الفصل 64
صرختها كانت موجعة للغاية.
رغم أن مرسيدس قد آذتني وقتلت الناس، إلا أن سبب أفعالها – إن كان لا بد من تسميته – لم يكن لمصلحتها أو لغرض أناني، بل كان بدافع خالص لحماية سيزار.
رغم أن الوسيلة التي اختارتها كانت خاطئة، إلا أن مرسيدس كانت بوضوح إنسانة أرادت أن تحمي سيزار.
ربما، مشاعر الشفقة التي أكنها لها الآن قد تكون خاطئة من الأساس.
لكنني لم أستطع كره مرسيدس بالكامل.
ربما لأنني رأيت لمحة من ماضيها المؤلم، وتعاطفت معها بعمق.
هززت رأسي وكأنني أطرد تلك الأفكار من ذهني.
“لكن ما فعلتِه تجاوز الحد. ألم تدركي أن هذا ما جعل سيزار يتعثر؟”
“آه… آه…”
حينما ذكرت اسم سيزار، بدأت تهز رأسها يمينًا ويسارًا.
“هل تظنين أن سيزار كان يتمنى حقًا أن تقتلي أربعًا من المرشحات لمنصب زوجة ولي العهد؟”
“لـ… لا… لم أقتلهن… لم…”
بدأت عينا مرسيدس تزدادان غموضًا وارتباكًا، وأمسكت بالقضبان وأخذت تهز رأسها بعنف.
“بل قتلتِ خمسة أشخاص.”
“آه… آه… لا أتذكر…”
“لا تتذكرين؟”
لسبب ما، لم أستشعر الكذب في كلمات مرسيدس، لذا سألتها مجددًا:
“حقًا لا تتذكرين شيئًا؟ كيف قتلتِ المرشحات الأربع؟”
“حقًا. صدقيني. لا أتذكر شيئًا…”
“لا تتذكرين…”
في تلك اللحظة، تذكرت كلمات قالها لي ريشار ذات مرة:
> “في الواقع، قد يكون لهذا معنى. لم تكن مجرد انحراف شخصي، كانت مسكونة تمامًا بالجنون.”
قررت أن أُعيد لها بعضًا من ذاكرتها:
“تذكّري يا مرسيدس، المرشحة الأولى انزلقت قدماها، وارتطم رأسها بشظايا إناء خزفي، ثم دخلتِ أنت وخنقتها باستخدام وسادة.”
“كـ… كيف عرفتِ ذلك…؟”
ارتعدت بشدة من التفاصيل التي رويتها. ثم انهارت على الأرض جالسة.
واصلت سرد كيف قُتلت باقي المرشحات، ما كنت قد رأيته بعين بصيرتي، أو ما مررت به بنفسي.
“ما يثير فضولي أكثر هي المرشحة الرابعة، ابنة مركيز بيريغرينو، التي ماتت مسمومة.”
“بيـ… بيـريغرينو؟ سم؟”
اهتزت عينا مرسيدس بقوة، وكأنها بدأت تتذكر شيئًا غامضًا.
ترددت كلماتها على شفتيها، ثم أمسكت برأسها فجأة وأطلقت أنينًا مؤلمًا.
“لقد ماتت بعد أن شربت السم. السم كان في الكانولي الذي أعطيتِه لها.”
“كـ… كيف عرفتِ شيئًا كهذا…؟”
مرسيدس الآن كانت ترتجف بشدة حتى بدت وكأنها ستفقد وعيها.
رفعت صوتي أكثر:
“تذكّري! ذلك السم، من أين حصلتِ عليه؟ ومن أعطاكِ إياه؟”
هذه المعلومة كانت مستعصية حتى على بصيرتي.
صحيح أن قدرتي كانت ناقصة، ربما لأنني لم أتعلم السيطرة عليها بالكامل،
لكن في هذه المسألة تحديدًا، لم يكن الأمر مجرد نقص مني،
بل كان هناك شيء ما يعيق الرؤية، كما لو أن ستارًا أسودًا يمنعني من رؤية الحقيقة.
لذا كان عليّ أن أسمع ذلك من مرسيدس نفسها.
“لا… لا أعرف… آه… رأسي… يؤلمني كثيرًا…”
كانت تعض على أسنانها وتخدش الأرض بأظافرها من شدة الألم.
“أين وضعتِ زجاجة السم؟”
أطلقت صرخة مؤلمة لم تعد قادرة على كبتها.
تابعت سؤالي بإلحاح:
“علينا أن نعرف، لنكشف القاتل الحقيقي. أرجوكِ!”
كان هناك شخص ساعد مرسيدس في جرائمها.
وإن كانت فرضيتي صحيحة، فقد كان هذا الشخص يسيطر عليها من الظل،
ويعبث بعقلها، ويقودها للهاوية.
حينها، كل شيء سيكون منطقيًا.
لم تكن مرسيدس الضعيفة والجبانة لتقدم على هذا لوحدها.
“فـ… في غرفتي… الدرج الثالث في المكتب… هناك مكان سري… بداخله…”
قالت ذلك بصعوبة بعد أن تذكّرت شيئًا.
“ألا تذكرين من أعطاكِ السم؟”
“فقط… في أحد الأيام… وجدته عند الباب. كان يُقال إنه سمّ لا يمكن لأي فحص كشفه… هدية من الإله…”
“هدية من الإله؟”
يا لها من عبارة مشبوهة.
شخص ما وضع زجاجة سم أمام بابها، وهي لم تشكّ في الأمر إطلاقًا.
بل استخدمته لتقتل شخصًا، ولم يُشكك بها أحد.
“الشخص الذي قد يكون وراء كل هذا هو…”
ظهر في بالي اسم واحد.
كل الأدلة الغامضة كانت تشير إليه.
شخص قادر على تحريك الأحداث، وإخفاء الأدلة،
ويمتلك النفوذ والمهارة لفعل ذلك.
لكن لم يكن لدي دليل قاطع.
“ربما إذا فحصنا زجاجة السم، سنصل إلى الجواب.”
وحين حصلت على ما أريده، هممت بالمغادرة.
“انتظري لحظة!”
مرسيدس أمسكت بكاحلي من الخلف.
وقفت بهدوء، بانتظار كلماتها.
“أرجوكِ… أرجوكِ، احميه… احمي الأمير سيزار… احمي سموّه…”
انحنيت وأمسكت بيدها، وقلت لها بصوت حازم:
“سأحمي سيزار مهما حصل.”
نعم، كنت واثقة من ذلك.
مهما حدث، لن أتراجع عن هذا القرار.
وبدا أن مشاعري قد وصلت إليها، فتركت يدي بهدوء.
ومع ابتعادي، كررت قولي:
“سأحميه، أعدك.”
أومأت برأسها وبدأت بالبكاء الشديد.
شعرت أنني لن أنسى هذا المشهد ما حييت.
وبينما كنت أغادر برج الشمال، كان صوت نحيبها يملأ الممرات.
ظل صداها يتردد في أذني طويلاً،
كعشب لزج عالق بطرف الرداء،
أو حبة رمل داخل الحذاء،
أو شوكة مغروسة في الجلد…
مزعجة ومؤرقة على نحو لا يُحتمل.
لكن… السم الذي ذكرت مرسيدس مكانه لم يُعثر عليه أبدًا.
رُبّت الأدراج، والمكتبة، وكل أمتعتها القليلة…
ولم يظهر زجاج السم.
لا نعلم إن كانت تتخيل،
أم أن أحدهم تدخّل وسرقه.
لم يتبقَّ سوى الشك والريبة.
وعند غروب الشمس، نُفذت العقوبة بحق مرسيدس كما هو متفق عليه،
وصعدت روحها من على منصة الإعدام.
ولأن إعدام الخونة كان نوعًا من الترفيه الجماهيري،
فقد أُقيم وسط ساحة البلدة.
وبالرغم من أن الأمر لا يُعقل،
إلا أنني كنت أسمع هتاف الجماهير من داخل غرفة نومي بقصر الزمرد.
أمضيت اليوم كله وأنا أشعر بانقباض غريب.
بينما كانت دلفينا تساعدني في تغيير ثيابي، سألتني:
“الآن وقد اختفى من كان يحاول إيذاء سموّك، ألا تشعرين بالطمأنينة؟”
كانت تعلم، بالطبع، أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد.
لكنني ظللت أحمل شعورًا ثقيلًا.
“لا… لا أعلم. هل انتهى كل شيء فعلًا؟”
كان هناك الكثير من الظلال التي لم تُكشف:
زجاجة السم المفقودة،
ذكريات مرسيدس المبعثرة،
تغيّرها المفاجئ في الشخصية…
كل ذلك بدا مريبًا.
ومن جهة أخرى، ربما كنت أتوهم.
ربما كان الأمر كله مجرد انحراف مرسيدس فحسب.
وربما كانت دائمًا هكذا.
لكن الآن… كل تلك الأفكار لم تعد ذات معنى.
مرسيدس لم تعد بيننا،
والقضية أُغلقت.
هززت رأسي بعنف، وكأنني أطرد الفكرة.
“لا، لا يمكن… لا يمكن أن يكون هذا كل شيء…”
شعور غامض أخذ يغلي في صدري.
شيء غريب ظل يعكر قلبي.
“رين…”
في تلك اللحظة، أمسك سيزار – الذي كان إلى جانبي – بيدي برفق.
نظرت إليه بصمت.
ترى، هل فهم ما حدث لمرسيدس؟
لكنني… لم أخبره بالحقيقة.
ربما كنت أظنه يعلم بالفعل،
أو ربما، أردتُ أن أُخفي الحقيقة القذرة عنه،
وأترك له فقط الطهارة التي يستحقها.
أياً يكن، كنت قد عقدت العزم على حمايته.
لقد وعدت مرسيدس بذلك.
وكان قلبي يغلي من الإصرار.
عندها، ضمّني سيزار بقوة.
“ما الأمر؟”
“…”
لم يكن هناك كلمات،
لكن شيئًا ما وصلني منه دون حاجة للكلام.
ربما… سنكون بخير.
فبادلته العناق بنفس القوة.
“حسنًا، سيزار، استمع جيدًا.”
“أجل.”
أومأ سيزار برأسه بوجه جاد ومتوتر.
“سأقوم بقصّ شعرك قليلًا من الآن فصاعدًا.”
“همم.”
“سيمرّ المقص أمام وجهك هكذا، هل سيكون الأمر على ما يرام؟”
“أه…”
حينما قربتُ المقص من وجهه، كشف سيزار عن أسنانه. لكن كانت ملامحه تدل بوضوح على أنه يتحمل شيئًا لا يحبه. كان قد أغلق عينيه بإحكام، وعضلات وجنتيه ترتجف، في مظهر لا لبس فيه أنه بالكاد يتحمل ذلك.
“لا بأس، سأقصّ فقط القليل من الشعر. بعد ذلك، سيصبح سيزار أكثر وسامة.”
“وسيم؟”
فتح سيزار عينيه على وسعهما عند سماعه كلمة
“وسيم”. فأومأتُ برأسي بحماسة.
“نعم، إلى درجة أن يجعل الناس يقعون في حبك.”
ومن أجل تشجيع سيزار، طبعت قبلة خفيفة على إحدى وجنتيه.
“هل يمكنك فعل ذلك؟”
“همم…”
أومأ برأسه بتردد بسيط.
“حسنًا، سأمسك بيدك أثناء قصّ الشعر.”
بدا أنه يخاف من المقص، لذا قررت استخدام هذه الوسيلة الخاصة. وعندها أشرق وجه سيزار.
“أجل.”
“إذًا، سأبدأ الآن.”
التعليقات لهذا الفصل " 64"