الفصل 76
لم يكن هناك خيار سوى فتح المحفظة مرة أخرى، لأنني لم أستطع تجاهل نظرات سيزار المتوسلة. وبعد فترة وجيزة، مُلئت ورقة مخروطية رقيقة بمخبوزات “أجنحة الملاك” المقلية للتو. كانت ساخنة جدًا لدرجة أنه من الصعب وضعها في الفم مباشرة.
“هه، ها.”
بمجرد أن وضعنا القطع الساخنة في أفواهنا، لم نعرف كيف نتصرف وأخذنا نلهث من الحرارة. فقط بعد أن بردت قليلاً، سمعنا صوت القرمشة المبهج بين أسناننا، وامتلأ الفم بمذاق العسل الحلو الذي تغلغل في عجينة الدقيق المقلية. كانت ساخنة ومقرمشة للغاية لدرجة أنها خدشت سقف الفم، لكن لم نتمكن من التوقف عن الأكل.
وأثناء تناولنا لـ”أجنحة الملاك”، بدأنا ننظر حولنا للمناظر المدهشة. كان المهرجان كعالم مختلف تمامًا.
“انظر هناك يا سمو الأمير! كيف يمكن لقرد أن يؤدي تلك الحركات؟”
أشارت دلفينا نحو قرد يرتدي زيًا يؤدي به حركات بهلوانية بينما يرمي كرات في الهواء. بجانبه كان رجل يشرب سائلاً غريبًا ثم ينفث النار من فمه، مما أثار اندهاشنا.
“هؤلاء بائعو الأدوية.”
تظاهرت أنني أعرف. كانوا يرتدون أزياء لامعة ومزركشة من القارة الجنوبية ويصرخون لبيع منشطات.
“إكسير الحب بعشرة كواد فقط!”
“إكسير الحب؟ سمو الأمير، هل سمعت؟”
قالت دلفينا وقد احمر وجهها خجلاً.
“أوه، كل ذلك مجرد خدع.”
لكن بائع الأدوية ظل يتجول بين الناس بصوتٍ عالٍ:
“مع هذا الإكسير، يمكنك كسب قلب من تحب!”
“أريد واحدًا!”
“وأنا أيضًا!”
بدأت مجموعة من الفتيات في شراء ذلك الإكسير. وعندما خلع بائع الأدوية قبعته لينحني، كُشف رأسه الأصلع بالكامل. وصعد القرد على كتفه وخلع قبعته الصغيرة أيضًا وانحنى.
ضحك الناس على هذا المشهد الطريف والمحبب. وواصل بائع الأدوية حديثه بنبرة فكاهية:
“كل ما عليك فعله هو إعطاؤه لمن تحبين وسيكون الأمر كما هو!”
ثم ابتسم ابتسامة ماكرة، مشيرًا إلى إحدى الفتيات بإيماءة غريبة. لم أفهم معناها فحسبقت أرمش بعيني.
يبدو أن دلفينا كانت منصتة له باهتمام.
“هل تريدين أن أشتري لك واحدًا؟”
عندما سألتها، لوحت بيديها ورفضت بشدة.
“لا، لا حاجة!”
“إن احتجتِ، أخبريني. أنتِ التي تملكين المحفظة.”
“قلت لا حاجة. ما الذي سأفعل به…”
كانت تحاول تجنب الموضوع.
“حسنًا، فلنذهب لرؤية شيء آخر.”
وبينما كنا نتجول وقد امتلأت بطوننا واستمتعنا بالمهرجان، بدأ الغروب يحل.
وفجأة سُمع صوت أجراس ورقية يهتز في المسافة.
“الموكب قادم! افسحوا الطريق!”
كان ذلك موكب القديسة.
“يبدو أنه بدأ الآن.”
إنه أهم حدث في هذا المهرجان: موكب تقمص القديسة.
“موكب القديسة! افسحوا الطريق!”
رأينا مجموعة من الناس يرتدون ملابس بيضاء، وتقدم أحدهم لفتح الطريق. ومن خلفه ظهرت فتاة ترتدي الأبيض، تمتطي حمارًا أبيض مزينًا بالزهور وتحمل صليبًا صغيرًا في يدها.
كانت تمثل صورة المبعوثة التي تهبط إلى العالم عند وقوع الأزمات وتكفّر عن خطايا الناس. (استغفر الله)
بالطبع، تلك الفتاة لم تكن القديسة الحقيقية، بل كان التقليد مبنيًا على أن أول قديسة كانت فتاة في الثانية عشرة من عمرها…
“هاه؟”
لكن وجه الفتاة بدا مألوفًا جدًا. هل يُعقل أن تكون…؟
في تلك اللحظة، نظرت القديسة نحونا. وتلاقت أعيننا لوهلة.
إنها كانت برناديتا، أصغر أخت لجيوفينتيا.
“برناديتا؟”
خرج اسمها من فمي دون أن أدرك.
وبينما كنت محاطة بالحشود، يبدو أن برناديتا لاحظتني أيضًا.
أسرعت بارتداء القبعة على رأسي لإخفاء وجهي. لأنني الآن خرجت سرًا من القصر، ومن الغريب أن أتصرف وكأني أعرف برناديتا المتنكرة في زي القديسة.
ويبدو أنها أدركت الموقف، فقد نظرت إلي عدة مرات ثم وجهت بصرها مجددًا إلى الأمام لتركيزها على الموكب.
وفجأة، خرج “آب”، الكتكوت الصغير الذي كان مختبئًا في صدري طوال الوقت.
“آب؟”
ناديت عليه بذهول، فقد كان هادئًا طوال الوقت، فما الذي دفعه للظهور فجأة؟
“بييب!”
قبل أن أتمكن من التصرف، طار الكتكوت الصغير من كُمّي، ثم حط مباشرة على كتف برناديتا.
“آب!”
مددت يدي بسرعة، لكن الحشود بدأت ترفع أيديها نحو برناديتا أيضًا.
“القديسة!”
“باركينا، أيتها القديسة!”
بدأ الناس يرشون زهورًا وبتلات مباركة على الطريق أمامها.
“خلصينا!”
“خلصينا!”
وبرناديتا على الحمار الأبيض، لم تُظهر أي ارتباك لوجود الكتكوت على كتفها. ربما لم تدرك حتى أنه هناك.
ولوّحت بيدها للجميع، وقد بكى أحد الشيوخ لرؤية هذا المشهد.
راقبت برناديتا وآب وهما يبتعدان ببطء، غير مصدقة ما حدث للتو.
“ما بكِ، سمو الأمير؟”
سألتني دلفينا وقد لاحظت تصرفاتي الغريبة.
“آب، يعني… تلك الفتاة هي أختي.”
“حقًا؟ لم أسمع من قبل أن لديك أختًا، سمو الأمير.”
“لأن برناديتا نادرًا ما تخرج من غرفتها…”
برناديتا، أصغر بنات فلوريس، خجولة وذات جسد ضعيف، نادرًا ما كانت تخرج من غرفتها. كانت تسقط مريضة بسهولة إذا بذلت مجهودًا، وكانت تعاني من الحمى لعدة أيام.
فكيف لها أن تشارك في هذا المهرجان الآن؟ هل تحسّن حالها؟
خشيت أن يؤدي هذا الحشد إلى تدهور صحتها من جديد. وتذكرت وجهها الشاحب وهي تستقبلني دائمًا بابتسامة هادئة، مما جعل قلبي يؤلمني.
“لكن، لماذا طار آب إليها فجأة؟”
لم أعد أميز أيّ الموقفين أكثر إرباكًا، وتوقفت عن التفكير تمامًا.
“آب طار إلى أختك؟”
“نعم، فجأة طار نحوها.”
نظرت إلى سيزار بوجه جاد. قد نفقد آب، ألا يقلقك ذلك؟
“لا بأس.”
لكن سيزار، وعلى الرغم من كل ما جرى، كان يبتسم بهدوء وثقة.
عندما رأيت تعبيره، شعرت بالخوف فجأة. بدا الأمر كأنه كارثة وشيكة، وأردت أن أبكي.
“ما كان يجب أن أحضر آب لهذا المهرجان…”
برناديتا لم تكن طفلة شريرة مثل جيوفينيتا، لكن لا أعرف كيف ستتعامل مع الكتكوت. والأسوأ من ذلك، ربما جاءت مع مربيتها أو مع سيليستينا… ماذا لو رأوه؟ ماذا لو عرفوا أننا خرجنا سرًا؟
لا أريد حتى تخيل ذلك.
“سيكون ذلك كارثيًا!”
قررنا أن نتبع موكب القديسة.
********
برناديتا فلوريس، كانت أصغر بنات دوق فلوريس البالغة من العمر اثني عشر عامًا هذا العام. وكان جدها الأول هو كوسيمو العظيم، الحكيم والساحر العظيم، مما جعل عائلتها مرتبطة بالسحر.
كانت عائلة فلوريس قد أنجبت العديد من السحرة البارزين. لكن منذ زمن، بدأ السحر يتراجع تدريجيًا، وكذلك عدد السحرة…
التعليقات لهذا الفصل " 76"