فصل 78
بينما كنا نتحدث، فوجئت بالحشود تحيط بنا من كل جانب، وأيدي الناس تمتد نحو سيزار وبرناديتا.
“سي… سيزار! برناديتا!”
صرختُ بفزع، لكن الأوان كان قد فات؛ إذ بدأت الأمور تخرج عن السيطرة.
تساءلت في قلبي: ما ذلك الضوء الغريب؟ ما الذي يحدث هنا بالضبط؟
“أختي إيرينيا ؟”
استدارت برناديتا فور سماع صوتي تنظر إليّ، لكن الزحام كان شديدًا.
تجمهر الناس حولها بشكل خطير وكأنهم يريدون الاقتراب منها بأي ثمن.
“اخرسوا!”
زأر سيزار مهددًا الجمع، فتراجعوا قليلًا.
اغتنمت الفرصة، وتقدمت بمساعدة ديلفينا بسرعة نحو سيزار وبرناديتا.
“هل أنتما بخير؟”
أسرع سيزار ناحيتي واحتواني بذراعيه.
“كيف وصلتِ إلى هنا، أختي إيرينيا ؟”
سألتني برناديتا، ويبدو أن وقع الصدمة عليها جعلها في حالة من الارتباك.
لم أجد ما أقوله وسط كل هذا الفوضى، فاكتفيت بابتسامة خجولة.
“حسنًا، الأمر هو…”
شقت فورتونا طريقها وسط الزحام لتصل إلينا، ترافقها مجموعة من مساعديها الذين ساعدوا في تهدئة الناس.
“آنستي الصغيرة! هل أنتِ بخير؟”
جاءت فورتونا، مربية برناديتا، وهي تبكي بقلق.
“أنا بخير. وأنتِ، فورتونا، هل أصبتِ بأذى؟”
أسرعت فورتونا تتحقق من حالة برناديتا، متخوفة من أن تكون أصيبت بأذى، فهي تعلم أن صغيرتها ضعيفة البنية.
“ما الذي حدث للتو؟ ومن هذه؟…”
سألتني فورتونا بنظرات قلقة، وهي ترمقني بطرف عينها.
هززت رأسي بسرعة، وأشرت لها أن تصمت.
اقتربت ديلفينا منها وهمست:
“لو علم الناس بوجود سمو الأميرين هنا، ستعم الفوضى.”
شهقت فورتونا وهمست بفزع:
“إذاً، ذلك الشاب… إنه الأمير الملعون؟”
لكن الأمر كان أخطر من ذلك؛ كان ثمة شخص لا يجب أن يعلم أن سيزار أمير.
سألت فورتونا:
“هل حضرت الدوقة اليوم هذا الحفل أيضًا؟”
هزت رأسها بسرعة:
“لا، لا، سيدتي الدوقة في القصر الملكي، تزور جلالة الإمبراطورة اليوم.”
تنفست الصعداء؛ على الأقل تجنبنا أسوأ الاحتمالات.
“قبل كل شيء، يجب أن نعرف ما الذي حدث لبرناديتا للتو.”
فقد رأيت للتو ضوءًا ذهبيًا انبعث منها ثم اختفى. سبق لي أن رأيت مثل هذا الضوء من قبل.
وفجأة، خرجت عصفورة صغيرة من كمّ برناديتا، وحطّت على كتفي. أجل، إنه «آب»، الطائر الذي شهدت ولادته يومًا.
ذلك الضوء الذهبي الغامض الذي رأيته كان شبيهًا بالضوء الذي ظهر في يد سيزار من قبل؛ شعرت بأن هناك أمرًا غريبًا.
في تلك اللحظة، رأيت طبيب العائلة يركض نحونا وهو يلهث، ولوّحت له فورتونا.
“أحضرت الطبيب تحسبًا لأي طارئ قد يصيب آنستي الصغيرة.”
شعرت بالغضب يتملكني.
“كيف تجرؤون على إحضار برناديتا إلى مكان مزدحم كهذا؟”
لم أستطع منع نفسي من الانفعال. فالجميع يعلم أن مجرد النهوض من سريرها كان يتعبها.
أخفضت فورتونا رأسها، وبدأت الدموع تنهمر من عينيها.
“كنتِ تتوقعين هذا، أليس كذلك؟”
“صحيح… أنا آسفة، سيدتي. سامحيني على تقصيري.”
“لا، لا بأس.”
كنا نعرف جميعًا مدى قسوة الدوقة. بل إني كنت أشك منذ البداية في أن ما حدث هو من تدبيرها.
فورتونا لم يكن بيدها شيء؛ كانت مجرد ضحية لجشع الدوقة.
أخذ الطبيب، الذي رافق العائلة منذ ولادة برناديتا، يباشر فحصها: وضع السماعة على صدرها، ووضع بعض المواد على شفتيها، وأجرى بعض الاختبارات.
خلع نظارته، ومسح وجهه بمنديل، ثم ارتداها مجددًا وهو يومئ بعينيه.
سألته بقلق:
“كيف حال برناديتا الآن؟”
نظر إليّ بدهشة، ثم أعاد وضع السماعة على صدرها، وأخذ نبضها من معصمها.
كرر الفحص مرارًا، حتى كدت أفقد صبري.
“أخبرني، ما الذي يحدث؟”
“إنه أمر غريب يا آنسة… أقصد يا… يا سمو الأميرة…”
أشرت له أن يتوقف.
“نادني آنسة هنا.”
“حاضر، آنسة…!”
احمرّ وجهه خجلًا. ثم عدّل نظارته وأجاب أخيرًا:
“إنها… سليمة تمامًا.”
“ماذا؟!”
“لم أسمع دقات قلب بهذا الوضوح من قبل! هذا معجزة!”
تبادلت النظرات مع من حولي وقد علت الدهشة وجوههم جميعًا.
لكني لم أستطع تصديق الأمر بسهولة.
“هل هذا صحيح؟ هل تعافت برناديتا حقًا؟”
وقف الطبيب وأخذ نظارته في يده، ورسم إشارة الصليب، ثم صرخ:
“أجل! هذه معجزة! آنستنا الصغيرة شُفيت من مرضها!”
ما إن لفظ كلمة “معجزة” حتى علت الأصوات، وتعالت الهمسات بين الناس.
“معجزة؟ حقًا؟”
“ذلك الضوء لم يكن سوى معجزة حقيقية!”
“إنها معجزة!”
انطلقت التصفيقات في الأرجاء، وارتفعت أصوات التهليل والفرح.
في تلك اللحظة، التفتت برناديتا إليّ وقالت:
“أختي، أنا بخير الآن.”
أمسكت برناديتا بطرف ثوبي وأخبرتني بذلك. انحنيت على ركبتي كي ألتقي بنظراتها
“حقًا، حقًا؟ ألا تشعرين بضيق في التنفس أو ثقل في الصدر؟”
“حقًا! لم أشعر يومًا بهذه الراحة طوال حياتي!”
نعم، لقد كان الأمر كذلك. فقد بدت وجنتاها — اللتان كانت تشوبهما دائمًا مسحة المرض حتى صارتا أشبه بالجبس — متورّدتين كحبات الورد. وقد تناثر العرق كحبات اللؤلؤ على جبينها وجسر أنفها، مما زاد وجهها إشراقًا.
“يا إلهي!”
غمرتني مشاعر الفرح واحتضنت برناديتا بقوة. ربما أحتاج إلى أن أتفحص حالتها بدقة لاحقًا، لكن بدا واضحًا أن حالتها الصحية قد تحسّنت بشكل ملحوظ.
“آه! يجب أن أواصل الحفل!”
صرخت برناديتا فجأة وكأنها تذكرت أمرًا مهمًا، ثم أفلتت بسرعة من بين ذراعي، كحركة سنجاب يفر هاربًا. لم تكن لتستطيع التحرك هكذا من قبل؛ مما يعني أن كلمات الطبيب كانت صادقة، فقد استعادت صحتها بالفعل. نظرت إليها بفرح ودهشة. “رين.” ثم جاء سيزار ومدّ يده ليوقفني. نظرت إليه وسألته:
“سيزار، ماذا فعلتَ قبل قليل؟”
لكنه لم يجبني، واكتفى بأن ابتسم لي بتلك الابتسامة الهادئة التي تخلو من أي تعقيد. في تلك اللحظة، سُمِع صوت تعجّب:
“أوووه!”
وتوجهت الأنظار نحو جهة الصوت.
“أختي! انظري إلى هذا!”
كانت برناديتا هي مصدر الصوت. بدا أنها كانت على وشك تنفيذ آخر خطوات الطقوس: تلقي الشعلة وإلقاؤها في كومة الحطب. غير أنّ أمراً غريبًا قد حدث في تلك اللحظة.
“كيف حدث هذا؟”
فقد اشتعلت الشعلة التي أمسكت بها برناديتا — وكانت في طرفها خرقة مغموسة بالزيت — قبل أن تلمس النار أصلًا. اشتعلت فجأة بضوء متوهّج.
“يا إلهي!”
“إنها معجزة، معجزة!”
“حقًا! إنها معجزة!”
امتلأت أعين الناس بدهشة وفرح وهم يرون هذا المشهد بأمّ أعينهم، حتى غلبت الدهشة على نفوسهم. لكن على الرغم من كل ذلك، لم يبدُ أن هناك فوضى أو إصابات أو ما شابه؛ إذ كان الجميع يرنّمون بالأغاني ويذرفون الدموع وهم يشاهدون المعجزة
. “سأرميها الآن!”
صرخت برناديتا إليّ بحماس. رفعت يدي ملوّحةً لها لتشجيعها. أمسكت الشعلة بكل قوتها ورمتها فوق كومة الحطب. وما إن لامست النار الحطب المبلل بالزيت حتى اشتعل بقوة. امتدت ألسنة اللهب سريعًا والتهمت الأغراض القديمة التي أحضرها الحاضرون لحرقها والتخلّص من حظهم العاثر في السنة الماضية، متمنّين عامًا جديدًا مفعمًا بالحظ الجيد. تصاعد صوت الاحتراق:
طق، طق، تلتهم النيران تلك الأشياء وتحوّلها إلى رماد. وفي تلك اللحظة، شعرت وكأن نسمة عليلة هبّت في صدري، لتنعش الأجواء من حولي. لم يكن سوى شرارة صغيرة في البداية، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى نور هائل بدّد ظلمة الليل، حتى بدا المكان وكأنه في وضح النهار. احتضن الجميع بعضهم بعضًا وهم يذرفون الدموع فرحًا. ربما، كما حدثت هذه المعجزة الليلة، ستحدث معجزة أيضًا في حياتهم المقبلة؛ هكذا تمنّوا ودعوا وغنّوا. ومن مكانٍ قريب، بدأ عزف موسيقي رشيق ينساب في الهواء. عزف العازف لحنًا أخذ يزداد سرعة، ثم تحوّل إلى أغنية راقصة تملؤها البهجة. بعضهم أخذ يدور في حلقة ممسكًا بكتف من يجاوره، والبعض الآخر صفق وضحك عاليًا. أما العشّاق، فاحمرّت وجوههم وهم يتبادلون النظرات وأيديهم متشابكة. “هيا بنا.” قالها سيزار وهو يمسك بيدي بلطف، يجذبني إليه.
التعليقات لهذا الفصل " 78"