الفصل 54
حينما ابتسمت، بادلني هو الابتسام. وجهه، الذي قد يبدو لوهلة كوجه فتى لطيف وغضّ، أشرق أكثر بابتسامته تلك. خَدَّاه المحمران وشفته المحتفظة بحمرة طبيعية رسمتا قوساً جميلاً.
“أه…”
في تلك اللحظة، خطر لي شيء.
كانت الذكرى التي راودتني لتوّها غريبة بعض الشيء. تلك الشفاه…
“أهه…”
وما إن خطرت ببالي مرة، حتى توالت أفكار غريبة كنت قد دفعتها سابقًا إلى أعماق ذاكرتي. حين غرقت وفقدت وعيي…
تذكرت أنني لا أستطيع استعادة تلك اللحظة التي أنقذني فيها سيزار من الغرق. في المقابل، أتذكر بوضوح شديد ما حدث بعد خروجي من الماء، بوضوح يكاد يكون مرعبًا.
في تلك اللحظة… بعد أن خرجت من الماء، أنا وسيزار، نحن… ألم نفعل… شيئًا ما؟
ذلك، ذلك الفعل الذي تتلامس فيه الشفاه مع الشفاه؟
“أه… أههه؟!”
من شدة الخجل، انطلق من حلقي صوت غريب. وانكمش جسدي بحرارة تدفقت إلى وجنتيّ.
“رين، ما بك؟”
نظرًا لحالتي الغريبة، سألني سيزار بقلق، لكنني لم أعد أستطيع النظر إلى وجهه مباشرة.
فما إن رفعت رأسي، حتى وقعت عيناي على شفتيه الجميلتين، باستمرار.
تلك الشفاه… لماذا نسيت أنها كانت قد لامست شفاهي؟
“…آهآآه…”
لا، لا. هذا مجرد وهم وخيال خاطئ. تذكرت الآن أنني قرأت في أحد الكتب أن هناك طريقة لإنقاذ الغريق عبر التنفس الاصطناعي من الفم إلى الفم.
“نعم، هذا ما حدث… لقد كان علاجًا…”
عندها، ابتسم سيزار ابتسامة مشرقة.
“نعم، كنت أعالجك.”
حقًا، كنت على وشك الموت، وأميرنا الذكي أنقذني بذلك التصرف. مثلما لا يمكن تجنب التلامس الجسدي عند فحص الطبيب للمريض، كان الأمر مماثلًا هنا. حاولت أن أفهم وأقنع نفسي بذلك بشتى الطرق.
في تلك اللحظة، شعرت بلمسة ناعمة على خدي، كانت شفاهه المعتادة، تلك القبلة اليومية، لكنها بدت مختلفة هذه المرة، جعلتني أتوتر على غير العادة.
لكن الحقيقة أن وجوده قربي يجعلني أشعر بالطمأنينة. أغمضت عينيّ واستنشقت نفسًا عميقًا. حينما فكرت في مرسيدس وجيوفينيتا، بدأت سُحب القلق الداكنة في صدري تتبدد، وأحسست بالراحة.
“شكرًا لك، سيزار.”
“مم.”
“لأنك أنقذتني.”
تذكرت أنه لا ينبغي أن أظل حبيسة الخجل، فهو من أنقذني بعد كل شيء. عندها، اقترب سيزار مني وقال:
“وأنا أيضًا…”
لقد أصبح ماهرًا في التعبير عن رغباته. تلك الطريقة البريئة التي يمد بها خده نحوي، لا يمكن تجاهل نظراته الممتلئة بالشوق. شعرت بعطش شديد وكأن حلقي جاف تمامًا. مجرد قبلة على الخد، لا تستحق كل هذا التوتر، إنها أمر معتاد بيننا.
ومع ذلك، توترت عضلاتي رغماً عني. فقبلته برقة على خده الأيسر، ثم على الأيمن، فصدر صوت خافت من التلامس.
ابتسم سيزار بفرح. وحين رأيت ابتسامته تلك، شعرت بخدر خفيف في أطرافي، كأن كيس ماء دافئ وُضع فوق يدين متجمدتين في عز الشتاء.
في حضنه الدافئ، سرحت طويلًا في التفكير. كيف يمكنني حل كل هذه المشاكل؟
وبعد وقت قصير، خطرت لي فكرة رائعة.
“يبدو أن علينا تدبير خطة ما.”
“خطة؟”
“نعم، مفاجأة للجميع! ما رأيك؟”
“أحب المفاجآت!”
تبادلنا النظرات وابتسمنا بمكر. داعبت شعر سيزار وضحكت.
****************
تم العثور على جثة إيلدا بعد ثلاثة أيام من سقوط وليّة العهد إيرينيا في البركة بطريق الخطأ.
عُثر عليها وهي تنزف من فمها دون سبب واضح، وإلى جوارها عشرات من العملات الفضية، لكن حين وصل قائد الحرس، كانت الحشود قد التقطت كل شيء، ولم يتبقَ شيء.
حين تقع وفاة غامضة في القصر، يُجرى تحقيق. لكن إيلدا كانت خادمة بلا أصل ولا سند، فلم تُجرَ أي تحقيقات.
نُقلت جثتها فجرًا على عربة مليئة بالفضلات وأُلقيت خارج أسوار القصر. ولكن عملة فضية من روزينتاريا كانت مشدودة في يدها بقوة، حتى أن عدة رجال لم يتمكنوا من انتزاعها، فتركوها. وما إن أُلقيت الجثة خارج القصر، حتى مر شحاذ فقطع إصبعها وأخذ العملة.
تم تسجيل سبب وفاة إيلدا رسميًا على أنه “لعنة”، وانتهى الأمر بذلك.
أما إيرينيا، فقد مضى أسبوع منذ وقوع الحادثة، ولم تذق طعامًا أو شرابًا، ولم تغادر غرفتها.
تداول الجميع في القصر قصصًا عنها، وأجمعوا على قول واحد: “هذه لعنة.”
“لقد تحققت اللعنة في النهاية.”
“كنا نظن أن وليّة العهد تنتمي لدماء ساحر عظيم وأنها ستحمي نفسها… لكن…”
دائمًا ما تُعزى الأمور الغامضة إلى اللعنات. وكل ذلك كان يُنسب إلى الأمير الأول الملعون، ولذلك يستمر الناس في الموت، كما يقولون.
ذهبت جيوفينيتا لزيارة إيرينيا بعد ذلك بفترة قصيرة، بأمر من سيليستينا. لقد شعرت أن عزلة إيرينيا غير طبيعية وأمرتها بالتحقيق.
«أشعر أن جلوس إيرينيا بصمت مريب… اذهبي لتري ما الذي يحدث. قولي إنها زيارة للاطمئنان.»
«إيرينيا ليست من النوع الذي ينهار أمام الأمور كهذه، ستتجاوزها بنفسها.»
«قلتُ لكِ اذهبي، بلا نقاش!»
استشاطت جيوفينيتا غضبًا من الأمر السلطوي، وشعرت بسوء المزاج منذ الصباح، مما جعل خادمتها مارتا تتصرف بحذر طيلة اليوم.
“ولمَ عليّ أن أتحقق إن كانت حية أو ميتة؟!”
“لأنكِ، آنستي، إن فكرتِ بسوء تجاهها… فقد تقع كارثة…”
خشيت مارتا من احتمال أن تكون إيرينيا قد انتحرت، وهو أمر قد يُلحق العار بعائلتها أيضًا.
“أنتِ لا تعرفينها يا مارتا. إيرينيا قوية ولن تنتحر أبدًا.”
عرضت مارتا مجموعة من الملابس الهادئة والمحتشمة، لكن لم يرضَ أي منها جيوفينيتا.
ثم فجأة، نهضت واختارت زيًا معينًا.
“سأرتدي هذا.”
ارتجفت مارتا بمجرد أن رأته، وسارعت برسم إشارة الصليب.
“لكن آنستي، هذا اللباس يخالف التقاليد…”
حين ترددت مارتا، رمقتها جيوفينيتا بنظرة حادة.
“ألم آمرك؟ افعلي ما يُقال لكِ فقط!”
كانت تعلم أن الرفض قد يُكلفها صفعة، فاستجابت بسرعة وخضعت، رغم عدم ارتياحها، وألبستها اللباس وهي تتوجس.
وهكذا، وصلت جيوفينيتا إلى جناح الزمرد الذي تقيم فيه إيرينيا، وكان ذلك قرابة الظهيرة.
ما إن دخلت حتى سخرت في سرّها من حال المكان، فما زال مظلمًا وكئيبًا. حديقة غير مرتبة ولا تنمّ عن إقامة نبيلة.
حين رأتها دلفينا التي التقتها سابقًا، نزلت على عجل لاستقبالها وهي في غاية الارتباك.
“حقًا، ما الأمر الكبير في السقوط في بركة حتى تعتزل الحياة أيامًا؟”
نظرت دلفينا إلى ملابس جيوفينيتا من رأسها حتى أخمص قدميها، ثم انحنت وقالت:
“لكن سمو وليّة العهد…”
“اصعدي وأخبريها أن أختها جاءت، ويجب أن تستقبلني كضيفة الآن.”
“آه، حاضر.”
تراجعت دلفينا مترددةً إلى الوراء لتذهب وتنادي إيرينيا، لكنها لم تعد إلا بعد أن بدأت نفاد صبر جيوفينيتا، لتقول لها بفتور:
“قالت سمو الأميرة إنها لا ترغب بلقاء أحد.”
في تلك اللحظة، شعرت جيوفينيتا بالإهانة، وكأنها تُقابل بالتجاهل، مما أثار في نفسها امتعاضًا، لكنها حين تأملت الموقف قليلاً، خامرها شعور بالريبة، فإيرينيا لم تكن لتتصرف على هذا النحو.
“هي ليست من النوع الذي يرضى بالبقاء هادئة هكذا، أليس كذلك؟”
تلك الفتاة العنيدة التي لا تقبل الهزيمة بسهولة! عندها أضافت مارتا، الواقفة بجانبها، بهدوء:
“ربما لأنها مرت بتجربة كادت تودي بحياتها؟ كما قيل، إنها كادت أن تغرق في البركة.”
“لعلّك محقة…”
فكّرت جيوفينيتا في الأمر، ووجدت أن لمارتا وجهة نظر معقولة. فإيرينيا ليست ممن يمكنهم الاعتماد على أحد، وقد جاءت إلى القصر الإمبراطوري بمفردها دون سند. ربما لهذا رقّ قلبها ووهنت عزيمتها.
بل إن رؤيتها على هذا الحال البائس والذليل أضفى على جيوفينيتا نوعًا من الرضا، وإن أخفته خلف قناع من الجدية، ثم خاطبت دلفينا بلهجة تنمّ عن اللوم:
“حتى وإن كان ما بها كثير، أليس من العيب أن تتجاهل زيارة أختها الكبرى من بيت أهلها؟ لا يمكنني أن أعود وكأن شيئًا لم يكن. والدتنا كانت قلقة عليها كثيرًا، فلا بد أن أراها قبل أن أغادر.”
وبإصرارها الشديد، لم تجد دلفينا بُدًّا من الرضوخ، فقادتهم إلى غرفة النوم.
طرقت جيوفينيتا باب غرفة الأميرة بنفسها، لكن لم يأتِ من الداخل أي رد.
التعليقات لهذا الفصل " 54"