الفصل 56
كانت مرسيدس جاثية على ركبتيها في ركن من أركان غرفتها، تضُمّ يديها وتصلّي. كانت تتحسس الصليب على المسبحة بأصابعها وتتمتم آيات من الكتاب المقدس
لقد أرسل الاله ملاكًا إليها. جاء إليها ومنحها القوة لدحر العدو اللدود. (استغفر الله)
“قد منحني السلطان لسحق العقارب والتغلب على كل قوة عدوي… هيه.”
انفجرت ضاحكة رغمًا عنها. حاولت كتم ضحكتها، لكن فمها اتسع حتى بلغ أذنيها، ووجنتاها احمرّتا. مهما حاولت أن تكبح ضحكتها، لم يكن ذلك بالأمر الهيّن.
ولِمَ لا؟ فقد جاءت الآنسة جيوفينيتا بنفسها إليها! نعم، بنفسها!
“سيدة أرونتشو، لقد أقلقني كثيرًا أمر أختي، لذا جئت إليك لأخبرك بنفسي.”
“أخيرًا…”
لقد بلغها من الآنسة جيوفينيتا أن زوجة الأمير تقوم بأفعال مشبوهة. خبر سار بأن تلك الفتاة الدنسة قد ارتكبت فعلاً شنيعًا أخيرًا. يا له من نبأ رائع!
“إيرينيّا تخرج كل ليلة وحدها من القصر وتقوم بأمور مريبة… لكني لا أستطيع التأكد، فهل يمكنكِ معرفة ما يجري؟”
ما أسعدها! أن تأتي الآنسة جيوفينيتا شخصيًا لطلب المساعدة منها… لا شك أن هذا دليل على ثقتها بها.
شعرت مرسيدس أن كل هذا ما هو إلا قدر عظيم، بل تكاد تجزم أنه من تدبير الحاكم.
“هيه، هيه، هيكك…”
انطلقت من حنجرتها أصوات غريبة تشبه نقيق الضفادع، إذ كانت تحاول جهدها كبح الضحك. هزت رأسها لتستعيد رشدها.
ماذا عليها أن تفعل؟ كانت أفكارها تدور بلا توقف. شعور عارم من الابتهاج اجتاحها حتى بدا وكأن بركانًا يدور في رأسها، وقلبها ينبض بعنف كمن جرى بكل قوته.
“قالت إن تلك الساقطة تخرج كل ليلة، أليس كذلك؟”
حلّ الوقت الذي أخبرتها به جيوفينيتا. الوقت ذاته كل ليلة، حين تخرج زوجة الأمير من القصر. نظرت عبر نافذة المشبك التي راقبتها مئات المرات.
“آه!”
شهقت فرحًا. لقد كانت جيوفينيتا على حق. رأتها تخرج من بعيد.
في عتمة الليل، بشعر منفوش وثوب داخلي شفاف، كانت تحمل شيئًا مريبًا وتسير مترنحة. حتى من هذه المسافة، بدت كالمجنونة.
“يا لها من فاجرة! كيف يمكن لمثل هذه أن تكون بجوار سمو الأمير سيزار!”
هذا غير مقبول. أمر لا يُغتفر. مظهرها، عرجها، كل ذلك أثار غضب مرسيدس مجددًا. إنها ناقصة، حقيرة، عار على الكمال.
كانت شوكة في عينها. نقطة سوداء على ورقة بيضاء. وُجدت فقط لتشوه كمال سيزار، الحبيب المثالي.
ما الذي يجب فعله للتخلص منها؟ يجب استئصالها. لا، الأفضل أن تُمحى دون أن تترك أثرًا. فقط هكذا يمكن أن يظل سيزار الحبيب نقيًا وكاملًا.
ولذا، كل ما سيحدث لتلك المرأة لاحقًا هو أمر لا مفر منه. النجس يجب أن يُباد، هكذا هي القاعدة.
وبدأت مرسيدس تتبع إيرينيّا ببطء، محافظة على مسافة آمنة كي لا تُكشف. أما تلك، فبدت كأنها لا تبالي بأي شيء حولها، تمشي مباشرة إلى الأمام.
كأنها مسحورة، تتمتم بكلمات في الهواء وتتوقف أحيانًا لتُخفض رأسها.
بالفعل، لم تكن لتبدو إلا كمجنونة.
“ما الذي تفعله تلك المختلة؟”
امتلأت مرسيدس بالحقد. كيف تتيح لها السماء هذه الفرصة؟ لا شك أن هذا قَدَر، بل هو مشيئة الرب نفسه.
**************
أمام قصر حجر القمر، كانت إحدى الوصيفات تتشاجر مع الحرس. كانت وصيفة من قصر الزمرد، تدعى ديلفينا.
“أرجوكم! لدي أمر مهم يجب أن أبلغه لجلالة الإمبراطورة!”
“في هذا الوقت المتأخر؟ من غير المقبول القدوم دون طلب مقابلة مسبق. لا يمكننا السماح لك بالدخول، آنسة.”
أجابها قائد الحرس بنبرة حرجة، فحتى لو كانت هويتها مؤكدة، لا يمكن السماح لفتاة مذعورة باقتحام القصر هكذا.
“ما هذا الضجيج في قصر الإمبراطورة في هذا الليل؟”
خرجت الكونتيسة إلفيرا لتتفقد مصدر الجلبة. فما إن رأتها ديلفينا حتى جثت على ركبتيها أمامها.
“سيدتي الكونتيسة إلفيرا، أرجوكم… أنقذوا سمو الأميرة!”
حدّقت بها الكونتيسة بإمعان وانحنت نحوها.
“ما الذي يدعوك لكل هذا الهلع؟”
انحنت ديلفينا رأسها وبدأت دموعها تتساقط. منظرها البائس كان كافيًا ليُشفق عليها أيّ شخص.
“سمو الأميرة… تبدو في حال غير طبيعية.”
ارتجف جسدها النحيل. الكونتيسة كانت قد سمعت تقارير عن تجوّل الأميرة ليلًا، لكنها استمعت بصمت لتعرف ما تقوله الوصيفة.
“غير طبيعية؟ ماذا تعنين بذلك؟ قولي بوضوح.”
سألتها الكونتيسة بنبرة صارمة، فاندفعت ديلفينا تبكي وتتمسك بثوبها.
“أرجوكم، سيدتي… أنقذوا سموها!”
توسلت الخادمة، وكان الوضع يبدو بالفعل خطيرًا. لم يبدو عليها التمثيل قط، ربما لبساطتها.
“وأين هي الآن؟”
“… لقد خرجت مجددًا، كما تفعل كل ليلة.”
“سمو الأميرة خرجت؟”
أومأت ديلفينا برأسها بصمت.
“هذا أمر جلل… هل تعلمين إلى أين ذهبت؟”
“إلى البحيرة… تذهب إليها كل ليلة، فلا شك أنها هناك الآن.”
أشارت الكونتيسة إلى فرسان الحراسة.
“دلّوهم على الطريق بسرعة.”
رغم ذلك، لم تستطع أن تتخلص من شعور غامض بالريبة. لكنها لن تحكم قبل أن ترى بعينها.
فانطلقوا صوب البحيرة، يتقدمهم الخادمة.
************
أخذت مرسيدس نفسًا عميقًا بهدوء. حينما تُغمض عينيها، كانت ترى دوماً وجه ابنها سيزار وهو يبتسم. تلك الابتسامة الساطعة كانت تحوم أمامها في كل لحظة.
سيزار كان ابنها الوحيد، الشخص الوحيد في هذا العالم الذي يخصّها بالكامل. لذا، كان بينهما دومًا ارتباط روحي عميق.
“ولدي الحبيب…”
تنفست بعمق، مسترجعة الذكريات القديمة. أحست بأن حواسها كلها تستيقظ. كم كانت تتذكّر جيدًا رائحته عندما كان صغيرًا.
كان يشبه أشعة شمس منتصف الصيف. رائحة الشراشف المغسولة، الأعشاب والندى، ورائحة طفل رُضع للتو.
لكن، ذات يوم، بدأت تشم منه رائحة امرأة. رائحة كريهة، مثيرة للاشمئزاز. من تجرأت على الاقتراب منه؟ لا يمكنها السماح بذلك. لم يكن لأي أحد الحق فيه. كان سيزار ابنها وحدها.
“يجب أن أرضعه الآن…”
رغم ذكائه، إلا أن سيزار فُطم متأخرًا. السبب كان مرسيدس نفسها، التي دلّلته منذ صغره، ولم تكن تبخل عليه بثديها حتى بعد جفافه.
“إنه يفتقدني كثيرًا…”
الفراغ والكآبة التي كان يشعر بها كانت فرصة لها لتقترب منه أكثر، لتعوض وحدتها المؤلمة. أحيانًا، كانت تتركه ساعات طويلة، لتجعله يلجأ إليها ويبقى في حضنها، لا يطيق فراقها.
في الحقيقة، كانت مرسيدس من أكثر الناس سعادة حين أصيب سيزار بعلّته. رغم مظهرها الحزين، كان قلبها يطفح بالفرح.
«لو أنّا نعيش هكذا معًا إلى الأبد…»
كلّما فقد عقله وتاه، وكلّما ارتدّ عقله إلى طفولة مبكرة، وكلّما صرخ من الألم والضياع—كانت هي، في أعماقها، تهلل فرحًا.
«سيّدي الأمير سيزار… سأرعاك مدى الحياة.»
لقد غدا طفلًا صغيرًا لن يغادر حضنها أبدًا، مهما طال الزمان. وما إن تغيّر أو اختلّ في شكله أو سلوكه، فما شأن ذلك؟ هي أمّه. والأمّ، بطبعها، تحبّ ولدها وتقبله مهما كان حاله.
كانت تؤثره بالمحبّة، وتبذل لأجله كلّ شيء، وإن اقتضى الأمر أن تسجن وجوده بين ضلوعها، فلن تتردد. كانت مستعدةً لتضحي بحياتها، ومستعدة لأن تقترف من الأفعال ما يشجبه كلّ من في الأرض، لو كان ذلك في سبيله.
«نعم، فكلّ ما يعترض طريق سيزار، أيًّا كان، لا بد أن أزيله من الوجود.»
التعليقات لهذا الفصل " 56"