الفصل 80
كانت سيليستينا تدرك جيدًا مدى خطورة إرسال برناديتا إلى ذلك المكان. لم تكن ترغب أبدًا في التضحية بطفلة وضعتها في بطنها بهذه الطريقة، لكن… لم يكن أمامها خيار آخر. قد تمرض تلك الطفلة بشدة بعد هذه المهمة، أو ربما… قد لا تعود أبدًا.
لقد تهيأت لهذا الاحتمال منذ وقت طويل. برناديتا لم تكن قوية من الأساس. وفقًا لأقوال الساحر، لم يكن مقدرًا لها أن تتجاوز العاشرة من عمرها. إذًا، كان من الأفضل قطع كل تعلق بها منذ الآن.
الجميع وصفوها بأنها أم قاسية لا قلب لها، ولعلهم كانوا على حق. ولهذا السبب لم يكن بوسعها سوى استخدام ابنتها كأداة.
“يا لها من بنات رائعات أنجبتهن”،
ترددت كلمات الإمبراطورة في ذهنها. بنات؟ كيف يمكنها اعتبار تلك اللقيطة ابنة لها!
ابتسمت سيليستينا بسخرية، ثم سرعان ما عضّت على شفتها غيظًا.
“كيف يمكن أن يحدث هذا…”
فكرت في تلك اللقيطة مجددًا، وأحست بالغيظ يتصاعد بداخلها.
تلك البنت، إيرينيا، كانت رمزًا للخيانة والعار، وكل ما هو دنيء وبغيض. كلما تذكّرتها، ازداد حقدها. كانت تلك الفتاة مغرورة، مليئة بالمكر والخداع.
لكن الأمر لم يتوقف عندها. كان عليّ أن أتذكر أصل الحكاية. السبب الحقيقي لكل هذه الكوارث هو تلك الخادمة الحقيرة: أناريزا.
كانت تلك المرأة، رغم تواضع منصبها، ذكية وسريعة البديهة. تعلّمت القراءة والكتابة خلسة، وكانت جميلة ولبقة، وتعرف كيف تسرق القلوب. ولهذا أحبها الجميع، حتى زوجي. حتى أنا كدت أنخدع بها.
كانت بارعة في التمثيل، تذرف الدموع فتبدو مسكينة مثيرة للشفقة، فتستدر عطف الناس. بل إنني، بدافع الشفقة، عاملتها يومًا بلطف، وما كان منها إلا أن تجرأت على سلب زوجي مني.
لكن أكثر ما أثار حنقي أنها كانت تشبهني إلى حد كبير. من لون الشعر والعينين، حتى القامة والملامح، حتى ليظنّ الناظر إلينا أننا شقيقتان.
لم أكن أحب زوجي جسبارو حبًا عظيمًا، لكن فكرة أنه في الفترة ذاتها جعل تلك الخادمة حاملاً بينما كنت أنا حاملًا أيضًا… لم أكن أتخيل أن يبلغ بي الإذلال هذا الحد.
“أناس دنسون!”
ما زالت ذكريات ذلك اليوم تحرق صدري. لم يكد يفصل بين ولادة طفلتي وبين ولادة تلك اللقيطة سوى شهر واحد.
لقد كان ذلك خيانة صادمة لا تُغتفر. تذرّع زوجي وقتها بأنها كانت زلة، وأن تلك الخادمة تشبهني كثيرًا، فحسبها بديلًا عني.
أي بديل هذا؟! كيف لخادمة حقيرة أن تكون بديلًا لابنة أسرة نبيلة مثلي! نحن من عالمين مختلفين تمامًا! كيف تجرأت على أن تتخطى حدودها!
لذلك، أمرت الخدم بإذلالها وطردتها إلى الشارع شر طردة.
حتى لحظة خروجها من القصر، كانت ترمقني بنظرات حقد، تشتم وتقهقه بضحكة مخيفة لا تزال ترنّ في أذني حتى الآن.
“هاهاها، سيأتي يوم تندمين فيه!”
حتى وهي تحمل رضيعها، كانت مرفوعة الرأس، وكأنها لم ترتكب أي ذنب، بل وكأنها تشمت بي. لقد كانت كالكابوس، أشبه بالشيطان نفسه.
ولهذا حرصت على أن تعيش حياة بائسة خارج القصر. تأكدت ألا تجد عملًا في أي مكان. لم يكن يكفي أن أسلبها حياتها.
عندما فكرت مليًا، اكتشفت أن أفضل طريقة للانتقام منها كانت عبر قتل ابنتها التي أنجبتها.
لو لم تمت أناريزا بتلك الحمى اللعينة، لرأيت وجهها يشحب أكثر وأكثر.
قال البعض: حتى لو كانت من غير رحمك، ألم تربّيها؟ ألا تستحق منك الرحمة والشفقة؟
يا لسخافة هذا الكلام. كيف يمكن أن أعتبر طفلة لم ألدها ابنتي؟!
كنت أمًا لطفلين فقط. أما الثالثة، فلم تكن أبدًا ابنتي. وإن كان عليّ التضحية بأحدهما، فلن أتردد لحظة في التضحية بتلك اللقيطة لحماية طفلتي الحقيقية، جوفينيتا، أغلى ما أملك.
لذلك قدّمت تلك اللقيطة قربانًا للإمبراطورة. حتى لو مزقها الوحش الذي تخشاه الإمبراطورية إربًا، فهذا ليس شأني.
ولو لم أفعل ذلك، لكان عليّ التضحية بجوفينيتا نفسها.
كان هذا خياري الوحيد لحماية ابنتي الحقيقية والانتقام من تلك الخادمة.
أي أم لا تحب أطفالها؟! لأجل أطفالي، كان عليّ أن أكون أقسى وأشرس من أي شخص. لأحمي طفلتي، كان لا بد أن ألقي طفلة أخرى من حافة الهاوية.
لقد كان ذلك بدافع حب الأم.
“نعم، أنا أم قاسية.”
وبما أنني كذلك، فقد قررت أن أبلغ حدّ القسوة بلا رجعة، حتى لو وُصفت بأفعى سامة. حتى لو بدوت أقل إنسانية.
لا يهمني إن بصقوا في وجهي أو رجموني بالحجارة. لقد جعلوني هكذا. بسبب خياناتهم المتكررة، تحولت إلى حجر، إلى صخر لا يعرف الرحمة.
عبثًا كانت تعبث بخصلات شعرها الأشقر الباهت. شعر بدا كأنه ماء قد نفد لونه بين أصابعها.
**************
أمسكتُ بها. كان يوم المهرجان، ولهذا كانت هناك الكثير من الأكشاك الليلية التي تظل تعمل حتى وقت متأخر.
كان لقب برناديتا هو “بيرني”، وكنتُ أحيانًا أدعوها بدلالٍ “أرنبتي الصغيرة”.
“يا أرنبتي الصغيرة، هل أنتِ بخير؟ هل تشعرين بأي ألم؟”
“لا، أختي. حتى وإن جريت هكذا، فأنا بخير تمامًا.”
كنت قد سألتها هذا السؤال مرات عديدة، وسمعتُ منها الجواب نفسه في كل مرة، لكن قلبي لم يطمئن بعد، لذا كنت بحاجة لأن أتأكد منها مرةً أخرى.
“آسفة، ما زلتُ لا أستطيع تصديق أن كل شيء بخير.”
احتسيتُ جرعة من كأس الجعة الذي طلبته، وأمسكتُ خصلةً من شعري ولففتها حول إصبعي السبابة. كان ذلك عادةً تظهر عند شعوري بالتوتر.
وحين رأتني برناديتا على هذه الحال، ابتسمت ابتسامة عريضة وصفقت بيديها.
“آه، أختي أيضًا تفعلين هذا؟”
“أفعل ماذا؟”
“لفّ شعرك هكذا بإصبعك. تمامًا نفس الشيء.”
“وكأنك تقصدين أنني أشبه شخصًا ما. من تقصدين؟”
سألتها وأنا أرفع حاجبي في دهشة، فأجابت ببراءة:
“أمي.”
في تلك اللحظة، لم أعرف ما الذي ينبغي أن أقوله، فاكتفيت بابتسامة مترددة، ثم رفعت يدي وربتُ على جبينها برفق.
كانت صغيرة جدًا، في عمرٍ ما زالت بحاجة فيه إلى لمسة الأم. ربما كان من الطبيعي أن تبحث في ملامحي عن شيء يذكرها بأمها.
كنت أعلم جيدًا كيف تنظر الدوقة (والدة برناديتا بالتبني) إلى هذه الطفلة. بل كنت أظن أن برناديتا نفسها قد أدركت ذلك أيضًا. لذلك لم أجد أمامي إلا أن أجيبها:
“نحن عائلة، ولهذا من الطبيعي أن نشبه بعضنا.”
حينها رسمت برناديتا ابتسامة صافية على وجهها.
“أحقًا تعتقدين ذلك؟”
“طبعًا. بالمناسبة، كيف فعلتِ ذلك الآن؟ كيف أوقدتِ الشعلة بتلك السهولة؟”
كنت في الحقيقة أتساءل عمّا إذا كان ذلك بفعل حيلة ما، لكن برناديتا هزّت رأسها.
“لا أعرف تمامًا. فقط شعرتُ أن النار يجب أن تكون هنا، وفجأة اشتعلت.”
“حقًا؟!”
أومأت برأسها مؤكدة. فتقلصت عيناي قليلًا، وتساءلت في داخلي: أليس هذا ما يطلقون عليه سحرًا أحيانًا؟
“على كل حال، لماذا أنتِ هنا أصلًا؟ لماذا لستِ في القصر الإمبراطوري؟”
“آه، حسنًا…”
ترددتُ قليلًا، إذ لم أدرِ كيف أخبرها أننا تسللنا سرًّا من القصر الإمبراطوري لتجنّب الأنظار.
في تلك اللحظة، تقدّمت ديلفينا خطوة، وخفّضت صوتها قليلاً، لترسم على وجهها تعبيرًا ماكرًا قبل أن تقول:
“يا آنسة، في الحقيقة نحن في مهمة سرية.”
“مهمة… سرية؟”
رفرفت عينا الطفلة ذات الثانية عشرة بفضول، وهي تمعن النظر فينا.
يا لها من فكرة رائعة! كانت ديلفينا دومًا سريعة البديهة.
تنحنحتُ، ثم أضفتُ بنبرة جدية:
“صحيح، فالإمبراطورية مهتمة بمعرفة كيف يعيش شعبها، ولهذا خرجنا نحن بأنفسنا نراقب حياة الناس هنا.”
“واو! مذهل!”
واحمرّ خداها خجلًا. عندها أردفتُ بنبرة صارمة:
“لكن، تذكري. وجودنا هنا مهمة سرية، ولا ينبغي لأحد أن يعلم بها.”
فأومأت برناديتا برأسها بوجه جاد، وقالت:
“حسنًا! لن أخبر أحدًا أننا التقينا اليوم.”
لاحقًا، سأضطر لتنسيق أقوالي مع بورتونا والطبيب الخاص، لكن على الأقل بدا أني نجحت في تهدئة الموقف الآن.
وبدا أن برناديتا وحدها كانت تمثل الخطر الوحيد، فإذا صمتت هي، فلن يتسرب شيء.
“حسنًا، هذا وعد؟”
“أجل! وعد!”
تبادلنا تشابك الخنصر وضحكنا.
وفي تلك اللحظة…
التعليقات لهذا الفصل " 80"
بس لو تدرين حجم الخدعة إلي عايشة بيها يا دوقة اناريزا انتقمت منك شر إنتقام