الفصل 57
كانت المرأة الأولى مجرد مصادفة. كانت جبانة إلى حدٍ كبير، فلم تتوقف عن الارتجاف وهي تنظر إلى سيزار طوال حفل الزفاف.
ما حدث كان مصادفة فعلية. كانت الفتاة خائفة طوال المراسم، فقلقها دفعها إلى التسلل إلى غرفة الزفاف لتطمئن، وهناك وقع الأمر.
بمعنى أنها لم تكن تنوي ذلك من البداية.
كانت مذعورة، فوطأت شيئًا ما وسقطت إلى الوراء، ولسوء حظها، ارتطم مؤخر رأسها بشيء مرمي على الأرض.
لم تمت على الفور، لكن إصابتها كانت خطيرة. ولو تم استدعاء أحدهم بسرعة، لربما نجت. لكن مرسيدس فكرت:
هل يحق لامرأة ترتعد خوفًا من رؤية زوجها على حقيقته، لا من هيبته، أن تكون زوجة؟
كان الجواب بسيطًا. لذا أمسكت بالوسادة القريبة وغطت بها وجه المرأة. توقف أنفاسها المرتجفة في لحظة.
أما المرأة الثانية فكانت أكثر وقاحة. بالغت في تجاهلها لسيزار واحتقارها له. لذا، استُدعيت إلى البرج في منتصف الليل، وهناك دُفعت من الخلف. صوت ارتطام رأسها بالأرض كان مرضيًا.
المرأة الثالثة كانت شرسة منذ حفل الزفاف. بل إنها، بلا خجل، حاولت الانتحار عند ضفة النهر. لذا، دُفعت. كانت مجرد مساعدة لها على تحقيق رغبتها، وعليها أن تكون ممتنة لذلك.
ومع توالي موت النساء، أصبح الأمر أسهل فأيسر.
المرأة الرابعة أيضًا كانت متعجرفة، تتذمر وتجادل كثيرًا، كحال الثالثة. لكن التخلص منها كان أسهل، إذ تدخلت العناية الإلهية. ففي أحد الأيام، وجدت مرسيدس زجاجة صغيرة ورسالة أمام باب غرفتها. كانت الرسالة تشرح أن محتوى الزجاجة هو سمّ قاتل لا يمكن كشفه بأي مادة كيميائية.
مرسيدس آمنت أنه هدية من الحاكم ، مساعدة سماوية لحماية سيزار.
على الرغم من أن أربع نساء لقين حتفهن، إلا أن الجميع اعتقد أن ما حدث كان بفعل لعنة، فلم يُثر الشك. ولكن مرسيدس رأت في ذلك بركة لا لعنة.
“كيف يكون حماية ابني لعنة؟”
لقد تخلصت من أربع زوجات محتملات، والمرأة الخامسة لن تكون عقبة كبيرة. نعم، تلك المرأة الوقحة لا بد من إزالتها.
“يجب أن أحمي سيزار… ابني.”
المرأة الخامسة كانت أكثر إزعاجًا من سابقاتها. في البداية، خدعتها برودة ردّ فعلها تجاه سيزار، لكنها كانت مجرد مخادعة ماهرة.
بل تجرأت على التدخل مباشرة بين مرسيدس وسيزار، وتسببت في شرخ في علاقتهما. الفتاة الوقحة تسللت بينهما.
ضغطت مرسيدس على أسنانها. كانت تحمل خنجرًا خبأته طويلاً، لم تكن بحاجة إلا إلى لمسة خفيفة فقط…
“ههه… هيهي…”
ضحكت مرسيدس ضحكة غريبة. كانت النهاية قريبة. قمة الجبل تلوح في الأفق، وهي طريق تؤدي إلى السعادة، مهما كانت مليئة بالأشواك.
قليل من الصبر فقط، وسيكون النعيم الأبدي في انتظارها.
************
كنت أعلم منذ عدة أيام أن أحدهم يراقبني.
ذلك لأن “بصيرة المصير” بدأت تكشف لي الحقائق باستمرار. ومنذ أن فهمت مبدأها، ازدادت وتيرة الرؤى.
“ركّزي أكثر.”
وبّخني ريشار بصوته الصارم. كنا نتدرب معًا على التحكم في بصيرة المصير.
“لكن… الأمر صعب جدًا.”
أنا لا أملك أي موهبة سحرية، ولا قدرة تشبه السحر أصلًا. لا أدري ما الذي يتوقعه مني.
إنه كمن يطلب من شخص أن يرمي ثلاث كرات في الهواء، ويستعرض بها، بينما يركض على حبل مشدود. إنها مهمة شبه مستحيلة.
“آه…”
دوى طنين في أذني، وشعرت بالدوار. أمسكت برأسي المتألم وأنين خرج مني دون إرادة.
“صاحب السمو، هل أنتم بخير؟”
دلفينا وضعت منشفة باردة على جبهتي بعطف.
كان الصداع أحد الآثار الجانبية لمحاولة استخدام بصيرة المصير عن قصد. قال ريشار إن السبب يعود إلى أن استخدام السحر يتطلب طاقة “مانا”، وهي طاقة لا أملكها أصلًا، أو أملك منها القليل النادر.
أن أستخدم هذا النوع من السحر يشبه أن يذهب طفل إلى ساحة معركة دون درع أو سيف.
تنهد ريشار وهو ينظر إليّ.
“كما توقعت، هذا فوق طاقتك. لِنأخذ استراحة.”
نظراته، نبرته، كلها كانت تشير إلى احتقار خفي. هل كل الجان بهذا التعالي؟ ريشار تحديدًا من السهل إساءة فهمه. ليس فقط بسبب أسلوبه، بل لأنه يبدو غير مهتم بأي إنسان على الإطلاق.
أحيانًا أنا ودلفينا نحدثه، فيتأخر في الرد. وإن اقترب منه أحد، يحاول بشتى الوسائل تجنبه.
وحده سيزار كان استثناءً.
“رين، هل يؤلمك شيء؟”
“لا، لا بأس.”
عندما أكون مع سيزار، يمكنني رؤية شيء واضح في عيني ريشار.
كلما نظر إليه، ظهرت في عينيه نظرة دافئة كمن يتذوق حلوى مغمسة بالعسل. لم ألاحظها في البداية، لكنها كانت هناك دومًا.
مع الوقت أدركت أنها نظرة حب خالص، نابع من القلب، تجاه من لا يُحتمل فراقه.
لاحظ ريشار أنني أحدق به، فاستدار بسرعة وبدأ بالسعال.
“…”
“…”
ساد الصمت بيننا. ربما لأن هذه المواقف تكررت كثيرًا، صار في نظرتي إليه شيء من اللوم. بعد تردد، تحدث أخيرًا.
“هذه مسألة لا يمكن التحكم بها.”
“أي مسألة تقصد؟”
سألته، فأومأ وكأنه اتخذ قرارًا.
“أتباع هيبيريليوم لا يستطيعون مقاومة الود تجاه التنانين.”
“أتباع هيبيريليوم؟”
هيبيريليوم هو اسم غابة، وأتباعها هم جماعة من الجان المتحالفين مع الإمبراطورية الأسيتيرية.
يُقال إنهم يولدون من الأشجار ويقضون حياتهم في الغابات. لا يظهرون للعالم كثيرًا، ويحيطهم الغموض، لذلك استغربت حديثه.
“هيبيريليوم ترى في السحر مصدرًا مقدسًا، والتنين هو جوهر المانا النقية. رفضه كمن يرفض التنفس.”
وأضاف أنه باعتباره نصف جان، فإن تأثير ذلك لا يصيبه كليًا، لذا استطاع المقاومة إلى هذا الحد. وإن كان النصف هكذا، فكيف بالباقين؟
قلت له بنبرة ساخرة:
“عجبًا، هل يعني ذلك أن بقية الجان يحبون سيزار بجنون؟”
ضحك ريشار، لكن في ضحكته مسحة حزن.
“لا أحد يعلم… والآن، إن انتهت استراحتك، فلنعد للتدريب.”
“آه…”
تأوهت وأنا أستجمع تركيزي مجددًا. أغمضت عينيّ، وتخيلت المشهد الذي أريد رؤيته. قالوا إن عليّ تصفية الذهن، وتبسيط التفكير.
بدأت أرى شيئًا عبر ضباب الرؤية. إن تشتت التركيز، تدفقت المعلومات عشوائيًا أو تشوش الوضوح.
أتمنى أن أنجح هذه المرة.
تجلت ملامح الحقيقة شيئًا فشيئًا… المراقِب، ابتسامته بأسنانه الصفراء، ومن استأجره.
رأيت من يدفعه بالعملات الفضية. تلك اليد… أعرفها.
“هاه… هاه…”
فتحت عيني وأنا ألهث. كان العرق البارد يتصبب من جبيني.
بدا أنني نجحتُ هذه المرة. تنفستُ بعمق مرارًا، ثم رفعتُ رأسي فجأة.
“تلك اليد كانت يدَ مارثا، خادمة جيوفينيتا…”
كنت أظنّ أن من وضع مراقبًا خلفي لا بد أن يكون مرسيدس أو جيوفينيتا، وقد كان الأمر كذلك بالفعل.
في البداية، كنت أشتبه في إلدا، فهي أول من حاول قتلي.
لكن، البارحة فقط، عُثر على جثة إلدا. وقد رأيتُ مشهد موتها أيضًا من خلال “بصيرة المصير”.
استدعتها مرسيدس، وأعطتها مبلغًا من المال، ثم قدّمت لها كوبًا من الشاي. كان الشاي مسمومًا.
كانت مرسيدس امرأةً مخيفة بحق. هي من استأجرت إلدا لقتلي، وهي من تخلّصت منها بعد أن لم تعد مفيدة.
وهكذا، اتّضح أن الحقيقة كانت بشعةً إلى هذا الحد.
أما تحالف جيوفينيتا ومرسيدس، فلم أكن بحاجة إلى البصيرة لأفهمه.
في الحقيقة، كان تحالف هاتين الاثنتين صداعًا لا ينتهي.
لكنني كنت أملك سلاحًا قويًا: “بصيرة المصير”.
أن تكون محاصرًا في قصر الإمبراطور، لا تعرف أحدًا، ومع ذلك تمتلك قدرة كهذه، فهو أمر يجعل الكفة تميل لصالحك كثيرًا.
لكن، كانت هناك مشكلة.
“لا يمكنني التحدث بهذه القدرة هكذا ببساطة.”
اكتشاف الحقائق من خلال قدرةٍ غريبة ومشبوهة كهذه ليس أمرًا يمكن التصريح به للناس.
إنها قدرة لا يمكن إثباتها بسهولة، وغير معترف بها دينيًا، وقد تُعد نوعًا من التنجيم أو البدع. بل، قد يُنظَر إليّ كمجنونة أو كساحرة.
لذلك، ما يجب عليّ فعله هو أن أعدّ الفخاخ، واحدةً تلو الأخرى.
و نرجع نقول استغفر الله 🕊🩷
التعليقات لهذا الفصل " 57"