الفصل 55
“جلالة الملك أمر بألّا يُسمح لأحد بالدخول…”
حاولت ديلفينا منعهم بقلق واضح، لكن جيوفينيتا دفعت الباب بعناد وجعلت مارثا تفتحه.
وما إن فُتح الباب حتى انكشفت حالة الغرفة البائسة. رغم أن الوقت كان ظهراً، بدا المكان مظلماً ومخيفاً، إذ أُسدلت الستائر السميكة فحجبت أي شعاع من الضوء.
قطبت جيوفينيتا حاجبيها، وتحرك الجسد الشاحب المستلقي على السرير. كانت إيرينيا.
“ديلفينا؟ ألم أقل لكِ ألّا تدعي أحداً يدخل…؟”
لاحظت إيرينيا وجود جيوفينيتا فصاحت بحدة:
“ما بك؟ لمَ أتيتِ إلى هنا؟”
أشارت جيوفينيتا لمارثا التي أسرعت نحو النافذة وسحبت الستائر لتدخل أشعة الشمس، فكُشف المشهد الفوضوي للغرفة. أشياء محطمة، خرز متناثر، أوانٍ مكسورة، وبقايا طعام يابس التصقت بالجدران — فوضى عارمة.
وفي وسط كل ذلك، بدت إيرينيا مذعورة، وقد سحبت الغطاء حتى ذقنها. لم ترَ جيوفينيتا إيرينيا بهذه الحال من قبل.
كانت حالتها بائسة. وجهها شاحب وهالات سوداء تحت عينيها، كأنها لم تنم لأيام.
رفعت جيوفينيتا ذقنها بتفاخر:
“كوني ممتنة، فقد جئت لأطمئن على صحتك.”
صرخت إيرينيا بصوت يشبه الصراخ:
“كيف تجرؤين على ارتداء ملابس كهذه؟!”
ردت جيوفينيتا بابتسامة واسعة، ورفعت تنورتها قليلاً لتنحني بتحية:
“ألا يقولون إنك على فراش الموت؟ جئتُ لأعزّي، لا لأزور مريضة.”
كانت ملابسها أشبه بملابس جنازة: فستان مخملي أسود، قبعة سوداء، وزهور كالسرو والأقحوان والأزفوديل مثبتة على الشبك — جميعها ترمز للحزن والموت.
وهنا بدا أن إيرينيا فقدت أعصابها:
“اخرجي حالاً! قلتُ اخرجي!”
احمرّ وجهها وازداد شحوباً، ثم بدأت تقذف الوسائد في وجه جيوفينيتا.
قالت جيوفينيتا، وهي تتراجع راضية:
“كنت على وشك الخروج على كل حال. واضح أنكِ بخير وبكامل صحتك.”
وغادرت القصر الزمردي دون نتيجة تُذكر، لكن بقلب منتشٍ بالانتصار.
في ذلك المساء، تناولت جيوفينيتا العشاء مع والدتها سيليستينا، بعد غياب طويل عن جلساتهما الحميمة. كانت جيوفينيتا في مزاج رائع منذ عودتها من القصر، فسألتها والدتها:
“وكيف حال تلك الفتاة، إيرينيا؟”
ضحكت جيوفينيتا بسخرية:
“لا تُصدقي يا أماه، كانت كالميتة تماماً!”
لكن سيليستينا لم تستطع تصديق ذلك بسهولة، فهي تعرف إيرينيا جيداً:
“غريب… تلك الفتاة القاسية تنهار فجأة هكذا؟”
أجابت جيوفينيتا، وعينها تلمعان بالظفر:
“هي فتاة بلا سند، فلا عجب أن تنهار. كل شيء انهار عليها دفعة واحدة.”
قالت سيليستينا، متأملة:
“ربما عانت في القصر، لكن… لا أدري، هناك شيء مريب.”
ضحكت جيوفينيتا:
“أماه، إنكِ تبالغين.”
لكن القلق بقي على وجه سيليستينا. كانت تُعرف بطبعها الشكاك وحساسيتها المفرطة.
فقالت جيوفينيتا محاولة طمأنتها:
“إن كان الأمر يقلقكِ كثيراً، فسأراقبها كلما ذهبتُ إلى القصر، بل وسأضع من يتعقبها.”
“أتفعلين ذلك من أجلي؟”
“وهل هذا كثير؟ إن كان ذلك يريح قلبكِ، سأفعل كل ما أستطيع.”
نظرت إليها سيليستينا بإعجاب وحنان:
“يبدو أن صحبتكِ للإمبراطورة قد نضّجت تفكيركِ.”
وضحكت الأم وابنتها، وقد ساد بينهما جو من الألفة الدافئة.
لاحقاً، جاء الجاسوس المعيّن لمراقبة إيرينيا بتقرير جديد:
“سمو الأميرة كانت تزور الكاهن يومياً للاعتراف، وتقضي ساعات في المصلى.”
سألت جيوفينيتا بملل:
“وهل هذا كل ما لاحظته؟ ألا يوجد شيء أكثر إثارة؟”
ابتسم الجاسوس ابتسامة ذات مغزى وقال:
“في الحقيقة… هناك أمر غريب.”
اقترب قليلاً وهمس:
“كل ليلة، تخرج من غرفتها وحدها وتتجول في أرجاء القصر.”
“وحيدة؟ دون حراسة؟”
“نعم، يا سيدتي.”
وأخذ الجاسوس بعض القطع الفضية من الخادمة مارثا وهو يواصل:
“تبدو وكأنها تؤدي طقوساً كل ليلة.”
صرخت جيوفينيتا:
“طقوس؟ أي طقوس تقصد؟”
طلب الجاسوس المزيد من المال، فأشارت جيوفينيتا إلى مارثا، التي ناولته المزيد من النقود.
ثم قال أخيراً:
“إنه لأمر محرج أن أذكره، لكن… أعتقد أنها تقوم بأعمال شعوذة.”
“شعوذة؟”
ارتفع صوت جيوفينيتا بفرح لا يمكن إخفاؤه، فقال الجاسوس:
“كانت تذهب إلى بركة الماء، وتُحرق أوراقاً غريبة مطبوعاً عليها رموز تبدو شيطانية. لم أرَ شيئاً كهذا إلا في طقوس الساحرات.”
هنا ارتجف صوت جيوفينيتا من شدة الإثارة. شفتاها ارتسم عليهما ابتسامة، وأنفاسها تسارعت. أخيراً، أمسكت بها. بيدها هذه، ستُطيح بتلك اللعينة.
كم كانت تكرهها. إيرينيا، تلك الفتاة التي ظهرت فجأة في حياتها وسرقت منها كل الاهتمام.
عندما تذكّرت وجهها البارد والجميل، تجهم وجه جيوفينيتا.
دائماً ما كانت إيرينيا تتصرف كأن لا شيء يؤثر فيها، مهما أُهينت أو أُذيت، كانت صلبة وغامضة، وهذا ما كان يُغضب جيوفينيتا أكثر.
لم تكرهها من البداية. حين التقتها أول مرة، حاولت أن تكون لطيفة معها بدافع الشفقة.
كانت قذرة، نحيلة، قبيحة، أشبه بجرذ هارب من مجرور.
رغم اختلاف الأم، كانت تُعتبر أختها، فاهتمت بها. بل شعرت بالأسى لأنها جاءت فجأة لتعيش في قصر غريب. لقد كانت مشاعرها، في ذلك الحين، صادقة.
علمت أن من شيم النبلاء الإحسان إلى من هم دونهم، لذا أحسنت إليها — إلى أن تجاوزت حدودها.
ظنت في البداية أنها مجرد فتاة ضعيفة، لا تستحق الالتفات. لكنها بدأت تتفوق، تتلقى المديح من الأساتذة، تتقن اللغات أكثر منها، تثير إعجاب المعلمين والوالد… حتى أنها ارتدت فستانها ذات مرة، وبدا أن الفستان يناسبها أكثر.
تلك الجرذ الحقيرة… تجرأت أن تتفوق عليها.
لذا كانت تريد فقط أن تُرعبها. لم تكن تنوي أكثر من أن تفاجئها قليلًا وتدفعها بخفة، لكنها، تلك الحمقاء، تدحرجت من تلقاء نفسها على الدرج.
“لم تكن تلك غلطتي حقاً!”
قالت جيوفينيتا وهي تطحن أسنانها غيظًا. نعم، إن كانت ثمّة خطيئة، فهي من نصيب إيرينيا.
من طلب منها أن تئن وحدها في صمت؟ من أمرها بأن تنزوي في زاوية غرفتها بتلك الهيئة الكئيبة، تصمت وتعاند؟ هي من غذّت مرضها بيديها. ثم تأتي لتلومها؟ إنه لأمر مضحك حتى البكاء.
لكن الآن، كل شيء بات على ما يرام. يبدو أن إيرينيا فقدت صوابها أخيرًا، بعدما عجزت عن تحمّل الحياة في القصر الإمبراطوري. وإذا تُركت على حالها، فقد تحظى جيوفينيتا بمشهد مسلٍّ جدير بالمشاهدة.
“لا، لا، لحظة…”
عندها خطرت لها فكرة أشد إثارة، كوميض شيطاني لامع. تلك المجنونة… ما اسمها؟ آه، نعم.
“مارثا! مارثا! أين السيدة مرسيدس أرونتشو؟”
“نعم، آنستي! في الحال!”
بدت مارثا تركض مترنّحة من بعيد، أشبه بخادمة بطيئة لا تُرجى منها فائدة. لو واتتها الفرصة، لسلخت جلدها عن ظهرها ذات يوم.
أما خدي جيوفينيتا، فكانا قد احمرّا بالكامل من فرط الحماسة، وقد علت وجنتيها حمرة نضرة، كأزهار الربيع المتفتحة، غضةً وجمالاً.
التعليقات لهذا الفصل " 55"