كانت ملابسي مبعثرة وأنا أكافح من أجل البقاء. بكيت مرة أخرى عندما شعرت بإحساس جلدي يفرك عليه للحظة.
“يا سيزار، توقف، توقف….”
ولكن لم يكن لديه أي نية للتوقف. أعقب ذلك شعور بقطع اللحم إلى العظام والتنفس الثقيل. بطريقة ما، كان عليّ أن أنحني لمواكبة تحركاته. ثم شعرت بإحساس حار في جسدي ،
كان حزام الرباط الذي كان من المفترض أن يحمل جواربها في مكانها قد انحل منذ فترة طويلة، ليكشف عن ركبتيها المصابتين بالكدمات فوق جواربها المتدفقة. لقد كان بالفعل مكانًا مليئًا بالندوب القبيحة بسبب قطعه دائمًا بالسكين لإعطائه الدم. كانت ركبتي ترتجف بشدة حتى بدا الأمر كما لو أن أطراف أصابعه كانت ترتجف معي. لم أعلم هل كنت أشعر بالحرج من الموقف أم بالحرج من رؤية الجرح، لكنني غطيت وجهي بكلتا يديّ.
“هاه.”
في تلك اللحظة، أمسك سيزار بكاحلي وعض ركبتي بقوة. ربما كان ذلك لأنني شعرت به وأنا مغمضة العينين، ولكن لسبب ما، شعرت بإحساس غريب قبل الألم.
في الآونة الأخيرة، أصبح سيزار يشعر بأن ذهنه قد أصبح أكثر صفاءً. كانت ذاكرته دائمًا وكأن شيئًا ما ينهشها، فتبدو مواضع منها خاوية أو مغطاة بستارٍ مظلم، سوداء وغامضة.
منذ وقتٍ ما، أصبح الألم رفيقًا دائمًا لحياته. وهو نفسه لا يعرف تحديدًا متى بدأت هذه الأعراض.
كان كل نفسٍ يأخذه أشبه بابتلاع لهب، وكل حركة صغيرة تصاحبها آلام تلوية في مفاصل عظامه. ولم يكن ذلك فحسب. في كل مرة ترتفع حرارته، كان يشعر وكأن سُمًا ساخنًا يجري في عروقه ويغمر جسده بالكامل، وكان عليه أن يصرخ ليصمد في وجه ذلك. بعض الأيام، كان الألم يعصف به كمن يريد إحراقه بالكامل، ثم في أيام أخرى، يختفي وكأن شيئًا لم يكن. وفي كل مرة يحدث ذلك، كان يسمع صوتًا.
— هيا، سيزار…
ذلك الصوت كان يظهر كلما أنهكه الألم، يحرضه على التحرك ويدفعه ليصبح أكثر فوضوية ووحشية.
— أحسنت، تابع الجنون أكثر.
— لنُرِهم قوتنا.
ذلك الصوت كان دائمًا ما يقوده إلى الطريق الخاطئ. وإن حاول رفضه، كانت آلام مبرحة تشعل جسده كالنار.
كما أن جسده الذي تغير أصبح يتسبب له في الألم باستمرار. حواسه الخمس أصبحت حادة إلى درجة مزعجة جعلت من الحياة اليومية أمرًا شبه مستحيل.
كان يسمع صوت سقوط عملة على بعد مئة قدم ، ويكاد يسمع همسات كل من في القصر الإمبراطوري.
أما حاسة الشم، فحدث ولا حرج. الروائح القوية، القذارة، المستنقعات، والعطور التي تغطيها، كلها كانت تجعله يشعر وكأن رأسه سينفجر.
وبسبب هذه الحواس المفرطة الحساسية، كان يعاني طوال الليل من الروائح الكريهة والضجيج.
“أرجوكم… فقط أعطوني شيئًا آكله.”
“لص! أمسكوا بذلك الرجل!”
“لقد لمسني بشكل فاحش ! ادفع لي المال حالًا!”
“أيتها العجوز القذرة!”
سواء فتح عينيه أم أغمضهما، كان يرى أشياء لا يرغب في رؤيتها. ماضٍ ومستقبلٌ لأشخاص غرباء يتدفقون إليه رغمًا عنه.
كان العالم قبيحًا ومليئًا بالشر. حتى إن حاول سد أذنيه بيديه، أو حجب عينيه بأي وسيلة…
كان العالم قبيحًا ومليئًا بالشر. حتى وإن سدّ أذنيه بيديه، وحتى وإن غطّى عينيه، فإن تلك الأصوات، تلك الأوهام، وتلك الأشياء التي لم يرد أن يعرفها، كانت تظل تدور في رأسه دون توقف.
“ذلك وحش ملعون!”
“لا، لا يمكن أن يكون ابني هكذا!”
“كيف يمكننا أن ندعو مثل هذا الوحش أميرًا؟!”
لم تتوقف الآهات والحسرات التي كانت تحيط به. بعضهم كان يخشاه، وبعضهم كان يذرف الدموع كلما رآه، وآخرون كانوا يحتقرونه ويرمقونه بنظرات ملؤها الكراهية. كل ذلك كان كالسكاكين الحادة والباردة التي تنغرس في قلبه، فكان يحمل دائمًا جراحًا متقيحة في صدره.
كان الظلام بالنسبة له شيئًا حزينًا ومخيفًا للغاية. كلما مدّ يده، لم يكن يصل سوى إلى الفراغ والرعب. صرخ مرارًا، وضرب الجدران، لكن ما كان يعود إليه لم يكن سوى صدى صوته، يتردد في الفراغ بصوت أجوف.
كان الألم الحاد الذي يمزق صدره يجعله ينكمش باستمرار. لذا، لم يكن أمامه سوى أن يصرخ ويجهش بالبكاء. لم يعرف طريقة أخرى. لم يكن مسموحًا له بأي شعور آخر سوى ذلك.
لقد كان سجينًا في هذا الظلام الرتيب والضخم. سجينًا في سجنٍ جحيمي لا حارس فيه، حيث كانت حياة السجين فيه مملة حدّ الألم.
كان دائمًا يبحث عن شيء جديد. سيزار دي لا روزا كونستانتيني فيوري، كان إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولهذا لم يكن قادرًا على النجاة وسط هذا الملل القاتل. لكنه، مهما أدار ناظريه، لم يكن يرى سوى الجنون القبيح والظلام اللزج.
وبعد وقتٍ ما، حتى سعيه وراء الجديد قد تلاشى. تخلّى عن الحياة نفسها. لقد كان ذلك سقوطًا ببطء في ظلمة اللامبالاة. مستنقع لا قاع له، ذلك المكان اللزج والرطب كان دوامة هائلة غارقة في مشاعر متشابكة.
وفي أحد الأيام، نزل شعاع من الضوء وسط كل ذلك. كان ساطعًا ودافئًا لدرجة أنه لم يستطع فتح عينيه في البداية.
لم يكن قادرًا حتى على إدراك هذا الضوء كما ينبغي. كل ما شعر به أنه شيء نقي ومنعش قد جاء إليه. لأن المستنقع الذي غرق فيه كان عميقًا جدًا، لدرجة أن النور بالكاد وصل.
«أنا إيرينا.»
ذلك الشيء الدافئ كان يُدعى رين. كرّر الاسم مرارًا على لسانه، خشية أن ينساه.
رين، رين، رين… اسم الضوء الذي نزل عليه.
كانت رين مدهشة. حين يكون بقربها، كانت تلك السموم التي تنهش جسده تتلاشى بهدوء، ويشعر بانبعاث غريب في ذاته…
اختفى الألم بهدوء. عندما تمسك بيده، كان العالم يصبح أكثر إشراقًا. وعندما تمرر أصابعها الرفيعة بين خصلات شعره، كان صدره يمتلئ بالبهجة.
في عالم ولي العهد، الذي لطالما كان مليئًا بالقبح والألم والأشياء اللزجة المقززة، دخل شيء مشرق ودافئ لأول مرة.
كان من الطبيعي أن يحب “رين”. بل يمكن القول إنه كان حبًا لا مفر منه.
لم يكن يطلب الكثير. فقط إن بقيت “رين” بجانبه، شعر أن ذلك البرد الذي يتغلغل في عظامه قد يزول.
لكن، في أحد الأيام، بدأ يسمع ذلك الصوت مجددًا.
— “ألا تريد امتلاكها؟”
امتلاك ماذا؟ لكنه كان يفهم بغير وعي.
— “وماذا لو فقدتها؟ ماذا لو قالت لك ذات يوم إنها سترحل؟”
ذلك الصوت كان يعرفه جيدًا. يعرف ما الذي يخشاه أكثر من أي شيء آخر.
— “إن اختفت رين، فستُترك وحيدًا في هذا الظلام مرة أخرى، أليس كذلك؟”
لقد كان يخشى أن يبتلعه الظلام من جديد.
كان يخشى أن يبتلعه الظلام. سئم من التحمل وسط تلك الهاوية الأبدية التي لا تُرى لها نهاية، حيث لا يسمع أحد سواه تلك الأصوات المؤلمة.
—إذاً، عليك أن تمد يدك. أن تُدخله إلى جسدك إلى الأبد.
همست له تلك الأصوات في الظلام. حثته أن يأخذ ذلك العطر، أن يلتهم ذلك الجمال الساحر، أن يضعه في فمه.
لم يكن ينوي التخلي أبدًا عن ذلك النور الوحيد الذي هبط إلى عالمه المظلم.
لو استطاع، لابتلعه كله. لأكله قضمةً تلو الأخرى، دون أن يترك حتى شعرة أو عظمة. لم يكن سيتبقى أي لحم، ولا قطرة دم. أراد أن يبتلعه بالكامل، لو كان ذلك يعني أنه سينال ذلك النور.
—مزّق أحشاءها، سيخرج شيء أفضل.
ذلك الشيء الذي يريده أكثر من أي شيء آخر. الساخن كالحياة. العالي، الجميل. شعلة الحياة التي قد تُذهب عنه ذلك البرد للحظات.
لكن إن فعل ذلك… فإن “رين” سيبكي. انظر اليه فقط… إنه يرتجف من الخوف بالفعل.
“انظر، إنها ترتجف من الخوف بالفعل.”
—”وما شأنك؟ افعلها فحسب!”
*******
لم أسمح لأحد من قبل بتقبيلي . حرارة حارقة اجتاحت فمي بالكامل.
كان هناك شيء غريب… غريب إلى درجة أنني رغبت في معرفة ماهية هذا الإحساس. لكن سرعان ما تلاشى هذا الفضول تحت وطأة ما أتى لاحقًا.
شعرت أنني أختنق. كنت أفتح فمي أحيانًا لألتقط بعض الهواء، كان يمنع تنفسي بقبضته على فمي. كل شيء في فمي أصبح ملكًا له، وبدأ وعيي يتلاشى تدريجيًا. رأسي أصبح طريًا كالعجين وبدأت أشعر بالدوار.
حرارة سيزار كانت أعلى من المعتاد… لا، بل أشبه بالجمر، وكأنني أحتضن كرة من اللهب.
“آه، هـه…”
استمريت في الارتجاف أسفله، بينما كانت شفتاه قد غادرتا فمي، ولعق مرة أخرى الدماء التي سالت من عنقي، ثم انحدر إلى ما بعد عظم الترقوة، وكأنه يطبع ختمًا خاصًا به على جسدي.
رعشة شديدة انزلقت على طول عمودي الفقري. سمعت دقات، دقات، دقات في أذني. كان صوت نبضات قلبي. كانت تخفق بسرعة كبيرة، لدرجة شعرت أنني إن بقيت هكذا، سأموت من فرط التنفس خلال ساعة. الدم كان يندفع في عروقي بسرعة جعلتني أشعر بالدوار.
ورغم كل ذلك، بدأت آثار تظهر على الجلد الناعم. كان يلعقها بلطف بلسانه، ثم يعضّها بأسنانه بعناية، حتى شعرت أن تلك اللمسات بدأت تقترب من فخذي.
أصابني رعب مفاجئ.
لأنني شعرت أنني وسيزار نتجاوز حدًا لا ينبغي تجاوزه. رغم أننا تبادلنا الاقتراب الجسدي كثيرًا من قبل، لم يسبق أن شعرت بمثل هذا من قبل.
التعليقات لهذا الفصل " 67"