الفصل 69
انحنت عينا كورنيليا بانتباه حاد، وسرعان ما تسربت من نظراتها الهادئة لمحة توتر شعَر بها ماتياس على الفور.
“يقال إن حالة ولي العهد الصحية قد تحسنت كثيرًا، وقد رفع طبيبه الخاص، المستشار الملكي ريشار، تقريرًا بذلك.”
لكن كورنيليا شردت بنظرها إلى الأفق البعيد وكأنها لم تسمع شيئًا.
“حقًا؟ لم أكن أعلم بذلك. ألم تكن حالته تتقلب باستمرار؟”
قال ماتياس بابتسامة ماكرة:
“يبدو أن زوجته الجديدة نجحت إلى حدٍّ كبير في ترويضه.”
تجمد وجه كورنيليا فجأة. من الواضح أن ذكر تلك المرأة على لسان ابنها لم يعجبها.
“ولِمَ تهتمّ بتلك المرأة السخيفة؟”
“الخبر قد وصلني فحسب.”
تذكر ماتياس لقاءه السابق مع إيرينيا. عينيها الخضراوين الممتلئتين بالعدائية لا يمكن نسيانهما بسهولة.
وبينما استعاد ملامحها، لم يسعه إلا الاعتراف بجمالها الملفت.
حين سمع لاحقًا من أحد الجواسيس ما حدث في قصر الزمرد، أذهله الأمر حقًا.
المربية التي كانت ترعى ولي العهد قتلت سابقًا أربع مرشحات للزواج منه، وكانت إيرينيا هي من كشفت الحقيقة.
لقد نصبت كمينًا بنفسها وكشفت جرائم تلك المرأة واحدةً تلو الأخرى.
هل يمكن أن تمتلك تلك الفتاة الرقيقة كل ذلك الحزم؟ كلما تذكرها، شعر بلعابه يتجمع في فمه… إنها مثيرة للاهتمام بالفعل.
“ماتي، لدي نصيحة لك.”
“سأنصت لها بكل جوارحي، يا أماه.”
انحنى ماتياس مبالغًا في إظهار الطاعة.
“إياك أن تهتم بتلك الفتاة التافهة.”
“تافهة؟”
“أعني زوجة ولي العهد، إيرينيا، تلك اللقيطة من فلوريس.”
“آه…”
تنهد ماتياس بخفة، واضح أن والدته قد أدركت إلى أين يتجه فضوله.
“أحبكِ يا أمي.”
وكان يعلم أن الحب هو أكثر ما ينجح في إسكاتها. طبع قبلة صاخبة على خدها.
“يا لك من ولد… لم تعد طفلًا!”
لطالما كان ماتياس رجلاً يجيد قول “أحبك” بسهولة لكل امرأة.
لكن حبه الحقيقي الوحيد كان دومًا لأمه… ربما.
وهذا جعله يبتسم بمرارة.
“لا تقلقي كثيرًا، هل سبق لي أن سببت لك القلق؟”
“بل دومًا تفعل.”
ارتسم الغضب على وجه كورنيليا، وكان ذلك كافيًا لجعل ماتياس يقمع ضحكته بينما يغادر قصر القمر.
“الآن بعد أن منعتني من الاهتمام، أصبحت أكثر فضولًا…”
وبدون أن يشعر، ساقته خطواته نحو قصر الزمرد، مقر إقامة زوجة ولي العهد.
“هل أنا مهتم بها حقًا؟ أم أن السبب مجرد تحدٍ لأوامر والدتي؟”
لم يكن قادرًا على التمييز بين الأمرين.
هو يحب والدته، نعم، لكن كان يجد لذة في مخالفتها أحيانًا.
وفجأة، رأى من بعيد فتاة تمشي والدموع تغمر وجهها.
في تلك اللحظة، انقبض قلب ماتياس بشدة.
لم يكن يفهم هذا الإحساس، فوضع يده على صدره لا إراديًا.
كان شعورًا مضطربًا، مؤلمًا وخطيرًا.
مشيتها المتعثرة جعلته يعتقد أنها قد تسقط في أية لحظة، وأحسّ بدافع قوي لأن يركض ويدعمها.
ذراعاها النحيلتان، عنقها الرقيق مثل غزال صغير…
بدت هشة جدًا، وكأنها قد تنكسر بين يديه.
بدأ ماتياس يتبع إيرينيا بخطى بطيئة.
**************
كنت أمشي بلا وجهة، ودموعي لا تتوقف.
كلما فكرت، ازددت حزنًا وألمًا.
كان سيزار… غريبًا.
لم أصدق أنه من تسبب لي بكل هذا الجرح.
ذلك الرجل الذي كان دومًا في صفي، الذي لم يرَ أحدًا سواي، كيف له أن يؤذيني بهذه الطريقة؟
ثم خطرت لي فكرة أخرى…
في النهاية، سيزار مجرد رجل.
ربما أنا التي بالغت في النظر إليه ببراءة، وأسأت فهم طبيعته.
ربما كنت أعيش وهمًا صنعته لنفسي.
“هَاه… هـهَه…”
بمجرد أن فكرت بذلك، انهمرت دموعي بحزن أعمق.
كم كنت حمقاء… يا لي من مغفلة.
لماذا خطرت لي تلك الفكرة؟
حمقاء… حمقاء، يا إيرينيا.
كنت أريد فقط أن أهرب.
لكن إلى أين؟
لا مكان ألجأ إليه.
هذا ليس بيتي.
لا أحد في هذا القصر يقف إلى جانبي.
الكل أعدائي… الكل يراقبني.
مع هذا التفكير، دبّ الرعب في قلبي.
خرجت من هناك متهورة… دون أي تفكير.
لا بد أن أحدًا قد رآني.
ماذا لو بدأت الشائعات؟
بدأت مخاوفي تحاصرني… إلى أن سمعت صوتًا.
“لماذا تبكين؟”
كان رجلاً مألوفًا جدًا.
وجه لا يمكن نسيانه، لأنه يشبه الإمبراطورة الكريهة تمامًا.
“الأمير الثاني… سموّك؟”
“إيرينيا.”
ناداني باسمي.
كان ذلك تصرفًا وقحًا للغاية.
“أرجوك… ناديْني بلقب زوجة ولي العهد.”
أدرت رأسي قليلاً، ومسحت دموعي وأنا أصحح له اللقب.
لكنّه أمسك برسغي بلطف.
“قلت، لماذا تبكين؟”
“هذا ليس من شأن سموّك”
“بل هو كذلك.”
“نعم؟”
“حين تبكي امرأة، فمن شيم النبلاء أن يهتموا.
خاصة إن كانت مجروحة هكذا.”
ناولني منديلًا صغيرًا ووضعه بلطف على عنقي.
“شكرًا… لك…”
لم أعرف ما أقول، فأومأت له بارتباك.
لكنّي شعرت بعدم الارتياح فورًا.
هل يليق بي شكره؟
إنه ابن الإمبراطورة…
“لا تُشكر أحدًا على لُطفٍ يُفترض أن يكون بديهيًا. لن أسألك كيف أصبتِ، لكن يبدو أن تلقيكِ للعلاج أمر ضروري.”
“هذا ليس من شأن سمو الأمير.”
قلتُ ذلك بنبرة حاسمة.
“لكنك لم تُجيبي على سؤالي بعد.”
“عفوا؟”
“لماذا بكيتِ؟”
تحدّق عيناه الزرقاوان في وجهي بصمت. كانت نظرته نافذة، تكاد تُشعرني بالثقل.
“…”
ولما لم أجب وبقيت على صمتي، ابتسم ابتسامة خفيفة.
“لن آكلكِ. هل تظنينني غريب الأطوار إلى هذا الحد، يا سيدة المستقبل؟”
رغم كلماته الساخرة، كنت لا أزال متوترة، أجهل ما قد يفعله، فبقيت متيبّسة. عندها التفت إلى أحد خدمه خلفه.
“بيرتوتشيو.”
تقدّم رجل ضخم الجسد، أسمر البشرة.
“أمركم، سيدي الأمير.”
“اذهب وأحضِر أدوات الإسعاف الأولي.”
“حالًا.”
وبينما انصرف بيرتوتشيو بخطى سريعة، أمسك ماتياس بيدي وسحبني معه. لم أستطع مقاومته، ولم أجرؤ على الابتعاد، فتبعته دون حول مني. توقفنا عند جناح خارجي فيه نافورة ماء.
ما إن جلسنا، حتى عاد بيرتوتشيو يحمل صندوقًا خشبيًا يحتوي على زجاجات دواء صغيرة، ملقط، مقص، وضمادات نظيفة.
“أحمله معي تحسبًا لإصابتي أثناء الصيد أو التدريب.”
قال ذلك وهو يخرج الملقط والمطهر بخفة يد وخبرة.
“سيؤلم قليلًا، لكن تحمّلي.”
سكب المطهّر على قطعة قماش كتان بيضاء، ثم وضعها مباشرة على عنقي. شعرت بحرقة شديدة جعلتني أرتجف وأبتعد.
“آه…”
لكن ماتياس أمسك بكتفي بثبات، وأعاد الضغط على الجرح بهدوء.
“إن لم تُعالج الجروح جيدًا، تتقيّح. هل تعرفين كم هو خطير التهاب بسيط؟ ستترك ندبة كبيرة. وماذا ستفعلين إن شوهتِ بشرتكِ بندبة؟”
“ن…ندبة؟”
همستُ بقلق، وعيناي تدوران بتوتر، وشفتاي تتحركان دون أن يخرج صوت واضح.
“لـ… لكن يمكنني الاعتناء بها بنفسي… أستطيع… طلب الطبيب الخاص…”
لكني لم أتمكن من إنهاء أي جملة. حتى أنا شعرتُ بأنني أبدو سخيفة، فخفضت رأسي خجلًا من نفسي.
“لا تُفكّري بتفاهات الآن.”
قالها وهو يعيد الإمساك بالملقط، ثم وضع طبقة سميكة من مرهم ذي رائحة عشبية نفّاذة.
“الرائحة قد لا تعجبكِ، لكنها فعالة جدًا.”
ثم لفّ الجرح بضمادة نظيفة وأتمّ العلاج بعناية. رفعت يدي ببطء ولمست عنقي.
أوصاني ماتياس بجدية:
“افتحي الجرح كل يوم، وامسحيه بالمطهر. وخذي هذا.”
أخرج زجاجة صغيرة من الصندوق ووضعها في يدي.
“ما… ما هذا؟”
“خليط من نخاع السمور المغلي، مضاف إليه أعشاب طبية نادرة ومسحوق لؤلؤ. يُساعد في التئام الجرح وتخفيف أثر الندبة. ضعيه على الجرح مرتين يوميًا.”
“هـ… هذا النوع من الأدوية…”
ترددتُ في الرد، لكنه ابتسم من جديد، وفتح الزجاجة ودهن القليل من محتواها على ظاهر يده.
“لا يحتوي على سم. كما قلت، هذه أدواتي الخاصة. هذا مرهم يُسرّع الشفاء ويمنع تشكّل الندب.”
لم أكن أظن أن فيه سمًا، لكنني ببساطة لم أستطع رفضه. أخذت الزجاجة من جديد، أنظر إليها ثم إلى وجهه، وأتريّث في ردة فعلي.
“هل من المعقول أنكِ لن تُكافئيني ولو بقبلة شكر؟”
قالها وهو يبتسم، وكأن مساعدته لي كانت محض مداعبة.
التعليقات لهذا الفصل " 69"