الفصل 72
شعرتُ بحرارة تلامس المكان الذي جُرح. لم تكن هناك تلك الهمّة العنيفة التي دفعتني إلى الحافة كما في المرّة السّابقة. كان فقط يلعق الدّم المتسرّب من جرحي ببطء.
“جيّد، أحسنتَ…”
مرّرتُ يدي ببطء على جبهته. قرّرتُ أن أمسح شعره من حين لآخر إذا لم يظهر أنيابه أو يعضّ الجرح.
كانت أنفاس سيزار حارّة جدًّا. لم أستطع كبح هذه الحرارة، فارتجف جسدي للحظات. شعرتُ، ولو للحظة، بشيء غريب جدًّا.
كان الأمر أشبه بخيط من النّار يمرّ عبر جسدي، وكلّما لعق جسدي، تضاعفت الحرارة.
“آه…”
تحت وطأة هذا الإحساس الغريب، ضممتُ ركبتيّ دون قصد. توقّف سيزار عن الحركة ونظر إليّ بتمعّن. لقد ضغطتُ على رأسه بركبتيّ.
“آه، آسفة.”
عندما أرخيتُ ساقيّ ومددتُ يدي، بدأ سيزار يلعق يدي بشراسة. استمرّ في امتصاص الجلد بين إصبعيّ السّبابة والوسطى، مما جعلني أشعر بشيء غريب فاضطررتُ إلى سحب يدي.
“سي… سيزار…”
عندما رفعتُ يدي بعيدًا عن وجهه، اقترب وجهه هذه المرّة. وجدتُ نفسي محاصرة في أحضانه مرّة أخرى، مستلقية…
نظر إليّ بعينين جعلتني، لسبب ما، غير قادرة على مواجهتهما، فأدرتُ رأسي جانبًا. كان قلبي يخفق بجنون.
في تلك اللحظة، اتّجهت رأسه نحو رقبتي. خفتُ أن يعضّها، فأغمضتُ عينيّ بقوّة. لكنّ ما كنتُ أخشاه لم يحدث.
كان فقط يشمّ الضّمادة الملفوفة حول رقبتي بحركات حذرة جدًّا، يمرّر أنفه عليها بلطف.
كان ذلك مجرّد فعل بسيط، لكنّ جسدي المتصلّب من التّوتّر بدأ يرتخي تدريجيًّا. شعرتُ بشعور غريب جدًّا. كان هناك شيء مختلف تمامًا عن المعتاد. كان جسدي ممتلئًا بالحرارة. كلّما لمسني سيزار، ازدادت هذه الحرارة. شعرتُ بقشعريرة في ظهري، تلتها إحساس مجهول لم أعرفه من قبل.
“هاء…”
أطلقتُ زفرة بطيئة. كان جسدي كلّه يحترق وكأنّني مصابة بالحمّى.
* * *
أصبح سيزار غريبًا بعض الشّيء.
بالطّبع، لم يكن غريبًا بمعنى أنّه يتصرّف بطريقة غريبة بشكل مبالغ فيه. المشكلة كانت أنّني أصبحتُ أكثر وعيًا به مقارنة بالسابق.
“هناك شيء تغيّر.”
كان من الصّعب تحديد ما هو بالضّبط، لكنّ شيئًا ما كان مختلفًا.
“أليس ذلك بسبب تغيير ملابسه؟”
شاركتني دلفينا حديثي بهدوء.
“هل تظنّين؟”
“يقولون إنّ الملابس هي الأجنحة.”
وإذ نظرت إلى سيزار، ابتسمت بفخر.
إذا تحدّثنا عن التّغيير، فلم يكن سيزار وحده هو من تغيّر، بل حتّى “ثمرة حبّنا”، بيّاق أب، تغيّر أيضًا. كان تغييره أكثر وضوحًا من تغيير سيزار.
“الآن وقد ذكرتِ، منذ متى بدأ هذا الرّيش ينمو؟”
سألتني دلفينا وهي تنظر إلى ريش جبهة أب.
“أليس كذلك؟ ربّما يحاول أب أن يصبح ديكًا أسود.”
كان ذلك لأنّ ريشًا أسود بارزًا نما على رأس أب. كنتُ أظنّ أنّه سينمو ريشًا أصفر ناعمًا فقط، لكن فجأة ظهر خيط من الرّيش الأسود. كان ذلك مضحكًا ومحبّبًا في الوقت ذاته.
“لكن، سموّك، لا توجد دجاجات سوداء بين الدّجاج الذي يُربّى في القصر.”
“حقًّا؟”
بالطّبع، أب كتكوت مميّز جدًّا، لذا لا ينبغي مقارنته بالدّجاج العادي.
“على أيّ حال، إنّه أمر عجيب. حتّى أنّ أب لا يكبر بسرعة.”
على عكس توقّعاتي بأنّه سيصبح دجاجة كبيرة بسرعة، ظلّ أب صغيرًا بحجم الكتكوت. بالطّبع، كان أكبر من الكتكوت العادي، لكنّه لم يكن كبيرًا لدرجة أنّه لا يمكن أن يدخل جيبي الدّاخلي. بمعنى آخر، كان بالحجم المثالي لأحمله معي.
“فقط كبر بصحّة جيّدة.”
قبّلتُ طرف منقاره بلطف. عندما قبّلتُ أب، هرع سيزار وجلس بجانبي.
“قبّليني أنا أيضًا.”
لا أعرف إن كان غيورًا أم أنّه يحبّ القبلات، لكنّني قبّلتُ خدّه أيضًا.
” أنتَ أيضًا بصحّة جيّدة، سيزار.”
بالطّبع، سيزار كان بالغًا، لكن لا يزال هناك الكثير ليتعلّمه. لو صقل نفسه قليلًا، سيكون وسيمًا حقًّا، مما يجعلني أشعر ببعض الأسف.
منذ ذلك اليوم، أصبحت ملابس سيزار وتسريحة شعره أكثر ترتيبًا. لا يزال يجد صعوبة في ارتداء الأحذية، لكن عندما أصدرتُ صوت بكاء، ارتداها بسرعة.
كان سيزار دائمًا ضعيفًا أمامي. خاصّة إذا تظاهرتُ بالبكاء، كان يهرع إليّ ويلبّي كلّ طلباتي.
“إذا استمرّ على هذا النّحو، ربّما يصبح الأمر على ما يرام…”
مع تحسّن مظهره الخارجي، شعرتُ وكأنّني أرى قمّة خطّة “جعل سيزار إنسانًا” التي بدت مستحيلة في البداية.
“لكن، سموّك، لا يزال هناك العديد من العقبات.”
هزّت دلفينا رأسها بحذر. كنتُ أتفهّم وجهة نظرها. المشكلة الأكبر كانت، بالطّبع، هذه.
“هل يستطيع سيزار تحمّل كلّ هؤلاء النّاس؟”
“بالضّبط…”
فجأة، صرخت دلفينا كما لو أنّها تذكّرت شيئًا.
“فيرنال إكوينوكس!”
“ماذا؟”
“بعد ثلاثة أيّام، سيقام مهرجان فيرنال إكوينوكس (مهرجان الاعتدال الرّبيعي).”
كان ذلك يعني مهرجانًا صاخبًا غير رسميّ يُقام بمناسبة الاعتدال الرّبيعي.
“هل نقترح أخذ سيزار إلى هناك؟”
“نعم، ألن يكون مكانًا مليئًا بالنّاس وفرصة جيّدة للتّمرين؟”
“لكن…”
كانت كلمة “مهرجان” تحمل إحساسًا خاصًّا. الحماس والخوف، البهاء والتّوقّعات، وأيضًا قلق خفيّ.
“لكن، هل سيكون سيزار بخير حقًّا؟”
“لكن فكّري، سموّك. قاعة الحفلات قد تكون أقلّ ازدحامًا من المهرجان، لكن إذا تمكّن من تحمّل هذا المكان…”
“فإنّ قاعة الحفلات لن تكون مشكلة…”
“وعلاوة على ذلك، فيرنال إكوينوكس هو مهرجان صاخب وغير رسميّ. مليء بالسّكارى والمتسوّلين الذين يصرخون ويغنّون ويرقصون. حتّى لو أصيب سموّ الأمير بالذّعر أو التّفاجؤ، لن يراه أحد غريبا.”
“حقًّا؟”
أومأت دلفينا برأسها بثقة.
“ألا يُطلقون على هذا المهرجان اسم ‘مهرجان الحمقى’؟ يرتدون أزياء مضحكة ويختارون ملك الحمقى، أليس كذلك؟”
“أظنّني زرتُه عندما كنتُ صغيرة.”
بعد أن تبنّتني عائلة الدّوق، لم أشارك في مثل هذه المهرجانات الشّعبيّة، لكنّني تذكّرتُ أنّني زرتُه وأنا صغيرة ممسكة بيد أنّاريسا. كان المهرجان صاخبًا جدًّا ومربكًا. عندها، تنحنحت دلفينا عدّة مرّات وقالت بحذر:
“قد يكون كلامي جريئًا، لكنّني لم أزر مهرجانًا من قبل.”
“حقًّا؟”
كيف يمكن لشخص ألا يزور مهرجانًا؟ كيف يمكن أن يوجد مثل هذا الشّخص؟
“مثل هذه المهرجانات تُعتبر نوعًا ما منخفضة المستوى.”
هزّت دلفينا رأسها وهي تتحدّث. قالت إنّها وُلدت في عائلة صارمة دينيًّا، حيث كانت مثل هذه الأفعال محظورة تمامًا. حتّى التّسلّل للخارج لم يكن خيارًا بالنّسبة لها، وهو ما فهمته لأنّها كانت هادئة جدًّا في هذا الجانب.
“إذًا، لنذهب معًا هذه المرّة.”
“حقًّا؟ هذا رائع!”
صفقّت دلفينا بيديها فرحًا. عند رؤية ذلك، انتشرت ابتسامة على وجهي. ضحكنا مثل أطفال مؤذيين يخطّطون لمقلب.
“المشكلة الآن هي كيفيّة الخروج من القصر الإمبراطوري…”
“إذا اكتُشف أنّ سموّيكما خرجتما، سينتشر الفوضى. ماذا لو تنكّرتما؟”
قالت إنّ التّنكّر في المهرجان أمر شائع، لذا سيكون طبيعيًّا.
“بالطّبع، يجب أن نتفادى أعين فرسان قصر النّكسيت وكذلك حرّاس القصر الإمبراطوري، أليس كذلك؟”
عندها، بدت دلفينا وكأنّها تفكّر في شيء ما، ثم قالت:
“في ذلك اليوم، يكون الأمن في العاصمة في أسوأ حالاته، لذا سينخفض عدد الحرّاس الدّائمين داخل القصر الإمبراطوري بسبب إدارة الأمن في المدينة. وأيضًا…”
تردّدت دلفينا في إكمال جملتها. انتظرتُ دون أن أستعجلها لأسمع ما ستقوله. ما سمعته كان خبرًا غير متوقّع إلى حدّ ما.
“الكونتيسة إلفيرا لم تظهر مؤخّرًا…”
“الكونتيسة؟”
بالفعل، لو كان الأمر كالمعتاد، لكانت الكونتيسة إلفيرا، التي كانت تتردّد إلى قصر النّكسيت باستمرار وتراقبنا بعيون حادّة، قد اختفت منذ أيّام.
“هل حدث شيء للكونتيسة إلفيرا؟”
“لا نعلم بالتّأكيد. لكن من المؤكّد أنّ غيابها جعل أعين المراقبة أقلّ شدّة. ومنذ أن تمّ إقالة قائد المئة الذي كان يتعارض معنا، لم يعد فرسان الصّليب الأبيض الورديّ يتصرّفون بنفس الحدّة كما في السابق.”
منذ الخلاف الأخير مع سيزار، لم يظهر قائد المئة ذاك. يبدو أنّ الإمبراطورة جعلته عبرة للآخرين. كان ذلك ميزة لنا، إذ أصبحوا يراقبوننا ويراقبون الإمبراطورة بحذر أكبر.
“الآن وقد ذكرتِ، هذا صحيح.”
في تلك اللحظة، خطرت لي فكرة أخرى جيّدة. كانت تتعلّق بشيء كنتُ أفكّر فيه منذ فترة.
“بالمناسبة، دلفينا، ألا تعتقدين أنّ حديقة قصر النّكسيت تبدو قاحلة جدًّا؟”
عندما رأت تعبيري المؤذي، فهمت دلفينا خطّتي وأومأت موافقة.
“صحيح. في كلّ مرّة أنظر إليها، تبدو خاوية وكئيبة.”
“بما أنّه الرّبيع، ألا تعتقدين أنّ زراعة بعض أشجار الزّهور ستكون مثاليّة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 72"