الفصل 59
“آآااااه!”
“هممم؟”
أطلقتُ صوتًا غريبًا، فمال سيزار برأسه إلى الجهة اليسرى وهو يرمقني باستغراب، ثم أطلق ضحكة مكتومة. عيناه اللامعتان، الخالية من أي حذر وهو يحدق بي، جعلتني أشعر وكأنني أنا الغريبة هنا. وهذا هو مربط المشكلة.
لذا تمتمتُ بعذرٍ لا أعلم لمن كنت أوجهه أصلًا:
“سـ… سيزار كان يُجري عملية إنقاذ.”
“عملية إنقاذ؟”
لم أكن أعلم إن كان يدرك معناها أو لا، لكنه ابتسم لي مرة أخرى ابتسامة مشرقة وارتمى في حضني. تهاوى جسده نحوي فجأة، وعبق رائحته تسلل عبر فتحة ياقة قميصي. حتى تلك الرائحة، وحرارة جسده، وثقله، كلها كانت محببة لقلبي. فضممته أنا أيضًا إلى صدري بشدة. وبقينا على حالنا هذا، متعانقين في صمتٍ طويل.
راح سيزار يقبل أذني وخلف عنقي بضع مرات، ثم راح يداعب خده بخدي. بدا سعيدًا للغاية لسببٍ ما.
مرّرت يدي بهدوء على مؤخرة رأسه وبدأت الحديث:
“شكرًا، سيزار.”
“شكرًا.”
في كل مرة أكون فيها في خطر، من يهبّ لنجدتي هو سيزار، دومًا. والآن صرت أدرك هذه الحقيقة بوضوح.
“لو لم تكن موجودًا، لكنتُ في ورطة حقيقية. حقًا، أنا ممتنة لك.”
“هممم.”
وأنا أمسح على خصلات شعره الناعمة، أخذت أفضي بما يجول في داخلي.
الحلم الذي رأيته الآن كان حلمًا تنبؤيًّا أظهرته لي عين البصيرة. في الليلة التي يكتمل فيها القمر، ستقوم مرسيدس بقتلي بطريقة شنيعة.
حتى الآن، كلما تذكّرت المشهد الذي أموت فيه، اجتاحني قشعريرة وسرت في جسدي رعشة.
لكنني تذكّرت كلمات ريشار:
> “بإمكانك تغيير المصير. لكن اعلمي أن تغيير المصير يعني مقاومة الأسباب، وذلك سيجلب معه الألم الحتمي.” (يليل الكفر بس ، استغروا الله 🥲🤌)
قال إن المستقبل ليس ثابتًا. حتى لو تنبأت بالموت، يمكن تغيير الظروف.
“يمكن تغيير المصير.”
قد لا أستطيع فعل ذلك وحدي، لكن مع ريشار ودلفينا، وقبل كل شيء، سيزار، فربما لا يكون الأمر مستحيلًا.
لكن ما أزعجني حقًا هو أن مرسيدس كانت شخصًا مقربًا من سيزار منذ زمن طويل. لذلك، سألتُه بنبرة خفيفة:
“سيزار، ما رأيك بمرسيدس؟”
طرف بعينيه النقيتين وأجاب:
“ميشي هي مربّيتي.”
“أجل، صحيح.”
“ميشي” كان اسم الدلع الذي ينادي به مرسيدس. شعرت بالحيرة: هل من الصواب أن أدفع بشخص كانت له تلك المكانة الخاصة في قلبه نحو النهاية؟ لم يكن لدي شخص يمكنني الوثوق به لدرجة البوح بهذا النوع من القلق، ولم تكن لدي أي خيارات أخرى لإيقاف مرسيدس. ولهذا كان عليّ أن أعرف رأي سيزار في الأمر، لأنها كانت بمثابة أمٍ له.
فأخبرته بهدوء وبصوتٍ واضح:
“سيزار، أنصت إليّ جيدًا. مرسيدس إنسانة سيئة، لقد قتلت أشخاصًا.”
“إنسانة سيئة؟”
“أجل، القتل جريمة سيئة جدًّا.”
بغضّ النظر عن إلدا التي حاولت قتلي، فكل أولئك اللواتي كنّ مرشحات للزواج بالأمير لم يكنّ مذنبات. وقد قتلتهم مرسيدس بدمٍ بارد.
فقال سيزار وهو يحدّق بي:
“النساء اللواتي قُتلن…”
بدا على وجهه الجدية فجأة. ربما… ربما كان يُدرك الموقف بالفعل. أومأت برأسي بحزم وقلت:
“صحيح، أولئك النساء قُتلن على يد مرسيدس.”
ولم يفتني أن ألاحظ الاهتزاز الذي أصاب عينيه الحمراوين. استشعرت ذلك. أجل، سيزار يعلم ما يجري الآن. نظرت في عينيه وتابعت:
“والآن، تنوي قتلي أنا أيضًا.”
“لا أريد أن تموتي، يا رين.”
قالها بلهجة حاسمة، وكانت عيناه تشتعلان بحدة أكثر من ذي قبل. زفرتُ نفسًا عميقًا وقلت بحزم:
“إذا علينا أن نمنعها. هل تستطيع ذلك؟”
نظر إليّ سيزار مباشرة، ثم أومأ بقوة قائلاً:
“سأحمي رين.”
حين سمعتُ كلماته، شعرت بوخزٍ دافئ في أنفي وحرارة في عيني. كان ذلك كافيًا. رفعت إصبعي بهدوء إلى فمي ومسحته.
“شكرًا، سيزار.”
“هممم.”
مددت يدي ومسحت على غُرّته، هذه المرة بقوة أكثر من المعتاد. وعدني بأنه سيحميني. وكان هذا وحده كافيًا لبث الطمأنينة في قلبي.
تملأني مشاعر كثيرة. ولسببٍ ما، أشعر أن كل شيء سيكون على ما يرام. دفء كبير يغمرني، وذاك القلب المثقل بالارتباك صار صافيًا ومصممًا.
لقد تمّ كل شيء. جميع الاستعدادات انتهت.
*************
في تلك الليلة
ها هو اليوم المنتظر. القمر مكتمل بدقة. بدأت أجري آخر تفقد في غرفتي داخل قصر الزمرد.
سيزار وريشار كانا بانتظاري في المكان المتفق عليه منذ ساعات.
“حسنًا، دعينا نراجع الخطة مرة أخرى.”
بعثرتُ شعري بيدي، ثم التفتُ إلى دلفينا وقلت:
“حين أخرج، وإن قامت مرسيدس بملاحقتي…”
“سأذهب فورًا لإبلاغ جلالة الإمبراطورة.”
“أعتمد عليكِ، فدوركِ مهم جدًّا في هذه المهمة.”
حتى إن أبلغت الإمبراطورة، قد لا تأتي بنفسها. لكن هذا لا يهم. علينا جمع أكبر عدد من الناس قدر المستطاع. فكل من يحضر سيكون شاهدًا، وكلما كثر الشهود، زادت فرص النجاة.
“نعم، أرجوكِ كوني حذرة أيضًا يا صاحبة السمو…”
نظرت إليّ دلفينا بوجهٍ متجهمٍ وقلق. فأومأت لها كإشارة أنني بخير.
أخذت حزمة صغيرة ملفوفة بقماش، وخرجت من قصر الزمرد.
كان الجو باردًا على نحو غريب في هذه الليلة، والريح بدت كأنها تهمس بشؤم. لكن لا بأس. حتى إن لم أستطع رؤيتهم، فقد وعدني سيزار وريشار بأن يراقباني عن بُعد.
“بيب!”
وكان آب موجودًا في حضني أيضًا.
بحسب قول ريشار، فإن هذا الكتكوت الذكي يستطيع استشعار الخطر بسرعة، وسيقوم بتنبيههم فورًا إن شعرتُ بأي تهديد.
“شكرًا لك.”
ربتُ بخفة على جسده وهو يختبئ في جيب ثوبي.
الجميع يساعدني بهذا الشكل، فلا يمكنني السماح بفشل المهمة. أنا أؤمن بهم، وسأواصل التقدّم.
وجهتي كانت ذلك المكان الذي رأيته في رؤيا عين البصيرة… ضفة البحيرة التي أصبحت مرتبطة بي بعمق.
في هذا المكان، ستقوم مرسيدس بقتلي.
لا، هذا ما تنبأ به الحلم.
رغم رؤيتي لهذا المصير، إلا أنني أستطيع تغييره.
ولهذا أنا هنا… لأتحدى قدري.
انبطحتُ على الأرض بهدوء، وبدأت أحفرها. حاولت كبت مشاعري، لكن الرعب تسلل إلى أوصالي حتى ارتجف جلدي.
في أية لحظة، شعرت وكأن مرسيدس ستظهر فجأة مثلما فعلت في الحلم.
وربما… ربما يكون كل هذا وهمًا في رأسي.
لكن الشعور بالقشعريرة لم يفارقني.
كأن أحدًا يسحب شعري من الخلف.
أردت أن ألتفت مرارًا لأتفقد المكان خلفي، لكن كان عليّ الصبر. أي خرقٍ للخطة قد يؤدي إلى فشلها.
الوقت بدا وكأنه يمرّ بسرعة شديدة… أو ببطء قاتل.
قلبي يخفق بقوة، حتى أنني ظننت أنه سيقفز من صدري.
الانتظار كان مريعًا.
ظننت أنني سمعت صوت خطوات على العشب.
أو ربما ضحكة خافتة.
كنت أعلم أن هذا سيحدث، لكنني كنت خائفة للغاية.
تذكّرت كلمات ريشار:
> “لا تخافي من الأوهام، الأهم هو أن تملكي القدرة على اختراق الجوهر.”
موتي لم يحدث بعد.
أنا ما زلت على قيد الحياة.
أنا هنا… موجودة…
لقد جاءت.
أخذت نفسًا عميقًا، ثم صرخت بصوت عالٍ:
“مرسيدس! أنتِ هناك، أليس كذلك؟!”
عندها سُمعت حركة خفيفة بين الأعشاب، تلتها خطوات مترددة، وظهرت هيئة شخص تتقدم من بين الشجيرات.
صادف أن الليلة كانت مقمرة، مكتملة البدر، ووجهها البارد بانَ واضحًا تحت نور القمر، شاحبًا كما لو كانت شيطانة متجسدة.
“…كيف عرفتِ؟” سألت بصوت منخفض.
“توقعتُ أنكِ ستأتين لقتلي.”
“إذن كنتِ على علم بالأمر؟ لكنكِ تأخرتِ.”
استدرت نحوها ونظرت مباشرة في عينيها. كانتا ممتلئتين بتوتر وارتباك، يشوبهما اضطراب واضح. لم تكن في حالتها الطبيعية. كانت تخفي يديها خلف ظهرها، لكنني أيقنت أنها تمسك بخنجر هناك.
قلت بهدوء:
“أنا أعلم ما فعلتِ.”
ثم نهضت من مكاني ببطء.
“سمعتُ أنكِ تنبشين هنا وهناك. حسنًا، وماذا عرفتِ؟”
“مرشحات زوجات ولي العهد. إلدا. والآن أنا أيضًا… تحاولين قتلي، أليس كذلك؟”
عندها أطلقت مرسيدس ضحكة مكتومة، لكنها كانت غريبة، موحشة، جعلت الرعب يتسلل إلى عروقي. الأجواء أصبحت مشحونة بالتوتر.
“حسنًا… لنفترض أن ذلك صحيح، فماذا في ذلك؟”
اقتربت مرسيدس مني وهي تميل برأسها قليلاً، فتراجعت خطوة إلى الوراء.
“لماذا فعلتِ ذلك؟ مرشحات ولي العهد كنّ بريئات… لم يرتكبن ذنبًا.”
“بريئات؟! لا، لم يكنّ كذلك! كلهن مذنبات!”
بدأت مرسيدس تهمهم بكلمات مبهمة لا أفهم معناها.
“هنّ من أخطأن… تجرأن على سِيزار… سِيزار هو ابني. سِيزار… تدنسه أولئك النساء… وأنتِ أيضًا… نعم، يجب أن تُمحى. لا يجب أن تبقي على قيد الحياة. أعرف تمامًا نوعكِ…”
ثم، فجأة، أخرجت مرسيدس الخنجر الذي كانت تخفيه خلف ظهرها، وانقضت عليّ!
“نعم! موتي أيتها الساحرة الحقيرة!!”
طعن!
اخترق نصل الخنجر جانبي، وصوت الطعنة كان كافياً ليزلزل روحي.
التعليقات لهذا الفصل " 59"