الفصل 63:
خرجت الكونتيسة إلفيرا من بين وصيفات القصر. فانحنت فورًا على ركبتيها.
“يا صاحبة الجلالة الإمبراطورة، لقد اقترفت ذنبًا يستحق الموت.”
صدر صوت طحن أسنان خافت من بين شفتي الإمبراطورة.
“اخرجوا جميعًا، عدا الكونتيسة.”
نطقت الإمبراطورة بكلماتها وكأنها تمضغها بغيظ. ثم أخرجت من درج في طاولة الزينة سوطها الخاص. كان مفصَّلًا خصيصًا ليتناسب مع حجم يدها، ومُعتنى به بعناية يومية حتى بات لامعًا وناعمًا من كثرة دهنه بالزيت.
تطايرت الشرارات من عيني الإمبراطورة كورنيليا.
“أتعلمين ما هو ذنبك؟”
“اقتليـني، أرجوكِ.”
لم تقل إلفيرا شيئًا آخر، بل انحنت على الأرض رأسها مطأطأ. فقد علمت من خلال تجربتها الطويلة أن أي تبرير أو اعتذار لا فائدة منه.
أتى خادمان مترددان وهما يحملان صليب التعذيب الخشبي. وبصوت مكتوم، وُضع ذلك الصليب في وسط الغرفة.
“اربطوها.”
وقبل أن تكمل الإمبراطورة قولها، كانت الكونتيسة إلفيرا قد تمددت فوق الأداة بنفسها. بدأ الخادمان بتقييد يديها بأحزمة جلدية، ونظرات الشفقة بادية في عيونهما.
وبعد وقتٍ قصير، كان ظهر الكونتيسة غارقًا في الدماء. ورغم أنها لم تصرخ مرة واحدة أثناء تلقيها العشرين جلدة الأولى وهي تعض على أسنانها، فقد فُقد وعيها خلال الأربع عشرة جلدة التالية. وبذلك، نالت أربعًا وثلاثين جلدة كاملة، ثم حُملت خارجًا لتلقّي العلاج.
“هاه، هاه… عديمو الفائدة…”
استعادت كورنيليا بعضًا من هدوئها بعد أن هدأت ثورتها الدموية. كانت تلهث من كتفيها وهي ترمي السوط المغطى باللحم والدماء على الأرض.
“كنت أعلم أن تلك الفتاة ستفعلها في النهاية. بالطبع، فقد كانت نظراتها المتعجرفة دومًا غير عادية.”
أرادت أن تقتلها في الحال، لكن لم يكن لديها أوراق كافية في يدها. الكونتيسة إلفيرا، التي كُلّفت بمراقبتها، ومرسيدس كذلك، لم يعرفا حتى ما الذي كانت تخطط له تلك الفتاة.
“أن تتمرد عليّ، كم هذا جريء…”
ضحكت كورنيليا بسخرية قاتمة.
“أما تلك المربية… فلم تكن ذات نفع على الإطلاق. على أية حال، بما أن وليّة العهد قد تدخلت، فلا مفر من المحاكمة، لذا لا حاجة لبذل مزيد من الجهد.”
أغمضت كورنيليا عينيها ببطء وأرجعت رأسها إلى الوراء. وبدأ دخان أسود يتصاعد من حولها، ليجتمع أخيرًا ويتسلل إلى داخل فمها.
تلك كانت قدرة الإمبراطورة كورنيليا. القدرة على سحر الناس وجعلهم أسرى إرادتها، تسيطر على أفعالهم كما تشاء. يُعرف هذا عمومًا بالسحر الأسود.
حتى الآن، كان يكفيها أن تعزّز التنويم المغناطيسي الذي ألقته على مرسيدس لتتخلص بسهولة من المرشحات الأربع السابقات لولاية العهد.
لكن المرشحة الخامسة لم تكن بتلك السهولة. بل وصلت الأمور إلى أن مرسيدس، خادمتها المخلصة، قد وقعت ضحية وتوجّب قطعها بيدها هي.
“عديمو الفائدة…”
وبما أنها قد أزالت التنويم والإيحاء الذي فرضته على مرسيدس، فلا بد أن عقلها قد عاد إلى طبيعته.
ولكن، كانت تلك المرأة الآن أسيرة تنتظر حكم الإعدام. وبعد فك التنويم، ستتلاشى ذاكرتها، ولن تتذكر حتى لماذا قامت بتلك الأفعال.
كل ذلك كان ضمن الخطة. كثيرون قبْلها ارتكبوا أفعالًا شنيعة باسم كورنيليا ثم اختفوا عن الساحة.
تلك كانت الطريقة التي حافظت بها كورنيليا على منصبها طوال تلك السنوات، والوسيلة التي وصلت بها إلى هذه المرتبة.
لكن اللمسة الأخيرة دائمًا ما تكون من نصيب الإمبراطورة. ولم يحدث قط أن قلب أحدهم الطاولة عليها كما حصل الآن.
“المربية الحمقاء انتهى أمرها. المشكلة الآن هي وليّة العهد.”
كانت تظن أن الأمر سينتهي كما انتهى مع المرشحات السابقات، سيمتن ببساطة. لذا، حتى إن تجرأت تلك الفتاة على التمادي، لم تعرها اهتمامًا. فهي بالأصل فتاة محكوم عليها بالموت. لكنها لم تتوقع أبدًا أن تتدخل بتلك الجرأة.
وإن استمرت الأمور على هذا النحو، ربما ستحتاج إلى إعادة النظر في ذلك الرهان بينهما، حيث تعهدت الفتاة بجعل الأمير سيزار إنسانًا صالحًا.
وفجأة، تذكرت عيني تلك الفتاة. عيناها الخضراوان، الصادقتان إلى حدٍّ مزعج، كأنها لم تنكسر أبدًا في حياتها.
“وفي النهاية، ليست سوى إنسانة كغيرها. إن اقتُطع لحمها، ستتألم، وإن نزفت بما فيه الكفاية، ستموت. فما الذي يجعلها تظن نفسها مميزة؟”
ثم سمعت أن حالة الأمير قد تحسّنت كثيرًا مؤخرًا. بل إنه بدأ يخرج شيئًا فشيئًا من تأثير اللعنة، ويبدو أكثر استقرارًا.
ويقال إن تلك الفتاة هي من نسل فلوريس، التي يُقال إنها وضعت تعويذة لصد لعنة التنين المجنون. وربما كان لذلك فعالية بالفعل.
“تبًا… لا يمكن أن أدع هذا يحدث.”
كان عليها أن تجمع مزيدًا من القوة. ولا بد أن تعرف أكثر عن قدرة الشفاء التي تمتلكها تلك الفتاة. فهذه اللعنة التي أطلقتها كورنيليا ليست بشيء سهل؛ لقد عملت عليها لعشرات السنين.
وكان تركيزها على لعنة التنين القديم نتيجة صدفة حتمية. فهي لعنة يُقال إنها تظهر بين الحين والآخر في نسل العائلة الإمبراطورية التي يُعتقد أنها انقرضت منذ زمن.
لذا، حين ظهرت فجأة على الأمير الأول، لم يشك أحد في أنها من صنع فاعل.
ومهما فعلوا، سيبقون داخل قبضتها. لذا، كان من الممتع أن تراقبهم وهم يتخبطون يائسين.
“هيا، تجرئي على المقاومة… فلن تنقذي الأمير الأول على أية حال.”
وحين فكّرت بذلك، شعرت بالسعادة تتسلل إلى قلبها.
“سمو الأمير إنسان!”
تذكرت كيف كانت تلك الفتاة تصرخ بذلك بإصرار. كانت تؤمن تمامًا بأن الأمير الأول إنسان، رغم أنه بالكاد أصبح كائنًا بشريًا.
“ولكن، ماذا سيحدث لو رأيتِ الوجه الحقيقي لهذا الوحش؟”
سيكون من الممتع مشاهدة رد فعل تلك الفتاة الجريئة حين تواجه كارثة حقيقية.
“هاه… هاهه… آههاهاهاها!”
لا يزال هناك الكثير من الأمور الممتعة بانتظارها. لن تغضب من حجر صغير في طريقها. كل ما عليها فعله هو أن تزيحه جانبًا.
“نعم، قاومي بكل ما لديكِ إن استطعتِ.”
****************
كانت محاكمة مرسيدس سرية.
تُهمها: التسبب بموت أربع مرشحات للقب وليّة العهد، قتل الخادمة إلدا، محاولة اغتيال المرشحة الخامسة – أي أنا – وادعاء الأمومة للأمير بهدف السعي إلى منصب الإمبراطورة، مما يعد خيانة عظمى.
النتيجة كانت واضحة: الإعدام بلا عفو ولا تفاوض.
عادةً، يُنفذ حكم “التحطيم” على الخونة السياسيين (ضربهم حتى الموت بالعصي)، لكن نظرًا لخدمتها الطويلة كمربية للأمير، خُفف الحكم إلى الشنق.
وكان اليوم هو يوم تنفيذ الإعدام.
أخبرتُ ديلفينا، التي أتت لتجهيزي صباحًا، برغبتي:
“ديلفينا، أريد أن أرى مرسيدس للمرة الأخيرة.”
“ماذا؟! لكن سموكِ، كيف لكِ أن ترغبي في رؤية تلك المرأة…”
صُدمت ديلفينا وبدأت تثنيني عن قراري. كانت ترى أن مقابلة من حاولت قتلي أمر غير صائب.
لكنني فكرت بالأمر طوال الليل، ولم يتزعزع عزمي.
“هناك أمر لا بد أن أتحدث معها بشأنه.”
وكانت ديلفينا قد أدركت من طباعي أنني لا أستسلم بسهولة. لذا، تنهدت ثم أومأت برأسها.
“سأبحث عن طريقة.”
كانت مرسيدس مسجونة في البرج الشمالي من القصر الإمبراطوري، وهو مكان مخصص منذ القدم لسجن المجرمين السياسيين أو من يحاولون اغتيال أحد من العائلة المالكة.
ارتديت عباءة داكنة، وانطلقت مع ديلفينا نحو البرج.
كانت مرسيدس السجينة الوحيدة هناك، محبوسة في أعمق زنزانة. كان المكان غارقًا في رائحة الحديد والبراز.
بدا على مرسيدس آثار التعذيب الشديد، لكن رغم ذلك، كانت تجلس مستقيمة في مقعدها.
أعطت ديلفينا الحارس عملة فضية. وبما أن حكم الإعدام سيُنفذ عند الغروب، لم تكن الحراسة مشددة.
أومأ لنا الحارس برأسه ثم ابتعد عن المكان.
“إذًا، تحدثي معها. سأكون قريبة من هنا.”
أومأت دلفينا لي برأسها وتراجعت بخطوات إلى الخلف.
رأيت مرسيدس من خلف القضبان الصدئة. وكان هناك كرسي معدّ مسبقًا من قبل الحارس في الجهة المقابلة للقضبان. جلست عليه، ففتحت مرسيدس فمها قائلة:
“أوه، لقد جاءت سموّ وليّة العهد.”
كان صوتها رصينًا وواضحًا كعادته، غير أن فيه سمًّا خفيًا يصعب إخفاؤه.
لكن لِمَ يا ترى؟ لم أعد أستطيع أن أرى في عينيها تلك الظلمة العميقة التي كانت تحيط بها سابقًا كهاوية سحيقة. لم تعد تبدو لي كمجرمة اقترفت العديد من الجرائم ضد الناس.
ترددت لبرهة ثم رفعت رأسي ونظرت إليها.
“مرسيدس، لا بد أنك تكرهينني، أليس كذلك؟”
لم تُجب. بل ظلّت تنظر إليّ بصمت.
“لو سألتك عن سبب ما فعلته، هل ستُجيبينني؟”
عندها انحنت مرسيدس فجأة وخفضت رأسها.
“مرسيدس…؟”
بدأت كتفاها ترتجفان، ثم سمعت ضحكة خفيفة تخرج من بين شفتيها. وفي لحظة، كانت قد بدأت تضحك بصوت مرتفع وهي تنهض من مكانها وتمسك بقضبان الزنزانة.
دوّى صوت معدني أجوف في أرجاء الزنزانة، ففزعت من الصوت وجمدت مكاني.
“تسألينني لماذا فعلتُ ذلك؟ فعلتُه لأنني كنت أكرهكم. لأنكم كنتم تُدنّسون سيزار خاصتي… أجل، هذا هو السبب.”
أحمرت مقلتا عينيها. وبدا عليها ألم شديد لا أعرف سببه.
“لا يمكنكِ أن تُبقي سيزار بجانبك إلى الأبد. إنه لم يعد طفلًا، بل أصبح رجلاً بالغًا.”
“لكن، سموّكِ!”
وعلى حين غرة، بدأت دموع غزيرة تنساب على فكّها، تنهمر قطرة بعد أخرى.
التعليقات لهذا الفصل " 63"