الفصل 83
“سـ، سيزار. دعني الآن.”
وسط أصوات الهتاف المشاكسة وتصفيق الناس، شعرت أنني قد أموت من شدة الإحراج. لذلك نظرت إلى ريشار بعينين تحملان شيئًا من العتاب. كان يحمل برناديتا المسترخية تمامًا على كتفه.
وعندما فكرت في الأمر، تساءلت إن كانت برناديتا بخير. عندها اقترب ريشار نحونا.
“يبدو أن سمو الأمير قد هدأ كثيرًا الآن.”
“آه، نعم…”
كان الأمر محرجًا للغاية، لكن كما قال ريشار، حينما قَبّلته هدأ بالفعل. بعد ذلك، قال ريشار إن لديه شيئًا ليتأكد منه مع سيزار، وأخذه جانبًا وبدأا يتحدثان معًا.
وسرعان ما اقترب فيتّوريو مني.
“بما أن سمو الأمير قد هدأ الآن، يجب على سمو الأميرين الآخرين العودة إلى القصر الإمبراطوري.”
لكنني هززت رأسي رفضًا.
“ما زالت أختي لم يستيقظ بعد.”
ووجهت أنظار الجميع نحو ريشار في آنٍ واحد.
“لقد انفجرت قواها السحرية فجأة، لذا لا يمكن علاجها بالطب التقليدي. يجب أن آخذها إلى مختبري.”
لم أستطع أن أرسل برناديتا الصغيرة وحدها إلى ذلك المختبر المشبوه، حيث تنتشر فيه أشياء غريبة ومريبة.
“سأرافقها بدور الوصي.”
“إذاً، سأرافقكما أيضًا. بدور الحارس لسمويكما.”
نظرت إلى ريشار بنظرة محرجة، لكنه أومأ برأسه دون أن يظهر أي تعبير خاص.
وفي النهاية، توجهنا جميعًا إلى مختبر ريشار.
*********
منذ فترة، كان سيزار يعاني باستمرار من صوت في رأسه.
وفي الآونة الأخيرة، زادت الأيام التي يحاول فيها ذلك الصوت السيطرة عليه.
ذلك الصوت كان يقوده دومًا نحو طريق الشر. أو ربما كان ذلك هو طبيعته الحقيقية. أصل الوحش القذر والحقير بداخله.
لقد أحب رين. أحبها لدرجة أنه لم يكن يحتمل أن تبتعد عنه ولو قليلًا. لو أمكنه، لكان حبسها. لو كانت هناك وسيلة ليخفيها إلى الأبد في مكان لا يعرفه سواه…
لم يكن يحب رؤيتها تبتسم لغيره. لم يكن يحتمل أن تُظهر اهتمامًا بأي شخص آخر. بل أراد احتكار حتى نظراتها.
لم يكن يستطيع التحمل. لم يكن يريد أن يبتعد عنها ولو قليلًا. لم يكن مستعدًا للتنازل ولو لذرة. أراد أن يعيش في عالمٍ لا يوجد فيه سوى هو ورين، فقط.
― هناك طريقة واحدة فقط.
كان سيزار يفهم ما يعنيه ذلك الصوت. لكن مجرد التفكير في الأمر كان يُخيفه ويرعبه.
― لماذا تظل صامتًا؟ هيا، لنجرّب معًا.
ذلك الصوت لم يتوقف عن إيقاعه في المحن.
― ألا ترغب في امتلاك رين؟
عند هذه الكلمات، شعر بأن شعر جسده ينتصب. قشعريرة سرت في جسده. ربما لأنه تذوق ذلك من قبل، لذا بات يشتاق إليه أكثر. عندما يُغمض عينيه، تعود إليه ذكريات ذلك اليوم. إحساس جسدها المرتعش تحته، صوت بكائها، وجنتاها المتوهجتان، وزفيرها الحار. لعابه بدأ يسيل دون وعي.
كانت دائمًا تفوح منها رائحة طيبة. كرائحة الأعشاب البرية أو زنبق الوادي. كانت عطرة، منعشة، لا يمكن تصور أن إنسانًا قد يكون كذلك. لو أمكنه، لألصق نفسه بها طوال اليوم، وابتلع كل ما هو حلو فيها.
― فقط مدّ يدك قليلاً، وستحصل على كل شيء.
لكنه لم يفعل. لا، لم يستطع أن يفعل.
― ما بالك، أتبقى متحملًا كالأبله؟
هز رأسه بعنف. كان عليه أن يسد أذنيه حتى لا يسمع ذلك الصوت.
― ممَ تخاف إذًا؟
نعم، ذلك الصوت يعرفه جيدًا. لقد كان خائفًا فعلًا. لم يكن يعرف كيف يشرح ذلك بالكلمات، لكنه كان يعلم في أعماقه. أنه إن فعل ذلك، فإن رين ستتركه إلى الأبد.
مجرد التفكير في ذلك كان يُمزق صدره ويجعل قلبه على وشك الانفجار. شعر وكأن الأرض تنهار تحت قدميه.
كان يخاف من فقدان رين أكثر من أي شيء. لكنه في الوقت نفسه، كان يتلذذ حتى بمثل هذه الأفكار.
ربما لأنه مهما كان الشعور الذي يأتيه منها، فإنه يكون سعيدًا به.
لم يهم إن لم يكن شعورًا لطيفًا أو دافئًا. حتى لو كانت مشاعر سلبية – كراهية، اشمئزاز، احتقار – طالما أنها مشاعر رين، فكان يستطيع تقبلها.
بل ربما كان يتوق لرؤية مثل هذه المشاعر. كان يتساءل عن شكلها وهي تبكي وتصرخ. كم ستخاف؟ كيف ستكون رائحتها؟ أي تعبير ستتخذه؟ فضوله كان بلا نهاية.
― هذا لأنك وحش قذر. حتى كراهيتك من الآخرين تجعلك سعيدًا. وهذا دليل على طبيعتك الحقيرة.
“لا، هذا ليس صحيحًا.” هز رأسه مجددًا بقوة. “أنا لست وحشًا.” أراد أن يصرخ بذلك.
لكنه لم يكن متأكدًا.
لأن ذلك الصوت كان دائمًا يهمس له بما يريده بالفعل.
عضَّ لسانه من الداخل بقوة. طعم الدم انتشر في فمه. كان عليه أن يصمد. لا يمكن أن يُدنّسها بمثل هذه الأفكار.
رين كانت الشيء الوحيد الذي يبقيه عاقلًا. وكأنها شعرت بحالته غير الطبيعية، كانت تقدم له جسدها كل ليلة، وتشاركه دمها.
حتى لهذا الوحش، كانت تعطي دمها. كانت طاهرة إلى هذا الحد. كان يشعر أنه وُلد من جديد بفضل دم رين.
كانت هي خالقته، ومحبوبته، ومعبودته التي يستحق أن يركع لها ويقدّسها (استغفر الله يزم🫠). ولهذا، كان عليه أن يقاتل بشراسة. ألا يستسلم لذلك الصوت. ألا يُهزم أمامه.
ثم، خرج إلى العالم الخارجي بعد مدة طويلة. قالت له رين إنه مهرجان. وكان المهرجان ممتعًا. في الحقيقة، كل شيء مع رين كان ممتعًا.
لكن هناك، واجه قوة هائلة. فتاة صغيرة بدت ضعيفة جدًا.
بفطرته، أدرك سيزار ماهية تلك القوة. لكنها كانت مقيدة بشيء ما، لذا لم تتحرر بعد. تُرى، لماذا لا يرى الآخرون هذا القيد؟
― ماذا تنوي أن تفعل؟
عاد الصوت مجددًا، وكان منزعجًا للغاية. وفي تلك اللحظة، أدرك سيزار الحقيقة. هو أكثر من سمع ذلك الصوت على مدار عشر سنوات. ولهذا، كان يستطيع تمييز مشاعره من مجرد نبرة صوته.
ولم يكن في تلك اللحظة مرتاحًا، ولا واثقًا، بل كان منزعجًا بشدة.
“أنا قادر على إصلاحها.”
جسد الفتاة الصغيرة كان محجوبًا بشيء ما. إن تمكن من إزالة هذا الحاجز، فسيتحرر القيد.
― لا تفعل شيئًا لا داعي له!
اليوم، بدا الصوت مستعجلاً بشكل خاص. ولهذا، شعر سيزار بطاقة أكبر. كان صوتًا لطالما عذّبه، لكن إحساسًا قويًا راوده أن عليه فعل ما لا يريده ذلك الصوت.
فتقدم للأمام. رغم اندهاش الجميع، وقف أمام الفتاة وأمسك يدها.
― لا! قلت لك لا تفعل!
ازداد صوت الصوت اضطرابًا. لكن ذلك منح سيزار يقينًا أقوى. أنه يفعل الصواب. واتبَع غريزته.
لقد مر أكثر من عشر سنوات منذ أن نزلت عليه لعنة التنين المجنون. ولو كان شخصًا عاديًا، لكان مات منذ زمن. لكنه هو، رغم استقباله الكامل لتلك اللعنة، ظل حيًا حتى الآن.
ولهذا، كان قادرًا على استخدام جزء من قوة التنين المجنون. صحيح أنه لم يكن متمكنًا بعد، ولم يكن يعرف آلية استخدامها، لكن كان يستطيع استعمالها أحيانًا.
تلك القوة كانت قادرة على تحريك الكون، إيقاف النجوم، استدعاء الحاكم القديم، بل وتغيير مصير إنسان.
والآن، استخدمها لتحرير القيد في جسد الفتاة. انفجرت أنوار ذهبية من كل الجهات. القوة السحرية الهائلة المحبوسة في الجسد الصغير كانت محتجزة بعائق غير مرئي.
― اللعنة… أيها اللعين…
بدأ صوت الصوت يضعف شيئًا فشيئًا، وراح يتذمر بصوت خافت.
― تظن أن شيئًا سيتغير بهذا؟
حتى النهاية، ظل يلقي الشتائم. تارة يهدده، وتارة يتوسل إليه.
لكن بعد أن أشعلت برناديتا النيران في كومة الحطب الهائلة، اختفى الصوت تمامًا ولم يُعد يُسمع.
مثل لهب القديسة الأسطورية الذي يحرق كل ما هو شرير ومدنس في المهرجان، أزال لهيب “بيرنال إكوينوكس” العظيم كل سوء وطرد النحس.
********
المكان الذي فتحت فيه برناديتا عينيها كان مظلماً جداً وتفوح منه رائحة عفنة.
“أين… أنا؟”
ما إن نهضت ببطء وجعلت نفسها تجلس، حتى وقعت عيناها مباشرة على جرة زجاجية تحتوي على جثة أرنب. ولم يكن هذا كل شيء. بل كانت هناك أيضاً ثعابين، وعقارب، وحيوانات محنطة غريبة بأشكال مريبة، ونباتات عجيبة ومخيفة لا تُعرف ماهيتها… لم تستطع هذه الطفلة الصغيرة أن تحتمل أكثر، فصرخت فجأة بصيحة حادة:
“آآاااه!”
عندها فُتح الباب بعنف ودخل رجل إلى الغرفة.
“م-من أنت…؟”
التعليقات لهذا الفصل " 83"