“سيزار.”
“أوووه…”
“سيزار.”
“أه…”
لم أملك بعد الشجاعة الكافية لفك السلاسل المربوطة بجسده. لكن ترك الأمور على حالها لم يكن خيارًا. ومع تكرار النداء، بدأت حدّته تخفّ شيئًا فشيئًا عن ذي قبل.
“سيزار.”
في المرة الثالثة، توقف عن التذمّر والتأوّه. مددت يدي ببطء ولمست جبينه، ثم خاطبته بصوت حازم قليلًا:
“ألست جائعًا؟”
“همم…”
لم أستطع الجزم إن كان صوته تأكيدًا أم استمرارًا في التذمر.
مررتُ يدي في شعره برفق شديد، ببطء يكاد يثير الضيق.
“أنا جائعة. أعتقد أننا لم نأكل شيئًا منذ البارحة، أليس كذلك؟”
“…آه…”
كنت جائعة حقًا. منذ البارحة لم أتناول ولو قطعة بسكويت واحدة، فقد كنت مشغولة بوضع زينة العروس وشدّ الكورسيه استعدادًا للفستان. واليوم، ومنذ الصباح الباكر حتى هذه اللحظة، لم أشرب حتى جرعة ماء، منشغلة بالإجابة عن سؤال واحد: لماذا لا أزال على قيد الحياة؟
بمجرد أن استوعبت ذلك، بدأ بطني يقرقر بصوت مسموع. اتسعت عينا سيزار من الدهشة عند سماعه ذلك.
“سمعت الصوت، أليس كذلك؟”
“…نعم.”
نقلت يدي إلى السلاسل التي كانت تقيد جسده.
“سأفكّها الآن.”
ارتجف سيزار بحذر عندما لمست السلاسل.
“أه!”
“لا بأس، لا تخف.”
كما قلت له في الليلة الماضية، كررت عليه أن كل شيء سيكون على ما يرام، مرات ومرات، حتى هزّ رأسه بالموافقة.
“قد يصدر صوت أثناء الفك.”
كنت أذكر كم كان متوترًا عند سماعه صوت الرعد ليلة أمس. يبدو أنه شديد الحساسية تجاه الأصوات. على عكس الكمّامة التي كانت مزودة بقفل يسهل فكه، بدت السلاسل صعبة التفكيك دون إصدار صوت.
“سيكون الأمر… على ما يرام، أليس كذلك؟”
أغمض سيزار عينيه للحظة ثم فتحهما، ففهمت ذلك كعلامة للموافقة.
“إذًا، سأبدأ.”
وضعت يدي على السلاسل، لكنها لم تتحرك. لم تصدر سوى أصوات احتكاك معدني مزعجة.
ومع كل صوت، كان جسد سيزار يرتجف خوفًا.
“تبًا…”
لم أكن قوية، ومحاولة فك السلاسل بهدوء كان أمرًا شاقًا.
ثم، حدث كل شيء فجأة.
شدّ سيزار جسده بقوة، فانكسرت السلاسل بصوت مكتوم. وبمجرد أن تحرر، تحرك بخفة خاطفة.
“آه!”
أطلقت صرخة قصيرة من المفاجأة، وسرعان ما وضعت يدي على فمي. نظرت نحوه، فوجدته قد انسحب إلى زاوية من غرفة الطعام، منكمشًا خلف الستائر، كأنه يخشى أن يُرى.
كم من الألم عاش حتى يصبح على هذا القدر من الحذر والريبة؟
“سيزار.”
“…أووووه…”
كان لا يزال يرتجف، وعيناه تملؤهما الحذر والارتياب.
ماذا أفعل الآن؟ لا يمكن الحديث معه بهذه الحال. يجب أن أقترب منه أولًا.
“أوووو…”
واصل إصدار تلك الأصوات العميقة من حلقه، ما ذكّرني بجنون ليلة أمس، فأصابني الذعر مجددًا.
كانت زجاجة المهدئ التي سلمني إياها أحد الجنود لا تزال في جيبي. كنت أشعر بوجودها كلما تحركت، تحتكّ بفخذي وتذكرني بها.
تسلل العرق البارد إلى جبيني. أصوات المعدن وصوت الوحش الذي لا يشبه صوت البشر… كانت كلها مرعبة.
“ننصحك بعدم لمس الكمامة أو السلاسل.”
هل ارتكبتُ خطأً؟ ظننت أنني أستطيع التواصل معه، فهل كنت متغطرسة؟ هل كان يجب أن أستمع إليهم؟
“هذا من أجل سلامتكِ، يا صاحبة السمو.”
إن كنت قد أخطأت، فالثمن سأدفعه أنا. وهذه المرة، قد يكون الثمن حياتي.
“آآآه، أاااه!”
فجأة، أمسك سيزار رأسه بكلتا يديه وأطلق صرخة ألم مدوّية، جعلتني أقشعرّ.
“ماذا بك؟ ماذا يحدث؟”
لقد فقد أعصابه بهذه الطريقة من قبل، أليس كذلك؟
“آآه…”
استمر في التأوّه بألم، بينما صوته يختلط بصوت مخالبه تخدش الأرضية الحجرية، ثم صوت فرقعة عظامه وهي تنكسر وتتشكل مجددًا. وبعد لحظات، تجمّد جسده تمامًا.
شعور مروّع اجتاحني.
شعرت بشيء قد تغيّر.
لم أكن قادرة على تحديده، لكنني أيقنت أن الأمر لم يعد كما كان.
رفع سيزار رأسه ببطء، وعيناه… لم تكن فيهما أي مشاعر. بلون أحمر متوهج، لكنه بارد كجليد لا يذوب.
“آه…”
بلا وعي، بدأت أبحث في جيبي عن زجاجة المهدئ. وما إن أمسكتها، حتى توقفت فجأة. إن أعطيتُه هذا، فما الفرق بيني وبين من كبّلوه؟
بينما غرقتُ في بحر من الندم والاحتقار الذاتي…
“آآآه!”
سمعت صوتًا مرعبًا يخترق الهواء. تمزق كمّ قميصي، وشعرت بحرارة وألم على ظاهر يدي.
“آه، أااه…!”
نظرت إلى يدي، فرأيت جرحًا بطول كف. الألم كان فاقعًا، أشبه بحرارة تغلي في عروقي.
حاولت تهدئة ارتجاف يدي بصعوبة. نعم، هذه المرة، كان الخطأ خطئي بالكامل.
لكنني كنت خائفة.
كيف يمكن لإنسان أن يصنع مثل هذا الجرح العميق بيده المجردة؟
نظرت إلى مخالبه. كانت إحدى يديه مختلفة عن الأخرى — طويلة، قاتمة، مخيفة، كأنها يد وحش.
كان يحدق بقطرات الدم المتعلّقة بأظافره، ثم لعقها ببطء.
تذكرت ما جرى الليلة الماضية. حين فقد وعيه وهاج، ولم يبدِ اهتمامًا إلا عندما سال دمي.
“…”
كان عليّ ترتيب أفكاري وسط هذه الفوضى الذهنية.
واتخذت قرارًا. لم أكن واثقة تمامًا، لكنه رهان يستحق المحاولة، استنادًا إلى ما حدث البارحة عندما استعاد وعيه.
“هاك.”
مددت له يدي المجروحة.
بدا وكأنني فاجأته.
وربما كان هذا ما منحني بعض الشجاعة. نطقت بوضوح:
“هل هذا ما تريده؟”
أصدر صوتًا يشبه التأكيد. عندها قبضت على يدي بقوة حتى يخرج المزيد من الدم، متجاهلة الألم.
“سأمنحك إياه.”
كانت يدي ترتجف بشدّة. إحساس غريب كان يملؤني، كما لو أن سربًا من النحل يتحرك بداخلي.
ضغطت على أسناني كي لا أفقد الوعي من الدوخة.
بدأ الدم يقطر من يدي، وكان لزجًا، كثيفًا. أخرج سيزار لسانه، وراح يتبعه.
الدم…
بعض الكائنات تتغذى على دماء غيرها لتبقى حيّة، أليس كذلك؟
ربما، سيزار واحد منهم.
ربما، لعنة التنين التي ابتلي بها حوّلته إلى كائن يتغذى على دم البشر.
“آه…”
أحسست بألم حاد أنساني تلك الأفكار. كان يعضّ جرح يدي برفق، يلتهمه ببطء.
لو رآه أحد من بعيد، لظنه فارسًا يقبّل يد سيدته.
لكن، هناك أشياء لا تُفهم إلا عن قرب.
كثيرٌ من الأشياء لا تبدو جميلة إلا من بعيد.
****
كان من حسن الحظ أنّه لم يكن هناك أحد في هذا المكان. رؤية الأمير وهو يتلهّف على دمي بذلك الشكل… لو اكتشف أحدهم هذا المشهد، لما عُرف ما الذي كان سيتردّد على الألسنة.
كان صوت ارتشاف الدم يترافق مع صوت رطب، يتردد صداه حيّاً في أذني. لمّا نظرت إليه في هذا المكان المضيء، لا كما كان في حجرة الزفاف المعتمة، شعرت بدوار أكثر حِدّة.
إحساس لسانه وهو يمرّ على الجرح… كان ألماً من المستحيل الاعتياد عليه. ومع ذلك، لسبب لا أعلمه، لم يكن بذلك السوء.
لِمَ يا ترى؟ لا أعرف. ربما بدأت أختلّ بدوري.
في الواقع، كل ما مررت به حتى الآن كان يسير في مسار مختلف تماماً عن الطبيعي.
من زواج سياسي مفاجئ بأمير وحش، إلى بقائي حيّة، رغم أن الجميع كان يتوقع موتي المؤكد.
“آه…”
في تلك اللحظة، أدركت الحقيقة.
لقد… نجوت.
ضاق صدري فجأة. خفق قلبي بقوة وكأنه لم يعد جزءاً منّي. اختنقت أنفاسي، وغطّيت فمي بيدي.
كنت… أشعر بالراحة. لم أتخيّل قطّ أنّني سأبقى حيّة إلى هذه اللحظة، حتى أنا نفسي لم أتصوّر ذلك.
كان الأمر متناقضاً وصادماً، لكن الألم هذا، كان دليلاً واضحاً على أنني ما زلت أتنفس.
ولذا… لم أستطع إلا أن أكون ممتنّة.
لكن، إلى متى ينوي أن يستمر في شرب دمي؟ لعلّه مجرّد وهم، لكن رأسي بدأ يدور، وشعرت أن جسدي يفقد قواه شيئاً فشيئاً.
“يكفي… الآن.”
“هممم…”
لكن ندائي لم يُؤخذ على محمل الجد. بل اقترب منّي أكثر، وأسند ثقله ناحيتي. وحين أدركت أنني أنحني، كان ظهري قد لامس الأرض بالفعل.
هذا… هذا الوضع، لا يبشر بخير.
التعليقات لهذا الفصل " 8"