الفصل 58
كان لا بدّ من التمثيل لتحقيق ذلك. أولاً، تظاهرت بأنني على وشك الموت بعد سقوطي في البركة، وبأنني قد صُدمت بشدّة من موت إلدا.
حبست نفسي في الغرفة لأيام، امتنعت خلالها عن الطعام والشراب، وتصرفت كما لو كنت قد فقدت صوابي. قضيت ساعات طويلة كل يوم في الكنيسة أُصلّي وأتضرع، فقط لأُضيع الوقت وأُظهر أنني غارقة في اليأس.
كان لا بدّ أن أبدو وكأنني شخص فقد عقله تمامًا.
وجهي الهزيل كان من صنع “دلفينا”. رسمت ظلالاً دقيقة على وجنتي وعظام خدّي، ولطخت أسفل عيني ببراعة حتى بدوت وكأنني لم أنم منذ أيام طويلة.
عندما جاءت “جيوفينيتا” لزيارتي، شعرت أن الوقت قد حان. لذلك أديت دوري بكل ما أملك من مهارة، وتظاهرت بالخوف الشديد…
“من المؤكد أن مرسيدس ستحاول قتلي.”
كانت مرسيدس بالفعل شخصية خطيرة، تسببت في موت خمسة أشخاص. وكان الحقد الذي تكنّه لي واضحًا. لم يكن من المستغرب أن تقوم بأي فعل ضدي، في أي وقت وبأي طريقة.
ما أحتاجه هو دليل يدين مرسيدس. في المرة السابقة، عندما حاولت إلدا قتلي، لم يكن هناك دليل، فوقع اللوم عليّ.
“إذًا عليّ الإمساك بها متلبسة.”
في لحظة محاولة قتلي تحديدًا. تلك هي الحجة الدامغة.
ولهذا، قررت أن أُقدّم الطُعم. وأنا هذا الطُعم الذي لا يمكنها مقاومته.
كنت واثقة من أن مرسيدس ستتحرك عندما تعلم أنني أخرج كل ليلة وحدي.
حاولت من قبل قتلي عبر إلدا، ولكن إلدا لم تعد موجودة.
لذا، لا بد أنها ستتحرك بنفسها. كانت ترغب في التخلص مني بشكل نهائي، بكل تأكيد.
سأنتظر حتى تلتقط الطُعم… ببطء، حتى تبتلع الصنّارة بأكملها.
بهذه الأفكار، ذهبت للنوم في ذلك اليوم.
************
كنت أمشي… أين أنا؟ نظرت إلى السماء، فكان الليل قد حلّ. كان القمر في تمامه، كبيرًا وجميلاً على غير العادة.
كان لي هدف… كان عليّ الذهاب إلى مكان ما… لكن لماذا؟ إلى أين؟
جسدي كان يتحرك رغمًا عن إرادتي، غير عابئ بأفكاري.
بخطى متعثرة، وصلت إلى مكان أعرفه جيدًا… عند البركة.
حيث قُتلت إحدى المرشحات لمنصب زوجة الأمير الثالث، وحيث حاولت إلدا قتلي من قبل.
جلست هناك، وبدأت أحفر الأرض بيدي العاريتين.
وفجأة، جاءني صوت من الخلف:
“موتي، أيتها العاهرة الحقيرة!”
ألمٌ فظيع مزّق خاصرتي، وكأن قضيبًا من نار اخترقني.
لم أستطع الحركة لوهلة…
“آه… أآه…”
حين فتحت فمي، تدفقت دماء سوداء كثيفة.
لم أستطع فعل شيء سوى التمسك بجسدي المتهاوي.
“مر… سيدس…”
مددت يدي نحوها، لكنها قابلتني بسكين حادّ مزّق بطني دون رحمة، مرةً بعد مرة.
“موتي! موتي! هيهي!”
كان الألم لا يُطاق…
***************
“رين! استيقظي!”
وبصوت مألوف، فتحت عيني.
“آآآآاه!”
صرختُ ونهضت فزعة. تحسّست بطني حيث طُعنت في الحلم، لكن لم يكن هناك شيء. لا دماء، ولا جروح.
لكني لم أصدق، فظللت أتحسّس خاصرتي مرارًا.
“رين…؟”
ناداني “سيزار” بحذر. كان هو من أيقظني هذه المرة أيضًا. نظر إلي بعينين مليئتين بالقلق.
“سي… سيزار؟”
رمشت عدة مرات، عاجزة عن استيعاب الواقع. ما رأيته الآن كان “رؤية نبوئية” منحني إياها “بصيرة المصير”.
لأول مرة، أرَتني تلك البصيرة مستقبلي… موتي أنا! (استغفروا الله 🕊)
حين فكّرت في الموت، انتابتني غثياني فجأة.
“أوووه…”
لم أتمالك نفسي، ومالت رأسي بجوار السرير، أتقيأ الهواء فقط. لم أُخرج شيئًا، لكن الحمى اجتاحت وجهي، وامتلأت عيناي بالدموع.
“هاه… هاه…”
لطالما حلمت بموت الآخرين… وكان ذلك مؤلمًا بما يكفي.
ولكن حلمي اليوم كان عن موتي أنا… بالطعن.
جسدي كله ارتجف، وقشعريرة اجتاحتني.
لم أستطع تجاوز الصدمة. كنت أعلم أن “بصيرة المصير” لا تُظهر إلا الحقيقة…
وهذه الحقيقة خنقتني.
كأنني حُكم عليّ بالموت.
“آه… أأه…”
فجأة شعرت بأن رئتيّ تنهاران. حاولت التنفّس، لكن الأمر كان صعبًا، وكأن صخرة ضخمة سُدّت بها مجاري الهواء.
فمي وأنفي كانا محجوبين برصاص ثقيل. هذا الثقل سَحَق صدري، ولم أستطع التنفس.
“رين! ما بك؟”
لاحظ سيزار حالتي الغريبة، فأمسكني وهزّني بقلق.
لكني لم أستطع الرد.
“آه… أأه… كح…”
فتحت فمي طلبًا للهواء، لكنه لم يدخل.
والأسوأ أنني لم أعد أذكر كيف أتنفّس.
“آه… أأه…”
كيف يتنفس البشر؟ نسيت الطريقة!
أصابني الهلع، حاولت السعال، لكن لم يخرج من فمي سوى صوت مكتوم.
دموعي انهمرت.
أصابعي تنملت.
رأسي بدأ يدور. رئتاي تصرخان طلبًا للأكسجين.
أمسكت صدري المحترق بألم.
“كح… أأه…”
كل شيء دار من حولي، والوعي بدأ يبهت.
رأيت السماء…
“هل سأموت هكذا؟ بعد كل ما فعلته للبقاء؟ بهذه البساطة؟”
وهكذا، أغمضت عيني.
*******،*
ثم، شعرت بنسمة…
أنقذتني. تسربت إلى رئتي.
كالنسيم البارد الذي يبلل الحلق الجاف.
تعلّقت بها بكل إرادتي في النجاة.
نسمة الهواء هذه فتحت الطريق، فانفجر النفس الذي كنت أحتبسه:
“هاااه! هاه… هااه!”
وحين عاد الأكسجين إلى رأسي، داهمني صداع رهيب.
فتحت عيني، لكن قبل أن أستوعب شيئًا، شعرت بلمسة على شفتي.
ناعمة، دافئة، ساحرة.
تعلقت بها، لا أستطيع الإفلات.
معها، عاد الشعور بالأمان.
ببطء، بدأت أستعيد وعيي.
استنشقت الهواء، لكن رأسي ما زال غائمًا.
ما الذي حدث لي؟ تدريجيًا، عاد الدم إلى أطرافي، وعادت الحرارة إلى أصابعي.
فتحت عينيّ مجددًا، فكان أول ما رأيته رموش سيزار الطويلة.
كانت ظلالها كثيفة، جميلة جدًا، فظللت أحدّق.
ثم اقترب وجهه مجددًا، فأغمضت عيني دون وعي.
عبير اللافندر تدفق نحوي.
بعد حادثة الحمّام الأخيرة، يبدو أنه صار يهتم بنظافته أكثر…
تفكّرت بذلك، فارتسمت على وجهي ابتسامة باهتة.
شعرت بيده تمسّ عنقي من الخلف.
كانت دافئة، أو ربما أنا كنت باردة جدًا.
ثم، تلامست شفاهنا من جديد.
كان ملمسها طريًا، كأنه قطعة من الحرير…
وفي تلك اللحظة، لم أعد أفكر في شيء سوى:
كم أن هذا الشعور جميل للغاية.
لكنه كان شعورًا خطيرًا…
ومع ذلك، ذاب كل تفكير تحت هذا الدفء اللطيف،
ولم يتبقَّ في ذهني سوى… السكون.
كنت أكتفي بتلقّي الهواء الداخل، أستنشقه ببطء، ثم أزفره، ثم أعيده مجددًا. بدأت قواي تتراخى، وكأنّ كل عضلة في جسدي قد استسلمت للسكينة. فتحت عينيّ اللتين أغمضتهما بلطف.
“هاه…”
تنهدت زفرة ثقيلة، كانت محتبسة في صدري دون أن أشعر. وما إن خرجت حتى عاد وجه سيزار ليقترب مني مجددًا، وفي تلك اللحظة انجلت الغشاوة عن ذهني، واتسعت عيناي نصف المفتوحتين بدهشة.
“مَهلاً، ل، لحظة…”
ترى، ما الذي فعلناه للتو؟
بدأت أسترجع الأحداث ببطء. تذكرت أنني كنت أعاني من ضيق في التنفّس… ثم بعد ذلك…
“آه، آه…”
وفي تلك اللحظة، مرّت شفتا سيزار على خدي ، كان قد اعتلى جسدي، محدّقًا في وجهي من الأعلى. نظراته كانت صافية، بريئة، لا تشوبها شائبة.
وجهه البريء إلى حدّ الطفولة جعلني أشعر أنني الوحيدة التي تحمل في صدرها تفسيرًا مغايرًا لما حدث، بينما هو يبدو وكأنه لم يفكّر في شيء على الإطلاق.
“سي، سيزار؟ أ، أنا… الآن، أنا بخير.”
لكن سيزار لم يجب، بل اكتفى بالابتسام ببراءة، وبتلك النظرة الوادعة التي لا تحمل سوى الطمأنينة. كنت محصورة بين ذراعيه، لا أعرف كيف أتصرف، أضطرب وأتلعثم.
“الم، المسألة أنني فقط… كنت لا أستطيع التنفّس…”
لقد أنقذني من حالة الاختناق. لم يكن ما فعله سوى محاولة لإنقاذي، خالية تمامًا من أي نوايا خفية. لكنني، كعادتي، كنت الوحيدة التي حمّلت الموقف أكثر مما يحتمل.
حاولت أن أدفع جسده بعيدًا.
“آه، أُه…”
لكن جسده كان قويًا صلبًا، لم يتحرك قيد أنملة. ومن مكاني هذا، وأنا أطل عليه من الأسفل، بدت شفتاه قريبتين جدًا… تلك الشفتان المتوردتان…
تلك الشفاه التي… لامست شفتيّ للتو…
وبحسب ما يتداوله الناس، فإن ذلك يُسمّى…
التعليقات لهذا الفصل " 58"