الفصل 70
“ماذا؟”
ما إن سمعته يتفوه بتلك العبارة السخيفة حتى ارتسمت على وجهي ملامح الذهول، فانفجر ضاحكًا.
“لا تقولي لي أنك كنتِ تنوين التهرب هكذا بكل بساطة؟”
ثم اقترب منّي وجهه شيئًا فشيئًا.
“أنتَ حقًا… وقح!”
تراجعت للخلف وأنا أصرخ بحزم، فتوقف عن الضحك فجأة.
“هكذا أفضل. الآن بدوتِ كما أعرفك. لا تظهري بذلك الوجه مجددًا.”
“ماذا تعني؟”
“أقصد لا تذهبي هنا وهناك بذلك التعبير.”
“وتعبيري… ماذا به؟”
اقترب ماتياس بوجهه الماكر وقال:
“هل تعلمين كم يُفقد الرجال صوابهم حين تتجولين بذلك الوجه؟”
“ما-ما الذي تقوله؟!”
في تلك اللحظة، تذكرت تصرفاته السابقة… حين دفن وجهه في شعري وتنفس بأنفاس لزجة مثيرة للاشمئزاز. مجرد التذكر جعل بدني يقشعر.
“هممم، يبدو أنه شجار عشاق؟”
رغم أنه لم يبتعد كثيرًا عن الحقيقة، إلا أن تسميته بالأمر كذلك كانت مستفزة. فقلت بنبرة حادة:
“ما الذي تهذي به؟”
“عن الجرح في عنقك. كيف حصلتِ عليه؟”
وأشار إلى عنقي، فسارعت بتغطيته بكلتا يديّ.
“أنا… سقطت. إنه جرح بسبب سقوطي.”
ابتسم ماتياس بتلك الابتسامة المزعجة مجددًا، ولم أفهم ما الذي يضحكه. زاد قلقي، وازداد شعوري بالخطر.
لم يكن ثمة مجال للمزيد من التراجع، ومع ذلك وجدت نفسي أبتعد أكثر فأكثر.
اقترب مني فجأة، فحدّقت حولي بسرعة. تلاقت عيناي بعيني بيرتوتشيو، لكنه بدا وكأن شيئًا لا يحدث، ناظرًا في الفراغ بلا مبالاة. لحسن الحظ، لم يكن أحد آخر بالجوار.
“لا أفهم ما الذي تعنيه بكلامك.”
تحدثت بحذر، محاوِلة ألا تظهر في صوتي أي رجفة، لكنه تابع بسخرية وكأنه يعرف كل شيء:
“ذلك الأحمق يبدو أنه يجيد المتعة، أليس كذلك؟”
ضاقت عيناي وأنا أحدق به، غير قادرة على فهم ما يقصده… حتى رفع إصبعه البيضاء الطويلة، واقتربت يده من جلدي دون أن تلمسه، مارًّا بها فوق صدري، وعظمة الترقوة، ثم عنقي… فانتفضت بصمت.
“هنا، وهنا… وهناك أيضًا. لا ينبغي لك أن تتركي علامات كهذه مكشوفة بهذا الشكل.”
نظرت سريعًا إلى المواضع التي أشار إليها، ففزعت… كانت مليئة ببقع حمراء وكأنها آثار قرصات أو كدمات. لم أكن أعرف حقيقتها، لكنني لم أرغب أن يراها هذا الرجل بالذات، فرفعت ياقة ثوبي فورًا.
“وما نفع إخفائها الآن؟”
ضحك ماتياس بخفة. فجأة تذكرت أنني غادرت الغرفة دون أن أرتب ملابسي جيدًا… والعار الذي شعرت به حين أدركت أنني كنت على هذه الهيئة أمام الأمير الثاني جعل وجهي يحترق خجلًا.
أحسست بالدموع تعود إلى عيني، فعضضت شفتي بقوة.
“يبدو أن ذلك الأحمق… يجيد دور الرجل أكثر مما توقعت؟”
عادت إلى ذهني ذكريات الليلة الماضية مع سيزار، وارتفعت حرارة وجنتيّ أكثر. كانت آثار جسده لا تزال عالقة بي، فارتجفت بشدة.
“ما الذي تهذي به؟”
“لمَ هذا التظاهر؟ أنت تعرفين ما أقصده.”
ثم أمسك خصلة من شعري ببطء، ولم أستطع الحراك، وكأنني مقيدة.
وكما فعل في المرة السابقة، دفن أنفه في شعري واستنشق بعمق… كأنها عادة طبيعية لديه.
“يقولون من يفتقر للعقل يتفوق في أمور أخرى، فهل هذا صحيح؟”
“صاحب السمو… ما الذي تتحدث عنه؟”
“ما زلتِ متمسكة بذلك المعتوه؟ لا بد أن أداءه في السرير ممتاز؟ هل يتحول إلى وحش كل ليلة؟”
وحين أشار بيده نحو بين ساقيّ، فهمت فجأة ما الذي يرمي إليه، ولم أتمالك نفسي.
صفعة قوية دوّت في المكان.
صفعت ماتياس بكل قوتي على خده.
فجأة تحرّك بيرتوتشيو بخطورة، وتملكني شعور بأنه على وشك الفتك بي، لكن ماتياس رفع يده سريعًا ليوقفه.
مرر يده على خده وقال بابتسامة:
“حتى ضربك له طابع خاص، أيتها السيدة.”
لم أعد أحتمل البقاء معه للحظة أخرى. تنفسي كان يعلو ويشتد، فنهضت من مكاني بسرعة لأنصرف.
لكن ماتياس أمسك بمعصمي. حدّقت به دون كلمة، أطلب منه بعيني أن يتركني.
قال بصوت خافت:
“سألتكِ سؤالًا… لماذا كنتِ تبكين؟”
لم أرد. كان واضحًا أن التواصل معه عبث.
تنهدت بعمق، ثم سحبت يدي منه بقوة مقصودة.
“لستُ ملزمة بأن أجيب.”
ثم استدرت وغادرت بسرعة. كنت ألعن خطواتي الثقيلة تلك اللحظة، ولم أجرؤ على النظر خلفي، فقد كان مجرد تخيل وجوده كفيلًا بإرعابي.
مشيت مسافة لا بأس بها قبل أن أسمح لنفسي بالتوقف. نظرت خلفي، وتنفست الصعداء… لم يكن أحد يلاحقني.
كنت قد ظننت أنه ليس سيئًا حين ساعدني في العلاج… لكن يبدو أنني كنت ساذجة.
“يا له من نذل… قذر لا يستحق حتى أن يُذكر.”
تمتمت بغضب، أضرب الأرض بحذائي، وأشتمه بكل الألفاظ التي خطرت لي.
وفجأة، لمحته في زاوية بصري.
“…”
هل كنت أتوهم؟ لا… إنه سيزار.
أيمكن أن يكون قد لحق بي؟
الغريب أنه حين التقت أعيننا، ارتبك فجأة واختبأ خلف السياج.
لكن ذلك السياج كان هزيلًا، خاليًا من أي زهور أو نباتات، ولم يكن كافيًا ليخفي جسده الضخم.
اقتربت أكثر، وفي تلك اللحظة، تحطم السياج بين يديه.
“أوه…”
ارتبك تمامًا، عاجزًا عن التصرف، يحاول أن يخفي جسده الكبير وراء ما لا يستره.
لكن عينيه، رغم كل شيء، لم تتوقف عن التحديق بي.
كان في العادة لا يتردد، يندفع إليّ ويحتضنني بلا خجل…
لكنه اليوم كان مرتبكًا، متوترًا، كما لو أنه يخشى الاقتراب.
حينها فقط تذكرت آخر ما قلته له.
“لا تتبعني!”
أجل، تلك كانت أول مرة أصرخ عليه حقًا…
ورغم ذلك، لقد تبعني. يبدو أنه خائف الآن. ولذلك…
كان يمكن قراءة الكثير من ملامحه: القلق، التوتر، التلهّف، الحزن، والخوف…
يا لهذا الأحمق. من كان يريد البكاء حقًا هو أنا، لا هو. لم يكن من المفترض أن يتخذ ذلك التعبير، ليس بعد أن… بعد أن فعل بي كل ذلك.
لكنني كنت دومًا هكذا. أضعف أمامه. أمام سيزار. نعم، يمكن القول إن لدي نقطة ضعف تجاهه. ربما لهذا السبب مددت يدي نحوه دون وعي، وكأنني نسيت كل ما فكرت به قبل لحظات فقط… أنني لا أريد رؤيته، لا أريد أن أراه مطلقًا.
“سيزار، تعال إلى هنا.”
وما إن نطقت بذلك، حتى اندفع نحوي كما لو أن كلمتي كانت زنادًا. لا، بل تجاوز ذلك—لقد ألقى بنفسه بالكامل في أحضاني.
“سـ، سيزار…”
سقطت على ظهري وارتطم جسدي بالأرض، لكنه كان قد دفن رأسه في صدري، جسده يرتجف بشدة.
أخذت شهيقًا، مستعدة لتوبيخه بنبرة صارمة. لكن… فجأة، شعرت بشيء دافئ يتساقط بين طيات ثوبي.
كانت دموعًا.
سيزار كان يبكي. جسده يرتجف ودموعه تنهمر بصمت.
“سيزار…؟”
مشهد كهذا… جعل صدري ينقبض، وشيئًا ما في داخلي يؤلمني بلطف.
“رـ، رين غضبت مني…”
قالها وهو ينتحب، كتفاه يهتزان، ودموعه تنساب صافية مع صوت بكائه المكبوت.
وكان… وكان لطيفًا إلى حد لا يُحتمل.
التعليقات لهذا الفصل " 70"