمة أبدًا.
آنّاريزا لم تسمح لي بذلك مطلقًا.
لطالما راودتني تلك الأسئلة، لكنني لم أعبّر عنها قط.
في مرة، حين كنت صغيرة، سمعت الأطفال الآخرين ينادون أمهاتهم بهذا الشكل، فجربت أن أفعل مثلهم بلا تفكير.
لكن آنّاريزا عبست وقالت لي بجدية ألا أفعل.
حينها، لم يكن أمامي إلا أن أومئ برأسي بخوف.
رغم أنها كانت عصبية وحساسة أحيانًا، كنتُ أحبّها بلا شك.
لكن المرأة التي أحببتها كانت معقدة وقاسية، لذا لم أتمكن من الاقتراب منها بسهولة حين كنت صغيرة.
عندما كانت تصبح حادة الطباع، كنتُ أحاول ألا أثيرها.
كنت ألطف الأجواء وأتحدث بلين لأتجنب إغضابها.
وكنتُ… دائمًا أحاول إسعادها.
ظننتُ أنني يجب أن أساعدها، فقد كانت حياتها مليئة بالألم والكآبة.
أحيانًا، كنتُ أظن أن السبب يعود للمال.
أن تربي امرأة بدون زوج طفلاً مثلي كان أمرًا في غاية الصعوبة.
لذا خرجتُ لبيع الزهور بإرادتي، وأعطيتها المال.
حينها، ارتسم على وجه آنّاريزا تعبير لا يمكن وصفه بالكلمات.
لا أزال لا أستطيع نسيان ذلك الوجه؛ مزيج بين الابتسامة والتجهم.
لماذا نظرت إليّ بذلك الوجه؟
— صغيرتي…
شعرتُ بيدها تلمس جبهتي مرة أخرى.
وفجأة، كأن دموعي على وشك الانفجار، وشيء دافئ صعد إلى صدري.
تحرك جسدي رغم إرادتي.
— أمي، هل تتألمين؟
— لا، لا يا عزيزتي.
هزّت المرأة أمامي رأسها وربتت على خدي.
كانت حركة بسيطة، لكنها أعادت الحياة إلى صدري الجاف.
مددتُ يدي وأمسكت بيدها.
وسرى شيء دافئ من خلال اليدين المتشابكتين.
— لوسيا…
شعرتُ بأن الفجوة تزداد.
كأن عالمي بدأ بالتمزق.
وفجأة، لم أعد أرغب في رؤية المزيد.
وفي تلك اللحظة، تداخل ذلك الابتسام الدافئ مع صورة شخص آخر.
ثم فتحتُ عيني.
لم أفزع، فقد أدركتُ منذ مدة أنه كان حلمًا.
لكن الوجه الذي رأيته في النهاية… كان دافئًا جدًا.
كان هادئًا جدًا.
كان مملوءًا بحب عميق…
دون أن أشعر، سالت دموعي بهدوء.
وفي شعور بالفراغ، أمسكت بطرف الغطاء بيدي.
ربما لأنني أخيرًا فهمت شعور الفقد الذي لم أعرفه من قبل.
أغمضتُ عيني بسرعة لأطرد بقايا الدموع وأستجمع نفسي.
“رين؟”
رفع سيزار، الذي كان نائمًا بجانبي، رأسه.
وحين أدرك أنني كنت أبكي، نهض فورًا.
“ما الذي حدث؟”
“… كانت الكونتيسة إلفيرا…..”
تساءل وجهه عما كنتُ أعنيه.
لا بد أنه تفاجأ لرؤيتي أنهض باكية فجأة.
“لا، لا شيء… لا شيء أبدًا…”
لكنني لم أستطع احتمال الوحدة في قلبي.
لذا، عانقته.
وقابلني سيزار بعناق دافئ مماثل.
نعم، لديّ الآن من يشاركني دفء جسده.
وهذا وحده كان عزاءً كبيرًا…
شعرتُ أن الحزن الذي غمرني قبل لحظة قد تلاشى.
هكذا، في حضن سيزار، تنفستُ بهدوء وبدأت أترنم بالتهويدة التي سمعتها في الحلم.
استمع سيزار إلى الأغنية بصمت، وهو يربت على ظهري.
“سيزار، الكونتيسة إلفيرا كان لديها طفل…”
كانت أماً.
أماً محبة ومتفانية إلى أبعد حد…
“طفل؟”
“نعم، رأيته في الحلم.”
اسم الطفلة كان لوسيا.
قال لي ريشارد إن البصيرة تُظهر لي شيئًا مهمًا، حتى وإن لم تكن إرادتي متدخلة في الأمر.
“هل من الممكن أن تكون الطفلة هي المفتاح؟”
لا أعلم بعد.
لكنني شعرتُ أنها ستكون رابطًا مهمًا جدًا.
“طالما أن رين هي من تبحث، فكل شيء سيكون بخير.”
قالها وهو يدفن رأسه في ظهري.
أنفاسه لامست عنقي فشعرتُ بالدفء.
“شكرًا…”
هكذا، أمضينا الليل معانقين بعضنا لبعض.
*************
قيل إن لوسيا عانت من حمى شديدة.
حين علمت الكونتيسة إلفيرا بالأمر من خادمتها المقرّبة، أسرعت إلى جناح الياقوت الأزرق لتجد غرفة الطفلة.
كان هذا المكان إقامة مؤقتة وفرتها الإمبراطورة، وقد كانت إلفيرا تمكث فيه أحيانًا خلال حياتها في القصر.
لكن هذا لم يكن إلا غطاءً.
في الحقيقة، كان هذا المكان مخصصًا لسجن ابنتها لوسيا.
كانت الإمبراطورة قد أعلنت في السابق أنها ستكون عرّابة لوسيا.
لكن رسميًا، لوسيا الآن طفلة ميتة.
حتى زوج الكونتيسة يظن أن ابنته قد ماتت.
وقلة قليلة فقط — الإمبراطورة، إلفيرا، وبعض المقربين — يعرفون أن لوسيا حية تُحتجز كرهينة.
ركضت الكونتيسة نحو سرير الطفلة.
“لوسيا، كيف حالك، صغيرتي؟”
“أمي؟”
رفعت الطفلة وجهها الشاحب.
كانت في السادسة من عمرها فقط.
طفلة لا تزال تشتاق إلى حضن أمها.
لكن القدر لا يرحم.
كانت لوسيا تحمل سمة واحدة، مثل اسمها.
الضوء الذي تمتلكه… كان “القوة المقدسة”.
حتى قبل أن تولد، كانت الإمبراطورة قد أدركت تلك القوة.
وربما كانت تلك اللحظة بداية استغلال الإمبراطورة للكونتيسة.
في البداية، أغرتها بكلمات ناعمة.
طلبت منها أن تصبح وصيفة لها، ووعدتها أن تكون عرّابة لابنتها.
آنذاك، كانت إلفيرا مجرد خادمة حقيرة، فلم تستطع رفض عرض الإمبراطورة كورنيليا.
لكنها لا تزال حتى الآن تندم على ذلك القرار.
كيف لها أن تعارض رغبة الإمبراطورة؟
وفي النهاية، أنجبت الطفلة تحت حماية الإمبراطورة.
القوة المقدسة تشبه السحر لكنها تختلف عنه.
هي قوة تعترف بها الكنيسة.
تُستخدم لمقاومة قوى الشياطين.
وبفضلها، تمكّن البشر من الانتصار على الشياطين، وارتفعت مكانة الكنيسة حتى أصبحت ذات نفوذ هائل في الإمبراطورية.
بعد ذلك، بدأت الكنيسة في جمع من يملكون تلك القوة وتدريبهم ككهنة، وأولئك الذين امتلكوا قوى أعظم كانوا يُقدّسون كقديسين.
أما لوسيا… فقد وُلدت بقوة خارقة.
والمأساة كانت في أن وراء إلفيرا، كانت تقف الإمبراطورة كورنيليا.
توجد طرق عدة لتعزيز السحر الأسود، ومن أكثرها فاعلية: ألم الآخرين.
وخاصة ألم من يمتلكون قوة مقدسة عظيمة؛ إذ إن تعذيبهم يُضاعف التأثير.
كورنيليا لم تكن لتفوت مثل هذه الفرصة.
“آسفة، صغيرتي…”
كانت الكونتيسة تحمل ألم ابنتها في قلبها.
لم تستطع نسيان حال ابنتها، التي لم تخرج من هذا القبو الضيق طوال حياتها.
كان الأمر أشبه بشظية زجاجية تمزق قلبها.
ولو كانت تلك الشظية تغرس في جسدها هي، لكان أسهل.
لكن الواقع كان قاسيًا على كلتيهما.
لم يكن لديهما القوة للهروب من قبضة الإمبراطورة.
فحاولت إلفيرا أن تحمي ابنتها من الداخل.
ولهذا، أصبحت كلب الإمبراطورة المطيع.
نفّذت لها كل ما تطلبه، مهما كان دنيئًا، حتى وإن لطّخ يديها بالدم.
لأنها لو لم تفعل، كانت الإمبراطورة ستعذّب لوسيا.
“أمي، يؤلمك هنا، أليس كذلك؟”
مدّت الطفلة يدها الصغيرة.
“لا، لا تفعلي!”
لكن قبل أن تتمكن إلفيرا من إيقافها، مسحت الطفلة ظهرها، وسرعان ما تدفقت القوة المقدسة من أناملها.
تلاشى ألم الجلد المجلود.
لكن إلفيرا شعرت أن الطفلة تلقت الألم عنها.
والسبب كان الوشم المنقوش على جسدها.
التعليقات لهذا الفصل " 93"