فصل 68
أنفاسه الحارّة كانت تفيض برغبةٍ واضحة. شعرتُ وكأنه يريد التهام جسدي، عظمي ولحمي، قطعةً تلو الأخرى. لم أستطع تحمّل هذا الإحساس، فتمسّكت بكتفيه وأنا أعضّ شفتي وأشهق بالبكاء.
“ت-توقف… أآه…”
ارتجف جسدي وأنا أتوّسل إليه. حاولت أن أضمّ ساقي سريعًا، لكن قوتي لم تكن كافية لمجاراته. وحتى حين حاولت التراجع، لم يلمس ظهري سوى ذراع الأريكة.
تنفّس سيزار بقوّة مرةً أخرى. لا، بل كان يشمّ رائحتي. وخرج من حلقه صوت زمجرةٍ وحشية، ثم بدأ ينهار فوقي كما لو أنه يعبث بفريسته قبل التهامها.
تطاير شررٌ صغير أمام عينيّ ثم انفجر. كان هناك شيء يحترق داخلي، ثم بدأ يتقلّص ويجفّ تمامًا. قشعريرة اجتاحتني، بردٌ تسلل إلى جسدي، وما لبث أن تلاه دفءٌ تصاعد تدريجيًا، حتى أصبح نارًا حارقة تهدد بابتلاع كياني كلّه.
كنت خائفة. مرعوبة لدرجة أن جسدي كله كان يرتجف. هذا لم يكن سيزار الذي أعرفه. لم يكن يستجيب لرجائي، لأن هذا ليس هو الرجل الذي أعرفه. ولهذا السبب، لم يكن توسّلي يصل إليه.
حين راودتني تلك الفكرة، اندفعت الدموع من عينيّ بحرقة من شدة الألم في قلبي.
“هاه… ههق… ههيوك… ههيينغ…”
لم أعد أحتمل، فبدأت أصرخ باكية وأتخبط في مكاني. كنت أكره سيزار، لأنه جعلني أغرق في هذه المشاعر. وكلما فكرت في ذلك، انفجرت الدموع من جديد دون توقف.
حينها توقف سيزار فجأة عن الحركة وأخذ يحدق بي بصمت. ربما لأنه تفاجأ من بكائي الشديد، بدا عليه بعض الارتباك والدهشة.
“أ… أأه…”
لكن فجأة، انحنى برأسه بشدة وبدأ يئن بصوت خافت. كان يتصبب عرقًا باردًا، وعقد حاجبيه بشدة وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة لنفسه.
“لا… لا تفعل… أرجوك…”
هز رأسه بعنف مرارًا وتكرارًا، وكأنه يتحدث مع شخص غير مرئي. كان يبدو غريبًا، ومشهدُه جعلني أشعر بشيء غير مريح.
لكن كلما فكرت أكثر في الموقف الذي أنا فيه، شعرت بالذهول واللا معقولية، فامتلأت عيناي بالدموع مجددًا. كنت أرتجف بشدة وصدري يهتز من البكاء. وبين شهقاتي، بدأت أضرب صدر سيزار بقبضتي الصغيرة.
“أيها… الأحمق… ههق… ههيك…”
“…رين، هل أنتِ غاضبة؟”
عندها، وبعد صوتٍ متألمٍ طال صدوره، سأل سيزار بهذا الشكل. وفي تلك اللحظة، استطعت أن أشعر بذلك. لقد عاد… لم يعد ذلك السيزار البعيد، الغريب، بل عاد سيزار الخاص بي، سيزار الذي أعرفه.
لكنني كنت قد فقدت صوابي، ممزقة بين الحزن والغضب الذي اجتاحني في آنٍ معًا.
“أنا غاضبة!”
فصرختُ بذلك بقوة، لدرجة أنني نسيت أن أضبط نبرة صوتي أو حتى أتماسك، ووبختُه بشدة. عندها، أطلّ سيزار بوجهٍ مشرف على البكاء، ثم احتضنني بقوة.
ولسببٍ ما، زاد ذلك من ألمي، فانفجرتُ بالبكاء مجددًا. وما إن بدأت الدموع، حتى رفضت أن تتوقف بسهولة.
حينها، دوّى صوت طرق على الباب داخل الغرفة. لقد عادت ديلفينا.
“صاحبة السمو؟”
ولمّا لم يأتِ رد من الداخل، بدا أنها استشعرت الأمر غريبًا، فطرقت الباب عدة مرات أخرى.
تشتت انتباه سيزار بذلك الصوت، وخفّت قبضته التي كانت تشدّني بشدة.
فلم أفوّت الفرصة، ودفعته بقوة. تلك اليد التي كانت تقيدني بقوة منذ لحظات، انزلقت هذه المرة بسهولة.
كان كل شيء، بطريقة ما، مجرد سراب. رتبت ياقة ثوبي بسرعة وتوجهت نحو الباب.
حاول سيزار اللحاق بي، لكنني صرخت بحدة:
“لا تتبعني!”
ثم فتحت الباب على مصراعيه. كان وجه دلفينا المربك يطل من ورائه. كانت تجر عربة محمّلة بطعام دافئ أعدّته لي، يتصاعد منه البخار وتفوح منه رائحة شهية، لكنني لم أتمكن من تذوق أي منه، إذ كان عليّ أن أركض إلى الخارج.
***********
زار ماتياس قصر والدته ليؤدي تحية الصباح للإمبراطورة بعد غياب طويل. لم يكن رضا والدته سهلاً بعد أن غاب عن زياراته المعتادة لبضعة أيام، خاصة وأن مزاجها كان متعكراً منذ الخلاف الأخير مع زوجة ولي العهد.
“، جلالة الإمبراطورة. هل أنتي بخير؟ أحييكي، ابنك غير البار.”
“أجل، يبدو أنك لم تزُرني منذ زمن طويل.”
حدّقت الإمبراطورة كورنيليا في وجه ابنها بمقلتيها الحادتين، تراقب ابتسامته المتملقة. نهض ماتياس على الفور واقترب منها، ثم قبّل ظاهر يدها.
“أمي، هل حدث شيء مجددًا؟”
“إذا كان هناك ما حدث، فأنت من المفترض أن تعرف أكثر مني ، أليس كذلك؟”
دارت عينا ماتياس في الفراغ. ما الذي أزعج والدته هذه المرة أيضًا؟ هناك الكثير من الأمور الضيقة والمربكة.
“يبدو أنك لا تستطيع أن تفهم، لذا سأعطيك طرف خيط. هل يُذكّرك اسم عائلة كونت مونتاناري بشيء؟”
قطّب ماتياس حاجبيه. مونتاناري، عائلة كونت مونتاناري…
“آه، تقصدين الآنسة إنريكا مونتاري؟ نعم، أتذكرها.”
تذكّر ماتياس بصعوبة أن هناك شامة صغيرة بحجم العملة بين صدرَي الآنسة إنريكا الممتلئين.
“نعم، تلك هي مونتاري. الكونت مونتاناري طلب المثول أمامنا عدة مرات هذا الشهر وحده، لا تعرف كم مرة فعل ذلك.”
حاول ماتياس أن يتذكّر إن كانت تلك الشامة حقيقية أم أنها مجرد شامة ملصقة. لم يستطع التمييز. في رأسه كانت أجساد عدد لا يحصى من النساء تمر وتختفي، ولم يكن قادرًا على تحديد أيها كانت لإنريكا.
بدأت ملامح الحديث تتضح، لكن ماتياس تظاهر باللامبالاة وتجاهل الأمر تمامًا.
“ما الذي حدث تحديدًا مع الكونت في تلك الأيام؟”
عندها أصبحت نظرات كورنيليا أكثر حدّة.
“أليس لأن آنسة تلك العائلة فجأة أخذت طفلاً لا يُعرف له أب، فكان من الطبيعي أن يشعروا بالاستعجال؟”
“أه، هكذا إذًا؟”
ردّ مارتياس بلا مبالاة، مما دفع كورنيليا أخيرًا إلى الانفجار غضبًا.
“‘أه، هكذا إذًا؟’ أتقول هذا وكأن الأمر لا يعنيك؟! أترغب بتكوين فرقة كاملة من أبناء الحرام فقط لتجعلني أمزق ثيابي من الغيظ؟!”
“مستحيل طبعًا. لا أريد مثل هذه الفرقة، ثم ما الفائدة من إنجاب أبناء غير شرعيين مثلي على التوالي؟”
عندها ردّت كورنيليا بحدة كأنها تمزق الكلمات بأسنانها.
“أنت وريث هذه الإمبراطورية، أحمق! لا تجرؤ على التلفظ بمثل هذه الكلمات. من الذي قلت إنه غير شرعي؟!”
ابتسم ماتياس بخفة، ثم راح يراقبها بعينيه بفضول وكأن تصعيدها للغضب يثير اهتمامه.
“أمم… هل تقصدين الطفل في بطن الآنسة إنريكا؟”
عند هذا الرد السخيف من ابنها، لم تستطع كورنيليا إلا أن تجمد من الصدمة.
ردًا على إجابة ابنها غير المعقولة، كانت كورنيليا تغلي من الداخل، لكنها بالكاد تمالكت نفسها.
“أحسنتَ قولًا. ذلك الكونت مونتاناري طلب إجراء اختبار نَسَب للطفل في بطن الآنسة إنريكا.”
“آه، فهمت.”
وبسبب إجابته الهادئة تلك، بدا أن الإمبراطورة قد سئمت تمامًا، فقبضت يدها بإحكام وأخذت تلهث غيظًا.
“لقد سئمت من مجاراتك في لعبتك هذه.”
“يا إلهي، يبدو أن والدتي قد غضبت بشدة.”
قال ماتياس ببرود ثم طبع قبلة على خد كورنيليا. كانت طريقته المائعة لدرجة أن أي شخص يشاهد المشهد سيشعر بالاشمئزاز من وقاحته.
“إذا غضبتِ هكذا، سيتشوه وجهكِ الجميل.”
ردت كورنيليا بنبرة متذمرة، على غير عادتها.
“ألستَ أنت من يجرّ عليّ الهموم دائمًا؟”
حينها همس ماتياس بهدوء في أذن كورنيليا:
“أليست والدتي العزيزة من سيتكفّل بإزالة هذا الهمّ؟”
ارتخى تعبير وجه كورنيليا شيئًا فشيئًا. وعندما فتحت عينيها نصف فتحة وأمالت رأسها للخلف ببطء…
شعره الأحمر كالشمس المشتعلة، وعيناه الزرقاوان باردة كالجليد. ماتياس كان أشبه بتحفة نُسجت من أجمل ما في كورنيليا. حتى ملامحه الجميلة تشابهها بها حد التطابق، ما جعلهما يبدوان في غاية الجمال. للوهلة الأولى، لم يبدوا كأم وابنها، بل كأخ وأخت.
ماتياس كان يعرف جيدًا نقاط ضعف كورنيليا. في الأصل، هو كان يعلم تمامًا أنه الوحيد الذي يُعد نقطة ضعفٍ وجرحًا في قلب هذه المرأة الفولاذية.
ولهذا، كان يعرف جيدًا كيف يتصرف ليُرضي قلب والدته. يعرف ذلك… جيدًا جدًا.
«لقد جربت بالفعل، يا له من جشع أولئك الريفيين.»
«كالعادة، لا أحد يقدّرني إلا أنتِ، أمي.»
همس ماتياس في أذنها بصوت منخفض، ثم طبع قبلة أخرى على خدها.
«ماتي، هذا تصرف غير لائق للغاية، أليس كذلك؟»
احمرّ خد كورنيليا بلونٍ وردي كالخجل الذي يظهر على وجه فتاة صغيرة.
«أمي، أنتِ تحبينني أكثر كلما تصرفت بوقاحة، أليس كذلك؟»
“إنها مجرد نظرة متفائلة.”
تنهدت كورنيليا بلطف وهي تمسح وجنة ابنها بحنان.
“ماتي، أنت ستكون في يوم من الأيام إمبراطور الإمبراطورية. لذا لا يجب أن تزرع بذور الفتنة منذ الآن.”
“لقد سئمت سماع ذلك، أمي. ‘كن إمبراطور الإمبراطورية، يا ماتي.’، ‘أنت خليفة العرش القادم، يا ماتي.’ إمبراطور، إمبراطور، إمبراطور! هل تعلمين، أمي، أنك بدأتِ تشبهين ببغاواتك اللواتي تربّينهن؟”
قلد ماتياس نبرة كورنيليا بسخرية، ولم يكن أحد غيره يجرؤ على تجاوز الحدود بهذا الشكل معها.
“ومن غيرك برأيك يمكنه أن يصبح إمبراطورًا؟ ذلك الأحمق؟”
“على الأقل، شيوخ حزب بوجوبا وزعماء الكتب الشرقية يريدون لذلك الأحمق أن يصبح إمبراطورًا.”
“أولئك المتخلفون لا فائدة منهم. أغبياء كهؤلاء، ماذا عساهم أن يعرفوا؟”
“لكن، أمي، هناك شائعات بأن حالة ذلك الأحمق الصحية تحسّنت كثيرًا.”
عندها توقفت كورنيليا للحظة وأمالت رأسها قليلًا.
“حقًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 68"